فؤاد أحمد عايش
كاتب وروائي أردني
(Fouad Ahmed Ayesh)
الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 11:33
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
من يقترب من روسيا بحق، يكتشف أن الحديث عنها لا يمكن أن يكون مجرد وصفٍ لدولةٍ كبرى، بل هو غوصٌ في عمق تجربةٍ إنسانية فريدة تتشابك فيها الثقافة بالقانون بالحضارة، والتاريخ بالهوية، والفكر بالواقع. فروسيا ليست مجرد خريطةٍ جغرافية تمتد من بحر البلطيق إلى المحيط الهادئ، بل هي حضارةٌ تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والنظام، بين الحرية والانضباط، بين الإرادة والقانون.
الثقافة الروسية لم تكن يومًا مجرد نتاجٍ أدبي أو فني؛ إنها منظومة أخلاقية عميقة صاغتها قرونٌ من الصراعات والانتصارات، ومن التضحيات الكبرى التي شكّلت وعي الأمة. في الفكر الروسي، الإنسان ليس كائنًا فرديًا يبحث عن مصالحه، بل هو عضوٌ في جماعةٍ لها هدفٌ روحي ومصيرٌ وطني مشترك. هذا الوعي الجماعي انعكس مباشرةً على بنية القانون الروسي. فالقانون هنا لا يُنظر إليه كمجموعةٍ من القواعد الباردة، بل كقيمةٍ وطنية تعبّر عن روح الدولة، وتحمي ما يسمّيه الروس بـ ( государственность ) أي فكرة الدولة ككيانٍ أخلاقي ووجودي في آنٍ واحد.
إنّ الثقافة الروسية من دوستويفسكي وتولستوي إلى غوركي وبوشكين أسهمت في بناء ضميرٍ وطنيٍّ يؤمن بالمسؤولية قبل الحرية، وبالواجب قبل الحق، وبالانضباط قبل المطالبة. ولهذا لا عجب أن يكون القانون في روسيا انعكاسًا لتلك الفلسفة الأخلاقية التي ترى في النظام جزءًا من العدالة، وفي العدالة طريقًا لحماية كيان الأمة ذاته.
من يدرس القانون الروسي (وأنا أحدهم) يدرك أن تطوره لم يكن مجرد نقلٍ من النماذج الغربية، بل كان نتاجًا لمسارٍ خاص. فقد انتقل من صرامة القيصرية إلى الثورة السوفييتية، ثم إلى الدولة الفيدرالية الحديثة التي تسعى إلى التوازن بين السلطة والحرية، بين وحدة الدولة وحقوق الفرد.
الدستور الروسي لعام 1993 يمثل مرحلةً جديدة في هذا التطور، حيث رسّخ مبادئ سيادة القانون والفصل بين السلطات وحقوق الإنسان، لكنه في الوقت نفسه حافظ على فكرة «الاستقرار السياسي» كركيزةٍ أساسية، وهي فكرة متجذّرة في الوعي الروسي منذ قرون. فالقانون في روسيا ليس مجرد أداةٍ لإدارة الدولة، بل ضمانةٌ لاستمرارها وحمايتها من الفوضى والتفكك.
وفي هذا السياق، يتضح أن القانون الروسي يواجه معادلةً معقّدة: كيف يمكن الحفاظ على الهوية الوطنية والسيادة القانونية في عالمٍ تسوده العولمة والضغوط الغربية؟ هذا التحدي يجعل روسيا تعمل على تطوير قانونٍ (ذاتي المرجعية)، يعتمد على قيمها الثقافية والتاريخية، وليس على نماذج مفروضة من الخارج.
#فؤاد_أحمد_عايش (هاشتاغ)
Fouad_Ahmed_Ayesh#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟