عبد علي سفيح
باحث اكاديمي
الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 00:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حين تتحوّل «الازدواجية» إلى عذر جاهز
اعتاد الخطاب العراقي، كلما واجه تناقضاً في السلوك أو تعثّراً في السياسة، أن يستدعي عبارة واحدة «ازدواجية الشخصية العراقية». ومع كثرة الترديد، لم تعد هذه العبارة أداة لفهم الواقع، بل أصبحت عذراً جاهزاً يختصر المشكلات ويغلق باب السؤال. فما إن تُقال الازدواجية، حتى يُعلَّق الفشل على «الطبع»، ويُعفى التاريخ والسياسة والبنية من المساءلة.
هذه الطريقة في التفكير ليست بريئة. فهي تشبه ما عاشه العقل البشري طويلاً حين آمن بأن الأجسام الثقيلة تسقط أسرع من الخفيفة. كانت العبارة مقنعة، حتى جاء غاليليو ليكشف أن الخطأ لم يكن في الأجسام، بل في الهواء الذي لم يكن مرئياً. لم يُسقط غاليليو نظرية فيزيائية فحسب، بل أسقط جملة لغوية قيّدت التفكير قروناً.
اليوم، تقوم «الازدواجية» بالدور نفسه. نرى تناقضات المجتمع، فنفسّرها كخلل في الشخصية، لا كاستجابة تاريخية لوسط معقّد. بينما يقدّم تفسيرٌ أعمق، ينطلق من الماء بوصفه محدِّداً تاريخياً للسلوك العراقي، فمجتمع نشأ بين فيض وجفاف، وبين استقرار هش وتهديد دائم، لا يمكن أن ينتج سلوكاً خطّياً أو ثابتاً. ما يبدو ازدواجية، هو في جوهره تكيّف مع بيئة لا تعرف اليقين.
خطورة هذا التفسير اللغوي السائد أنه يحوّل الأزمة من السياسة إلى الأخلاق، ومن النظام إلى الفرد، ويُقنع الناس بأن ما يعانونه قدر لا يُغيَّر. وهنا تتحوّل اللغة من أداة وعي إلى أداة تعطيل. فالبلدان لا تُشلّ بعجز شعوبها، بل بعجز المفردات التي تفسّر واقعها.
ليست المشكلة في الشخصية العراقية، بل في اللغة التي نصفها بها. وربما لا يحتاج العراق إلى توصيف جديد بقدر ما يحتاج إلى شجاعة معرفية لإسقاط العبارات التي تفسّر كل شيء، لأنها في الحقيقة تمنعنا من فهم أي شيء.
#عبد_علي_سفيح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟