|
|
مزامير الماء / رواية / الفصل الثاني
ذياب فهد الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 16:38
المحور:
الادب والفن
الفصل الثاني
في القَرْيَةِ رِوايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عن هَيّال سَعْدون العَرَباوي، بَعْضُها مُبالَغٌ فيه، وبَعْضُها تَكَوَّنَ كَسَرْدٍ تَتَزايَدُ صَفَحاتُهُ بتوارُثِهِ عَبْرَ سَبْعَةِ أَجْيالٍ. فَكَّرَ جَوادُ بنُ الشَّيخِ عَبْدِ السَّلامِ بأنْ يَجْمَعَ هذا التُّراثَ ويُراجِعَهُ مع أَبيهِ وعَدَدٍ من شُيوخِ قَرْيَةِ البُوهيّال، وكانَ في السَّنَةِ الدِّراسِيَّةِ الأَخيرةِ من دِراسَتِهِ الثَّانَوِيَّةِ. ومِمّا شَجَّعَهُ على ذلك نَجاحُهُ في نَشْرِ بَعْضِ القِصَصِ القَصيرَةِ في مَجَلاّتٍ أَدَبِيَّةٍ تَناوَلَها بَعْضُ النُّقّادِ بالدِّراسَةِ، وعُمُوماً كانت تِلْكَ الدِّراسَاتُ مُشَجِّعَةً. ولكِنَّهُ وَجَدَ أنَّ مَوْضوعَ جَمْعِ تِلْكَ الرِّوايَاتِ ودِراسَتِها كَبيرٌ، ويَحْتاجُ إلى جُهودٍ لا يُمْكِنُهُ تَوْفيرُها، سِيّما وهو يُفَكِّرُ بالتَّفَوُّقِ لِلحُصولِ على بَعْثَةٍ إلى إنْكلترا. وهكذا تَرَكَ المَوْضوعَ. في بَيْتِ عَمِّهِ عَبْدِ الكَريمِ كانَ الجَميعُ يُقَدِّمونَ له العَوْنَ، وقد تَوَلَّتِ ابْنَةُ عَمِّهِ الصُّغْرى الِاهْتِمامَ بِغُرْفَتِهِ في أَعْلى الدَّرَجِ المُفْضي إلى السَّطْحِ، وكانت زَوْجَةُ عَمِّهِ تَتَوَلّى إِعْدادَ الطَّعامِ سائِلَةً إيّاهُ عَمّا يُحِبُّ قبلَ أنْ يَتَوَجَّهَ إلى المَدْرَسَةِ. وقد دَفَعَهُ هذا التَّصَرُّفُ إلى أنْ يُفَكِّرَ، وهو يَغْسِلُ وَجْهَهُ ويَتَطَلَّعُ في مِرْآةِ المَغْسَلَةِ، بِتَحْضيرِ الجَوابِ المُناسِبِ. تَجْمَعُ الرِّوايَاتُ على أنَّ هَيّالَ بنَ سَعْدونَ بنِ عَلِيٍّ بنِ عَرَباويٍّ كانَ الابْنَ الوَحيدَ لِوالِدَيْهِ اللَّذَيْنِ تَرَكاهُ مُبَكِّراً. كانَ طَويلَ القامَةِ، هادِئَ الطَّبْعِ، يَمْلِكُ خِبْرَةً في زِراعَةِ الحَمْضِيّاتِ، مَعَهُ دائِماً هيَ الأَكْثَرُ إِنْتاجاً. وخِلالَ فَتْرَةٍ وَجيزَةٍ كانَ يَمْلِكُ عِدَّةَ بَساتينَ في الطَّهْمازِيَّةِ، ولكِنَّ ضَعْفَ الحُكْمِ العثُّمانيِّ وَاسْتِمْرارَ تَزايُدِ الضَّرائِبِ وجِباياتِ شُيوخِ القَبائِلِ في المِنْطَقَةِ جَعَلَ أَرْباحَهُ تَتآكَلُ. ولكِنَّهُ لَمْ يُفَكِّرْ لا بِتَرْكِ الزِّراعَةِ ولا بِالهِجْرَةِ. كانَ أَوْلادُهُ السَّبْعَةُ يُعاوِنونَهُ في البَساتينِ وفي التَّسويقِ، أَمّا بَناتُهُ الثَّلاثُ وزَوْجَتاهُ فَقَدْ كانوا يَهْتَمّونَ بِشُؤونِ البَيْتِ الكَبيرِ. في نَهارٍ شِتَويٍّ رائِقٍ عادَ أَبْناؤُهُ من سُوقِ الحِلّةِ على نَحْوٍ يُوحِي بأنَّهُمْ واجَهوا مَصاعِبَ سَيِّئَةً، فَقَدْ أَعْلَنوا أنَّهُمْ اضْطُرّوا إلى تَرْكِ البُرْتُقالِ وبَقيَّةِ البِضاعَةِ وهَرَبوا، لأنَّ الجَنْدرَمةَ العُثمانيّةَ حاصَرَتِ السُّوقَ وبَدَأَتْ تَجْمَعُ الشَّبابَ لأَخْذِهِم لِخِدْمَةِ السُّخْرَةِ في الجَيْشِ العُثمانيِّ الذي يُحارِبُ في أُورُبّا، ومِنَ المَعروفِ أنَّهُ لا أَحَدَ يَعودُ ثانِيَةً. وفي المَساءِ أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ الحِسْناويُّ أنَّ الطَّهْمازِيَّةَ سَتُحاصَرُ ابْتِداءً مِنَ الصَّباحِ الباكِرِ لِحاجَةِ الجَيْشِ العُثمانيِّ إلى عُمّالٍ يَحْفِرونَ الخَنادِقَ ويُقيمونَ في بُلغاريا السواترالترابية ولا يتقاضون اجرا عدا الحد الأدنى من الطعام قال هيّالُ لزوجتهِ بدرية وهي أمٌّ لخمسةِ أولادٍ وبنتٍ واحد -اجمعي كلَّ ما لدينا من ذهبٍ ونقودٍ، وضعيه في صُرَّةٍ، واربطيها إلى وسطِك تحت الثوب، على أن تضعي العباءةَ الصوفَ وتحزميها. كانت بدريةُ تقومُ بقليِ الباذنجانِ ، فالتفتت إليه قائلةً بدهشةٍ: -خيرٌ إن شاء الله قال خيرٌ... سنغادرُ بعدَ منتصفِ الليل- ثم التفتَ إلى حميدة زوجتِه الثانية وقال عليكِ أن تُجهّزي بعضَ المؤونةِ للطريق. - سألته حميدة ؟-هل هي سَفْرَةٌ؟ ومتى نعود أجابها هيّال: -هي سَفْرَةٌ طويلة، ولكن لن نعود نهضت من فوقِ البساطِ الملوَّن، ونظرت إليه بثقةٍ وقالت: - لن أذهبَ معكم... سأعودُ إلى أهلي قال بهدوءٍ: لا بأس، فالوقتُ لا يسمحُ بالنقاش. قالت بإصرارٍ: -أولادي سيبقونَ معي لم يُجِبْها، لكنه تطلّعَ نحوهم متسائلًا، فقالوا بصوتٍ واحدٍ تقريبًا: -سنذهبُ مع أبينا. شعرت بالإحباط، لكنها لم تطلبْ منهم مراجعةَ قرارِهم. قال هيّال لأولاده -سنغادرُ إلى منطقةِ الأهوار... هناك أرضٌ يمكن استغلالُها، ولا تتعرّضُ لها الجندرمةُ العثمانية. هناك ستكون عشيرتُنا القادمة. الأمرُ يحتاجُ إلى الصبرِ والجهدِ والكثيرِ من القوّة قال حمزة، وهو الابنُ الأكبر: -نحن معك يا أبي. فأومأ الآخرونَ بالموافقة. قال هيّال -على بركةِ الله... حمزة، خُذْ اثنينَ من إخوتِك وجهّزوا الزورق. سنتوجّهُ إلى سَدّةِ الهندية، ومنها إلى الفراتِ باتجاهِ الأهوار ثم قال لحميدة -ستُعطيكِ بدريةُ ثلاثَ ليراتٍ ذهبٍ وعشرينَ قرشًا، ويمكنكِ أن تبقي في الدار. سألته: -والبساتين قال "سأرتّبُ موضوعَها مع عبدِ الرزّاق.- قالت معترضةً: -لا أعتقدُه موثوقًا، فأنا أعرفُه، إنّه من عشيرتي. لماذا لا أكونُ أنا المعنيّةَ بها؟ قال بصرامةٍ: الموضوعُ أكبرُ من قدراتِك.- تركَ هيّال عائلتَه وتوجّهَ إلى بيتِ عبدِ الرزّاق. قال له ابنُ عبدِ الرزّاق: -أبي في مضيفِ الشيخ عبدِ الحسن... هل الموضوعُ مهمٌّ لأستدعيه؟ أجابه هيّال -نعم، مهمٌّ، وسآتي معك كانَ عبدُ الرزّاقِ مُستغرِبًا، فالعادَةُ أنْ يَدخُلَ هَيّالُ المَضيفَ لِيُسلِّمَ على الحاضِرين. كما بدا قَلِقًا لأنَّه لم يَحدُثْ أنِ استَدعاهُ هَيّالٌ في مثلِ هذا الوقتِ. قال عبدُ الرزّاق: ـ خَيرٌ إنْ شاءَ الله؟ فأجابَه هَيّال: ـ كلُّ خيرٍ... هل تُرغِبُ أنْ نَتَحدّثَ في بَيتِكَ أم في بَيتي؟ ـ لا فَرقَ، ولكن بَيتُنا الأقرب. حينَ استقرَّ بِهِما المَقامُ في الغُرفةِ المُعَدّةِ للضيوف، وقبلَ أنْ يَطلُبَ عبدُ الرزّاقِ القهوةَ، قالَ هَيّال ـ أنا عَجلٌ جدًّا، وسأدخُلُ في الموضوعِ مُباشَرةً... لقد فَكّرتُ في الخَبَرِ الذي قُلتَه لي، ووجَدتُ أنَّه من الضّروريِّ مُغادَرةُ الطهمازية، فلا أنا ولا أولادي نَقبَلُ أن نكونَ عُمالَ سُخرةٍ في بلادٍ لا نَعرِفُها، ونَتركَ نِسَاءَنا وحدَهُنّ، ولهذا سأُغادِرُ اللّيلةَ. قال عبدُ الرزّاق: ـ حسنًا، وهذا صحيحٌ، ولكن إلى أين؟ ـ إلى الأهوار، عندَ عَشائرِ نَصرِ السُّوّاري. ـ وأينَ تَقَعُ هذه؟ ـ في مَنطِقةِ هَورِ الحَمّار، من جِهةِ (عَكد الهوى). ـ لم أفهَم. ـ ليس مُهمًّا... ولكن المَنطِقةَ تَتبعُ إمارةَ المُتَفَكِّ، ويَقودُها ناصرُ بنُ راشد باشا السَّعدون. ـ وكيفَ ستَصِلُ إلى هناك؟ ـ بالزَّورق........ ما جِئتُ من أجلِه هو وَضعُ بَساتيني الثّلاث؛ فأنا أُرغِبُ في بَيعِها، لأنّي سَأحتاجُ إلى بَعضِ المالِ مَعي، وقد قَرّرتُ ألّا أعودَ. ـ تَعلَمُ أني لا أملِكُ ثَمنَها، وليس من السَّهلِ الحصولُ على نَقدٍ اللّيلةَ. ـ فَكّرتُ في هذا... يُمكن أن تُعطيني ما هو مُتوفِّرٌ لديك، والباقي على التَّساهيل،. عَدّلَ عبدُ الرزّاقِ وَضعَ عِقالِه الذي تَحرَّكَ نحوَ اليَسار، وقال ـ علينا تَحديدُ السِّعر. ـ أنتَ تَعرِفُ جيّدًا قِيمةَ بَساتيني، كما أنّي دفَعتُ الضَّرائبَ عن العامِ الماضي. ـ هل نَقولُ إنَّ كُلًّا مِنها بخَمسينَ ليرةً رَشاديّة؟ ـ لا مانِع، مع أنّ ثَمنَها أعلَى من ذلك... ولكن للضَّرورةِ أحكامٌ. استَأذَنَ عبدُ الرزّاق وخرَجَ ليُحضِرَ ما لديه. كانَ يَشعُرُ بهِزّةِ فَرحٍ، فقد حصَلَ على أفضَلِ بَساتينِ الطَّهمازيّة، ويَعلَمُ اللهُ إنْ كانَ سَيَدفَعُ المُتبقّي طَلَبَ من زَوجتِه أن تَجلِبَ له الصُّندوقَ الحديديَّ. في الصُّندوقِ كانت خمسٌ وعشرونَ ليرةً ذهبيَّةً، وقروشٌ لم يَحصِها، وعددٌ من البارات. قالت زوجتُه: ـ كم ستُعطيه؟ قال: ـ خمسَ عشرةَ ليرةً. قالت: ـ سيَقبلُ بعشرِ ليراتٍ، لأنَّه مُستعجِل.. قال عبدُ الرزَّاق: ـ المَعذِرة، لم أجدْ غيرَ عشرِ ليراتٍ وبعضِ القروش. ـ لا بأس. قالها هَيَّالٌ على مَضَضٍ، ثمَّ أضاف ـ ولكنَّ المُتبقِّي بذمَّتِك. قال عبدُ الرزَّاق: ـ طبعًا، واللهُ شاهِدٌ على ذلك. حينَ استقرَّ كلُّ شيءٍ في القارب، شَعَرَ هَيَّالٌ أنَّه مثلُ السِّندبادِ الذي كان ملا صافي يقرأُ قِصصَه في رمضانَ الفائت، يُرحَلُ إلى أرضٍ مجهولةٍ تتنازعُه رغبةٌ في البقاءِ، وتدفعُه ضرورةٌ قاسيةٌ إلى المغادرة. مع الضَّرباتِ الأولى للمجاديف، شَعَرَ بأنَّه يَمتلكُ زِمامَ مصيرِه، وأنَّه سيَبني حياةً جديدةً وفقَ ما يَحلُمُ به. سيُنشِئُ عشيرتَه، ويَفرِضُ نظامًا لأبنائِه؛ لن تكونَ المَشيخةُ العشائريَّةُ بالوراثة، بل لأكبرِ الموجودين، كما سيكونُ ما يُباعُ من المحصولِ لكافَّةِ أفرادِ العشيرةِ بالتَّساوي. أعجَبَه تصوُّرُه عن المستقبل، فأغمَضَ عينيه مُستقبِلًا نَدَاوَةَ المطرِ الذي بدأ غيثًا مُتقطِّعًا. كان اللَّيلُ يمتدُّ أمامَهم كبحرٍ من ظلالٍ لا شاطئَ له، ولا ضوءَ في آخرِه. كان هيَّالٌ يُمسِكُ بيدِ زوجتِه، بينما أربعةٌ من أبنائِه على جانبيِ القاربِ يُمسِكونَ بالأشرِعة، والآخرونَ والبناتُ يتكوَّرونَ في قاعِ القارب. كان شطُّ الحِلَّةِ يجري رائقًا تحتَ سماءٍ حجبتها السُّحُب، والريحُ الرَّطبةُ تحملُ رائحةَ البارودِ والرَّماد، كأنَّها تُذكِّرُه بكلِّ ما خسِرَه لتوِّه. لم يتحدَّث أحدٌ؛ كان الصَّمتُ أثقلَ من الكلام، والخوفُ أبلغَ من أيِّ كلمةٍ. كانت عيناهُ تلتفتانِ إلى الخلفِ كأنَّ شيئًا ما هناك لا يريدُ أن يتركَه، ربَّما بيتُهم القديمُ، أو أشجارُ البرتقالِ التي كانوا يجلسون تحتها. شَعَرَ أنَّ ضحكاتِهم ما تزالُ تتردَّدُ في أُذنِه كصدىً بعيدٍ. قالت زوجتُه بصوتٍ خافتٍ: ـ إلى أين سنذهب؟ لم يُجِبْ، شدَّ على يدِها قليلًا، كأنَّما يقولُ لها: إنَّ النَّجاةَ وحدَها كافيةٌ الآن، وإنَّ السُّؤالَ مؤجَّلٌ حتَّى إشعارٍ آخر. كان قلبُه يضطربُ في صدرِه، ينبضُ كطائرٍ مَذعورٍ في قَفَصٍ ضيِّقٍ. لم يَدرِ أكان يَهرُبُ نحوَ الأمانِ أم نحوَ ضياعٍ آخر، كلُّ ما يعرفُه أنَّه لم يَعُدْ يملِكُ رَفاهيَةَ البقاء. كلُّ شيءٍ خلفَه احترق، وكلُّ ما أمامَه غامضٌ ومجهولٌ. حينَ اقتربَ الفجرُ، طلبَ رَصْفَ القاربِ إلى الجُرْفِ عند بُستانٍ يطُلُّ بلا سياجٍ على الشَّطِّ الذي كانت موجاتُه المتسارعةُ تضربُ الشاطئ. نظرَ إلى الأفقِ؛ كانت الأرضُ التي تركَها تذوبُ خلفَ الضبابِ ودفقاتِ مطرٍ خفيفٍ، ومعَها ملامحُ حياتِه القديمة تعاوده بين حين واخر. شَعَرَ أنَّ شيئًا في داخله يَنكسِرُ بصمتٍ لا يسمعُه أحدٌ، تنفَّسَ بعمقٍ، كمن يُحاولُ إقناعَ نفسِه أنَّ المضيَّ قُدمًا نوعٌ آخرُ من الشجاعة. كانت مشاعرُه تتقاسمُها نوباتُ قلقٍ مُؤرِّقٍ وشحناتُ توتّرٍ تمنعُه من الإغفاء. قال: ـ سيكونُ نهارُنا للنومِ، وليلُنا للعمل، ففي مثلِ هذا الجوِّ تتوقّفُ دوريّاتُ الجندرمةِ ليلًا، وتَنشَطُ في النهار، لخشيتِهم من رجالِ العشائرِ الذين أرهقتْهم الضرائبُ، واختطافُ الشبابِ لأعمالِ السُّخرةِ في بلادٍ لا يعرفونَ حتى أسماءَها. حينَ كانوا يتوقّفونَ في جُرُفِ الشطِّ عندَ أحدِ البساتين، لم يكنْ أحدٌ يَنهرُهم؛ بل كانوا يُقدِّمونَ لهم ضيافةً تُدهشُهم. . . استدارَ الزَّورقُ نحوَ الفُراتِ، تاركًا شطَّ الحِلَّة، وعليه أن يُحكِمَ تفكيرَه في معالجةِ ما قد يَستجدُّ من مصاعبَ قبلَ أن يَصلَ إلى الأهوار. شعَرَ بأنَّه تَحرَّرَ من مشاعِرِه نحوَ الطهمازيَّة التي أصبحتْ خلفَه، وتملَّكَه شعورٌ براحةٍ عميقةٍ. هو الآن يحملُ روحَ التحدّي والمغامرةِ مثلَ السِّندبادِ تمامًا. في اليومِ الرابعِ، كان في مِسْطحٍ مائيٍّ لا حدودَ له، ليس فيه غيرُ القَصَبِ والبَرْدي، وطيورٌ تتعاقبُ في الطيرانِ فوقَ الماءِ أو تهبِطُ لتستريحَ وتلتقِطَ بعضَ صِغارِ السَّمكِ التي تتحرَّكُ كموجةٍ رماديَّةٍ تحتَ الماءِ الرَّقراق، في سكونٍ عميقٍ يتكاثف في رِحابِه. مسألةٌ لم يُفكِّرْ بها هيَّال... وهي عمقُ الماءِ بالقربِ من ضِفافِ الهورِ، وعدمُ القُدرةِ على التحرّكِ دونَ عصًا طويلةٍ تُغْرَسُ في الماءِ وتدفعُ الزَّورقَ إلى الأمام، وتُسمَّى عندَهم (المِرْدي). قال ابنُه حمزةُ: ـ سأستعملُ المِجْدافَ، وطولُه يكفي مع جهدٍ بسيطٍ. بقيتْ مُعضِلةٌ أُخرى، ، وهي أنَّ عمقَ الماءِ لا يسمحُ بأن يظلَّ الزورقُ طافيًا بما فيه من حمولةٍ، سيَّما وهم لا يُغامرونَ بالدخولِ إلى مناطقَ عميقةٍ خوفًا من أن يَتيهوا في هذه المساحةِ الشاسعة. -توقّفوا... قال هيَّال ـ يجبُ أن ننتظرَ أحدًا، ربَّما يمرُّ بالصدفةِ لنسأله. قالت بَدريَّةُ ـ عن ماذا؟ هل لَكَ مكانٌ مُحدَّد؟ قال: ـ نعم، أنا أقصِدُ مَسْكنَ البو شامة. لم يُعلِّقْ أحدٌ من عائلته، فهم لم يسمعوا بهذا الاسمِ من قبلُ. ومن بعيدٍ لاحَ زورقٌ عليه رجلٌ بجَلابيَّةٍ زرقاء. كان طويلَ القامةِ، نَحيلًا، ولكنَّه نشِطٌ، يدفعُ المِرْدي بقوَّةٍ فينزلقُ القاربُ على سطحِ الماءِ برشاقةٍ. قال الرَّجلُ: ـ السَّلامُ عليكم. قال هيَّال: ـ وعليكم السَّلام. سأل الرَّجلُ: ـ هل الجماعةُ تائهين؟ قال هيَّال: ـ نعم، فإنَّنا لا نعرفُ أين نتَّجه. قال الرَّجلُ: ـ وإلى أين تتَّجهون؟ قال هيَّال: ـ نرغبُ أن نستقرَّ بالقربِ من البو شامة. قال الرَّجلُ: ـ ولكن ما بينكم وبينَ البو شامة مسيرةُ نهارٍ كاملٍ! هل أنتُم من العشيرةِ؟ قال هيَّال: ـ لا، ولكنَّنا نفكِّرُ أن نسكنَ بالقربِ منهم. قال الرَّجلُ: ـ ولماذا ليس مع بني شميس؟ قال هيَّال: ـ وأين يسكنون؟ قال الرَّجلُ قَريبًا، وأنا مِنهُم، وحَولَنا أراضٍ بُورٌ واسعةٌ تَملِكُها إِمارةُ السَّعدون... ولكِنِ اطمَئِنّوا، فَهُم لا يَحضُرون أبدًا، وعادةً ما يَحضُر مُلتَزِمُ الضَّرائبِ مع ثُلَّةٍ مِنَ الجَندرمة، وقد رَتَّبنا أمرَنا معه بدَفعِ مَبلَغٍ نَتَّفِقُ عليه، ويكونُ عادةً أقلَّ مِن رُبعِ الضَّريبةِ الرَّسمية. تَعلَم أنَّ الضَّريبةَ كَبيرةٌ بحيثُ لا تَترُكُ لنا شَيئًا. في مَضيفِ الشَّيخِ مُجبل آل شُميس، شَعَرَ بِشيءٍ مِنَ الأمان، فَقَد كانَ الرَّجلُ الجالِسُ في صَدرِ المَضيفِ يَحمِلُ وَجهًا بَشوشًا سَمحًا، تُحرِّكُ أَصابِعُهُ حَبّاتِ مِسبَحَةٍ سَوداءَ عليها نُقوشٌ مِنَ الفِضَّة. كانَ يَجلِسُ على بِساطٍ فوقَ حَصيرةٍ مِنَ القَصَب، يَتلفَّعُ بِعَباءةٍ بُنيَّةٍ مُذهَّبةِ الحَواشي. في المَضيفِ كانَ بَضعَةُ رِجالٍ أَنهَوا لتَوِّهم شُربَ فَناجينِ القَهوة، فَقَد كانت ما تزالُ بأيديهم. ياهلًا بالضَّيف! -وبِالمُهلِّي -فَهِمتُ مِن عبدِ الرِّضا أنَّكَ تَنوي السَّكنَ في أراضينا. -نَعم، طويلَ العُمر. -ولكنَّ الحياةَ هُنا مُختلِفة... أنتَ ستكونُ بِحِمايَتِنا، وهذا يَترتَّبُ عليه أن تُؤدِّي «الوِدي» مَعنا، وأن تُقاتِلَ أنتَ وأولادُكَ مَعنا. -أَعرِفُ هذا، طويلَ العُمر. -على بَركةِ الله. أَردَفَ الشَّيخُ مُجبل: -سَيَقومُ حَسَنٌ بِتَحديدِ الأَرض، وعليكَ أن تَحفِرَ حَولَها، بَعدَها سَنُساعِدُ في بِنَاءِ مَساكِنَ لِلعائِلة. قالَ هيّال: -الحَمدُ لله، وشُكري ودُعائي لَكم بالمُوفَّقية... سَأحفِرُ مَعَ أَبنائي حَولَها، أَمّا البِناءُ فَسَأتَدَبَّرُهُ أنا والعائِلة، وأُكرِّرُ شُكري لَكم، طَويلَ العُمر. كانتِ السَّماءُ صَحوًا تَزدَحِمُ فيها نُجومٌ لَم يُشاهِدها مِن قبل، وعلى امتِدادِ الأُفقِ أمامَه لَم يَكُن غيرَ الماءِ وغاباتٍ مِنَ البَردي تَتمايَلُ بِرِفقٍ مَعَ ريحٍ باردةٍ خَفيفةٍ، فيما يَنعكِسُ ضوءُ القمرِ الفِضِّيُّ على صَفحةِ الماء. بينَ آنٍ وآخَرَ كانَ يَنطَلِقُ خُوارٌ مُنفَرِدٌ لِجاموسةٍ ربّما ضَلَّت طَريقَها. ساعَدَهُ عبدُ الرِّضا وأبناؤُهُ في تَفريغِ القارِبِ الّذي رَبَطَهُ إلى وَتَدٍ خَشَبيٍّ. تَوَقَّفَ الغَيثُ، ولكنَّ الأَرضَ كانت مُشبَعةً بِرُطوبةٍ تَنِزُّ. وَضَعَ الحُصْرانِ على الأَرضِ طَبقتَين، ثُمَّ سِجادةً قَديمةً، وبعدَها بِساطًا صُوفيًّا. في الصَّباحِ كانتِ الشَّمسُ تُضيءُ الكَونَ بِقَليلٍ مِنَ الدِّفء، وكانَ الجَميعُ نِيامًا فَقَد هَدَّهُمُ العَمَلُ طَوالَ النَّهارِ بِتَحريكِ الزورق. لَم تَكُنِ الأَيّامُ الأُولى سَهلَةً؛ اشترى التِّبنَ وهيَّأَ الطِّينَ، وفي صَباحٍ رائِقٍ وَضَعَ أَوَّلَ كُتلةٍ مِنَ الطِّينِ في سِياجِ الدّارِ الأُولى. انشغَلَت بَدرِيَّةُ بإعدادِ الفُطور، وحينَ جَلَسوا إلى المائِدةِ أَبدَوا اندِهاشَهُم: البَيضُ المَسلوق، قِطَعٌ مِنَ القَيمَر، وصَحنٌ فيهِ زُبدٌ، وكأسَةُ لَبَنٍ، وخُبزٌ ما يَزالُ حارًّا... كُلُّ ذلك تَكفَّلَت به زَوجةُ عبدِ الرِّضا:
فِي الصَّبَاحِ، يَأْخُذُ المَنْظَرُ نَمُوذَجًا آخَرَ، حَيْثُ عَلَى امْتِدَادِ البَصَرِ يَمْتَزِجُ المَاءُ بِالطِّينِ، وَتَلْتَقِي الأَرْضُ بِالسَّمَاءِ فِي لَوْحَةٍ تَمْلَأُ العَيْنَ، تَمْتَدُّ الأَهْوَارُ كَجَنَّةٍ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ. هُنَاكَ، حَيْثُ يَنْسَابُ الضَّوْءُ عَلَى صَفْحَةِ المَاءِ الهَادِئَةِ، يَعِيشُ النَّاسُ فِي تَنَاغُمٍ عَجِيبٍ مَعَ الطَّبِيعَةِ، كَأَنَّهُمْ جُزْءٌ مِنْ هَذَا السِّحْرِ الأَزَلِيِّ الَّذِي لا يَفْنَى. الأَهْوَارُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَكَانٍ، بَلْ رُوحٌ مِنَ المَاءِ وَالقَصَبِ، وَذَاكِرَةُ وَطَنٍ عَاشِقٍ لِلنَّقَاءِ. وَجَدَ هِيَالٌ نَفْسَهُ مَأْخُوذًا، هُنَا سَيَعِيشُ مَعَ المَاءِ وَالطَّبِيعَةِ، وَفَكَّرَ: حَيْثُمَا يَتَدَفَّقُ المَاءُ تَظَلُّ الحَيَاةُ فِي مَسِيرَةٍ لا تَنْتَهِي.
#ذياب_فهد_الطائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مزامير الماء رواية /الفصل الاول
-
قمري
-
النبوءة السوداء
-
رواية البحث عن بطل للكاتب السعودي خالد سعيد الداموك
-
لماذا هزمنا
-
قراءة في كتاب
-
. الممهدات الاجتماعية والسياسية والفكرية لولادة الحزب- الحزب
...
-
الرجل الذي نظر الى قدميه
-
شيئ قد لايكون حقيقة
-
رؤية مختلطة
-
حالة
-
نص
-
ذكرى ليست قريبة
-
ضوء / رواية
-
الهروب الى الغرق
-
ضوء /رواية .......1992.......الهجرة الى اوربا
-
ضوء / رواية ....التغريب 1984
-
حين ينتفض النهر
-
من الصحافة اليسارية في العراق /صحيفة العامل
-
في الكتابة عن الصحافة اليسارية
المزيد.....
-
أحدثت بجمالها ثورة جنسية في عالم السينما.. وفاة بريجيت باردو
...
-
عودة هيفاء وهبي للغناء في مصر بحكم قضائي.. والفنانة اللبناني
...
-
الأمثال الشعبية بميزان العصر: لماذا تَخلُد -حكمة الأجداد- وت
...
-
بريجيت باردو .. فرنسا تفقد أيقونة سينمائية متفردة رغم الجدل
...
-
وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو، فماذا نعرف عنها؟
...
-
الجزيرة 360 تفوز بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير بمهرجان في الس
...
-
التعليم فوق الجميع.. خط الدفاع في مواجهة النزاعات وأزمة التم
...
-
-ناشئة الشوق- للشاعر فتح الله.. كلاسيكية الإيقاع وحداثة التع
...
-
وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن 91 عاما
-
وفاة أيقونة السينما الفرنسية.. بريجيت باردو
المزيد.....
-
دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس
/ السيد حافظ
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
المزيد.....
|