أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - الطاهر كردلاس - ​أبجديات السيولة: الإنسان المعاصر بين مطرقة الحرية وسندان الضياع-














المزيد.....

​أبجديات السيولة: الإنسان المعاصر بين مطرقة الحرية وسندان الضياع-


الطاهر كردلاس

الحوار المتمدن-العدد: 8570 - 2025 / 12 / 28 - 21:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"​أبجديات السيولة: الإنسان المعاصر بين مطرقة الحرية وسندان الضياع"

​لقد عكفتُ خلال هذه الأيام على سبر أغوار فكر "زيجمونت باومان"
عالم الاجتماع البولندي
ولا أخفيكم أنني وقفتُ مبهوراً أمام فلسفته الثورية ، التي تعيد قراءة العالم بمنظور مختلف وجذري؛ حيث وجدتُ نفسي مندهشاً من قدرته الفائقة على تفكيك تفاصيل حياتنا اليومية التي نحسبها بديهية. لم يكن باومان مجرد عالم اجتماع، بل كان راداراً فلسفياً التقط ذبذبات التحول العنيف من "الحداثة الصلبة" بوعودها المستقرة، إلى هذه "الحداثة السائلة" التي نغرق فيها اليوم.
​وهذا القلق الذي ينقله باومان ليس معزولاً، بل هو امتداد لصرخات فلسفية كبرى؛ فمنذ أن أعلن فريدريك نيتشه عن تصدع المرجعيات المطلقة، وحذر مارتن هايدغر من اغتراب الإنسان في عصر التقنية، وصولاً إلى تحليلات جيل دولوز وجان بودريار لسيولة الواقع الافتراضي، نجد أننا أمام تيار جارف يقتلع كل ما هو ثابت. وفي عمق فكرنا العربي، نجد أصداءً لهذا الوجع الوجودي عند مفكرين كبار؛ فمن نقد عبد الوهاب المسيري لـ "السيولة العلمانية" التي تُشيّئ الإنسان وتفرغه من قدسيته، إلى دعوة طه عبد الرحمن لاستعادة الصلابة الأخلاقية في وجه "الحداثة المقتلِعة"، تتبدى لنا خطورة العيش في عالم يرفض الاستقرار. إن هذه الدراسة لباومان لم تكن مجرد اطلاع عابر، بل كانت مواجهة حقيقية مع السؤال الأصعب: كيف يمكن للإنسان أن يبني معنىً لوجوده في بيئة ترفض الثبات، وتعتبر التمسك بالجذور نوعاً من العجز، وتُعلي من شأن "الخفة" كمعيار وحيد للنجاة في محيط لا يعرف المرافئ؟
​إن هذا الانزياح الكوني جعل الاستقرار يبدو كأنه عائق أمام الفرد الذي يتعين عليه أن يكون قابلاً للتشكل الدائم؛ فالحياة المعاصرة لم تعد بناءً يُشيّد ليبقى، بل أصبحت "عروضاً مؤقتة" تُقام على رمال متحركة. لقد ذابت الأبنية التي كانت تمنح الفرد شعوراً بالانتماء؛ فالدولة تراجعت عن أدوارها التربوية والاجتماعية، والوظيفة تحولت إلى عقود مؤقتة تفتقر للأمان، حتى الأخلاق والقيم باتت تُستدعى "حسب الطلب" كسلعة ثقافية لا كمرجعية ثابتة. في هذا الفضاء، أصبح الإنسان يعيش حالة "ترحال" مستمر، ليس ترحالاً جغرافياً بالضرورة، بل ترحالاً في الهويات والمواقف والقناعات، حيث القاعدة الذهبية هي ألا تتعلق بشيء لدرجة يصعب معها التخلي عنه.
​وتتجلى هذه السيولة بوضوح في تحول الإنسان من كائن منتج إلى كائن مستهلك بامتياز، حيث لم يعد الاستهلاك نشاطاً لسد الحاجة، بل أصبح وسيلة وحيدة لتعريف الذات في مسرح الحياة الصاخب. إننا في عالم الحداثة السائلة نستهلك الأشياء لا لفوائدها، بل للتخلص من قلق التخلف عن الركب. والخطورة هنا تكمن في أن هذا النمط من العيش حوّل الروابط الإنسانية ذاتها إلى علاقات "قابلة لإعادة التدوير"؛ فالفرد يخشى الالتزام العميق لأنه يراه كـ "فخ" يحد من خياراته المستقبلية. لقد استُبدل "الحب" بـ "الرغبة"، واستُبدلت "الصداقة" بـ "المتابعة"، فأصبحنا نعيش في عزلة مزدحمة، نتواصل مع الجميع لكننا لا نلتحم بأحد، مثل ذرات في سحابة عابرة تلتقي لثانية ثم تمضي في شتاتها.
​هذه الحرية المفرطة تحمل في طياتها وجهاً مظلماً من القلق الوجودي والشعور بالضياع الجميل والمؤلم في آن واحد. فبينما تحرر الفرد من ضغوط التقاليد الصارمة، تركته وحيداً يصارع أمواج التغيير بلا مجاديف، يلهث خلف سراب "الجديد" الذي سرعان ما يذبل. لقد تآكل "المجال العام" ليحل محله "ضجيج فردي" يشتعل في الفضاء الافتراضي كألعاب نارية ثم ينطفئ دون أثر حقيقي. إن الخوف الحقيقي اليوم ليس القمع السياسي، بل هو "النبذ" أو أن تصبح "فائضاً عن الحاجة" في عالم لا يتوقف عن الحركة؛ فنحن نركض ليس طموحاً في الوصول، بل هرباً من أن نكون "نفايات بشرية" في مجتمع لا يقبل إلا الأقوياء القادرين على الجري السريع وسط حطام المعاني.
​في نهاية المطاف، تبدو الحداثة السائلة وكأنها رحلة في بحر بلا خرائط، حيث الحرية التي نلناها ليست مكافأة بقدر ما هي عبء ثقيل يطالبنا بالركض الدائم لتجنب الغرق. إن مأساة الإنسان السائل تكمن في أنه استبدل الروابط المتينة بالاتصالات الهشة، والأمان الجماعي بالقلق الفردي، ليجد نفسه في مواجهة عراء وجودي غير مسبوق تحت شمس الاستهلاك التي لا تغيب. ومع ذلك، فإن إدراكنا لهذه السيولة قد يكون هو الخطوة الأولى نحو استعادة "صلابة" نقدية جديدة؛ صلابة لا تنفي الحركة، بل تمنحها اتجاهاً أخلاقياً يحمي الروح الإنسانية من التلاشي في سوق الاستهلاك الكبير، ويُعيد الاعتبار لمعنى الالتزام والمسؤولية في زمن الانفصال الشامل، لعلنا نجد في خضم هذا الموج العاتي مرساةً تمنحنا حق الهدوء ولو لبرهة وجيزة...

الطاهر كردلاس أكادير المغرب



#الطاهر_كردلاس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات في معنى المحاسبة بالمغرب بقلم الطاهر كردلاس المغرب
- -من احتضار الأحزاب السياسية إلى أفول السياسة نفسها- بقلم الط ...
- قراءة نقدية للمقال: لنتخيل شرقا أوسط بدون إسرائيل للكاتب الط ...
- -لنتخيل شرقا اوسط بدون إسرائيل- بقلم الطاهر كردلاس المغرب
- الفيتو المرآة السوداء بقلم الطاهر كردلاس
- النخب السياسية والفكرية العربية خذلان وتخبط-
- أزمة القيم في المؤسسات التربوية: نحو مساءلة جوهر الفعل الترب ...
- قصة: حين احترق الغرابُ في عشِّ الفينيق المستفيق
- قراءة في- البيان الختامي لقمة العرب- المنعقدة بالقاهرة
- -لماذا خذل العرب القضية الفلسطينية- بقلم الطاهر كردلاس
- حوار أدبي/ علمي مع البرت اينشتاين بقلم الطاهر كردلاس
- قصيدة حارس الغسق الطاهر كردلاس
- استراتيجية ترامب في الشرق الأوسط
- قصة فصيرة بعنوان : المتشائل الطاهر كردلاس اكادير المغرب
- قصيدة: وتر في طيفِ جيتارة شعر: الطاهر كردلاس
- -حيرة الإنسان بين الوجود والعدم في قصة حلم رجل مضحك- للكاتب ...
- صفاقة وجود شعر الطاهر كردلاس اكادير المغرب
- التسول المقنَّع بقلم الطاهر كردلاس اكادير المغرب
- شعر ود وقضية
- تتمة من وحي الذاكرة : فلسطين التي يهزني ذكراها كلما...


المزيد.....




- السودان يتخطى غينيا الاستوائية، وموزمبيق تحقق أول فوز لها عل ...
- صور ومقاطع فيديو على مواقع التواصل تُظهر تأثير المنخفض الجوي ...
- بعد أشهر من الاضطرابات.. كوسوفو تشهد انتخابات برلمانية حاسمة ...
- إيطاليا تكشف شبكة مشتبها بها في تمويل حماس عبر جمعيات خيرية ...
- السودان يتغلب على غينيا الاستوائية ويحقق أول فوز في كأس أمم ...
- -من يفتقد الشرعية لا يملك حق منحها-.. نشطاء ينتقدون اعتراف إ ...
- معاريف: الاعتراف بأرض الصومال يعزز قدرات إسرائيل على مواجهة ...
- إيران 2025: ضربة أميركية تدمر المنشآت النووية وأزمات داخلية ...
- تسلسل زمني لأهم أحداث الساحل السوري في 2025
- تايم: تراجع حاد في شعبية ترامب وهذه هي الأسباب


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - الطاهر كردلاس - ​أبجديات السيولة: الإنسان المعاصر بين مطرقة الحرية وسندان الضياع-