فؤاد أحمد عايش
كاتب وروائي أردني
(Fouad Ahmed Ayesh)
الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 21:43
المحور:
قضايا ثقافية
ليست الثقافة الروسية نتاج لحظة ازدهار عابرة، ولا انعكاسًا لبذخ أو قوة مادية، بل هي ثمرة قرون من الصبر، والمعاناة، والتأمل العميق في معنى الإنسان والدولة والحياة. إنها ثقافة تشكّلت في مواجهة البرد، والمسافات الشاسعة، والتحولات التاريخية القاسية، فخرجت متماسكة، عميقة، ومليئة بالأسئلة الوجودية.
ما يميّز الثقافة الروسية هو ميلها الدائم إلى العمق بدل الاكتفاء بالمظاهر. في الأدب، لا يبحث الكاتب الروسي عن التسلية، بل عن الحقيقة؛ وفي الموسيقى، لا تُعزف الألحان للفرح وحده، بل للتعبير عن الألم والأمل معًا؛ أما في الفنون التشكيلية، فغالبًا ما يكون الإنسان محور العمل، بكل تناقضاته وضعفه وقوته.
تضع الثقافة الروسية الإنسان في مركزها، لا بوصفه بطلًا مثاليًا، بل ككائن معقّد، يصارع ذاته ومجتمعه وقدره. لذلك لم يكن دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف مجرد أدباء، بل مفكّرين إنسانيين سبقوا عصرهم في طرح أسئلة العدالة، والحرية، والمسؤولية الأخلاقية. هذه النزعة الإنسانية ما زالت حاضرة في الوعي الثقافي الروسي حتى اليوم.
رغم عمق اعتزازها بهويتها، لم تكن الثقافة الروسية منغلقة على ذاتها. فقد تأثرت بالفكر الأوروبي، والفلسفة الشرقية، والتجارب الإنسانية المختلفة، لكنها أعادت صياغة هذه التأثيرات ضمن إطارها الخاص. هذا التوازن بين الانفتاح والحفاظ على الذات منح الثقافة الروسية قدرة نادرة على الاستمرار والتجدّد دون فقدان جوهرها.
لا تعتمد روسيا في حضورها الثقافي على الضجيج أو التسويق المفرط، بل على التراكم والاحترام. فالمسرح، والباليه، والموسيقى الكلاسيكية، والسينما الروسية، كلها تشكّل أدوات قوة ناعمة تؤثّر بعمق لا بسرعة. إنها ثقافة لا تفرض نفسها، لكنها تترك أثرًا طويل الأمد في الوعي الإنساني.
لا تعيش الثقافة الروسية في الكتب والمتاحف فقط، بل في الحياة اليومية: في احترام التعليم، في تقدير المعلم، في العلاقة الخاصة مع الأدب والموسيقى، وفي نظرة المجتمع إلى التاريخ بوصفه تجربة يجب فهمها لا إنكارها. هذا الحضور اليومي للثقافة هو ما يمنحها الاستمرارية والصدق.
إن الثقافة الروسية ليست مجرد تراث فني أو أدبي، بل رؤية للحياة ترى في الإنسان مشروعًا أخلاقيًا، وفي المجتمع مسؤولية مشتركة، وفي التاريخ درسًا لا عبئًا. ومن يتأمل هذه الثقافة بعمق، يدرك أنها لم تُبنَ على الصدفة، بل على وعي طويل وصبر حضاري جعل منها إحدى أكثر الثقافات الإنسانية تأثيرًا واستمرارًا في العالم.
#فؤاد_أحمد_عايش (هاشتاغ)
Fouad_Ahmed_Ayesh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟