عبد علي سفيح
باحث اكاديمي
الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 18:13
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
شارع المتنبي...طقوس جماعية للبحث عن المعنى
تكتب بغداد سيرتها كل جمعة بالحبر والورق، حيث يتحول شارع المتنبي إلى معبد مفتوح للكلمة.
في قلب بغداد، حيث يتكاثر غبار التاريخ على حجارة الأرصفة القديمة، ينبض شارع المتنبي كأيقونة ثقافية لا يشيخ حضورها. الصورة التي نراها من زحام الناس في شارع المتنبي، ليست مجرد سوق لبيع الكتب، بل مشهد جماعي أشبه بالطقس؛ جموع من الناس تتدفق على الشارع كل جمعة، يحملهم شغف دفين، ويدفعون عطش لا يرويه سوى كتاب، كأنما الكتاب هنا ليس سلعة، بل ماء للحياة.
تلمح الوجوه المنحنية نحو العناوين، والانامل التي تقلب الصفحات بعناية، فتدرك أن الأمر أبعد من مجرد شراء وبيع؛ هو طقس من طقوس الانتماء، حيث يبحث العراقي عن ذاته في الكلمات، وعن خلاصه في اللغة.
أن شارع المتنبي ليس مكانا وحسب، بل حالة جماعية تتجاوز حدود السوق. إنه مسرح مفتوح تمارس فيه المعرفة طقوسها، حيث يتحول فعل القراءة وهو فعل فردي بطبيعته، إلى ممارسة علنية يشارك فيها الجميع. في كل زاوية كتاب مطوي وكأنه مخطوطة مقدسة، وفي كل يد قاريء عابر يتقمص دور الراهب في دير من الورق.
في بلد مثقل بالحروب والانكسارات، يصبح هذا الشارع شاهدا على مقاومة النسيان، وعلى قدرة الثقافة أن تظل خيطا رفيعا يوصل الناس بالحياة. إن ازدحام الأرصفة بالكتب والوجوه المتعطشة يعكس أن العراقي ما زال يرى في المعرفة ملاذا، وفي الكتاب وعدا مؤجلا بمستقبل أفضل.
هنا، تتحول بغداد من مدينة جراحها مفتوحة إلى مدينة تحمل قلبا نابضا بالكتب. وكأن شارع المتنبي يعلن كل جمعة، إن الكتاب هو طقس من الطقوس الذي مازال يجمع العراقيين، طقس لا يؤدي في المعابدة ولا في المساجد، حيث الكلمة هي الإيمان الوحيد الذي لا يخون.
يبقى شارع المتنبي شاهدا على أن العراقي، مهما ضاقت به الحياة، لا يتخلى عن لغته ولا عن الكتاب الذي يربطه بجذور بعيدة وعميقة ويمده بأمل قريب كل جمعة هناك، تكتب سيرة جديدة لبغداد، لا بالدم كما أرادت الحروب، بل بالحبر كما أراد ابناءها. وكأن بغداد تقول للعالم، ما دام الكتاب حاضرا، فإن الذاكرة حية، والهوية مستقرة باقية، والروح قادرة على النهوض من جديد.
#عبد_علي_سفيح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟