|
|
نظرة إلى عالم اليوم (7)
عبدالحميد برتو
باحث
(Abdul Hamid Barto)
الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 20:50
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
جوانب القوة والضعف لدى القوى الكبرى
تعتبر المقارنة أحدى وسائل البحث العلمي الهامة. تساعد الباحث أو الدارس على التعرّف والإقتراب من الخواص الحقيقية للحالة أو الحالات المطروحة للبحث و التحليل. تكون نتائج المقارنة أقرب إلى الواقع، كلما توسعت دائرتها، وشملت جوانب عديدة ومتنوعة. ومن أجل تحقيق المزيد من التعرّف على عالمنا اليوم. جرى تناول أوضاعًا وقضايا مختلفة في أبرز ثلاث دول عظمى: الولايات المتحدة الأمريكية، الصين و روسيا. ومن أجل أن تكتمل اللوحة أو تتضح الصورة الراهنة أكثر، تم إدراج أو تناول خمس دول مهمة أخرى، هي: اليابان، ألمانيا، البرازيل، جنوب أفريقيا و مصر.
جرى اختيار الدول الخمس الأخيرة في هذه المقارنة لأسباب عديدة، منها: أن اليابان وألمانيا كل منهما شبه قوة عظمى، ولأن دستورهما وضع قيودًا بصدد سياستهما العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية. أما إختيار الثلاث الباقية فقد جاء لأسباب كثيرة ومهمة أيضًا، مثل: الموقع، التاثيرات التاريخية، العوامل المعنوية و أهمية كل منها في قارتها. الدول الخمس موزعة على: أوروبا، أفريقيا وأمريكا الجنوبية. تناول الدول الخمس إلى جانب القوى الكبرى الثلات، يعمق الرؤية و يوضيح صورة عالمنا اليوم. يساعد كذلك في توفير قراءة أدق للواقع الفعلي. يتم الحديث عن كل تلك الدول من خلال تناول مجالات حيوية: الاقتصاد، العسكر، السياسة/ الحوكمة، التكنولوجيا، و الديموغرافيا. تم إعتماد آخر وأحدث وأوثق البيانات المتاحة لعام 2025.
تضمت المقارنات التحليلية تشخيص نقاط القوة والضعف في الدول الثمانية المذكورة. وعقد المقارنات فيما بينها بكل المجالات الإستراتيجية. تكون المقارنات مفيدة ومثمرة جدًا، إذا كانت متوازنة وغير دعائية وأقرب الى الواقع، و إذا خلت من أهداف ضيقة وإنحيازات تخل بالروح العلمية.
أولًا: الولايات المتحدة نقاط القوة تملك الولايات المتحدة العديد من نقاط القوة و كذلك من نقاط الضعف. نقف عند الجوانب الأساسية من الحالتين. و لا حرج في القول: إن الاقتصاد الأمريكي هو الاقتصاد أكبر في العالم، من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. وإن الدولار عملة الاحتياط العالمية. هذه الحالة لها مردود هام و هائل على الولايات المتحدة. خاصة على صعيد النفوذ المالي. كما تشكل الولايات المتحدة سوقًا ماليًا متقدمًا وقدرة عالية على جذب الاستثمارات. تعتمد الولايات المتحدة على تكنولوجيا متقدمة جدًا. يُشكل جيشها التقليدي القوة الأقوى بين جيوش العالم. تمتلك السلاح النووي الأضخم. هذا إلى جانب عوامل قوة أخرى منحتها نفوذًا عالميًا واسعًا. فضلًا عن تحالفاتها العسكرية و السياسة، متمثلة بحلف شمال الأطلسي ـ الناتو، وفي تخادمها مع مجموعة الدول السبع الكبار (G-7)، ذلك المنتدى غير الرسمي الذي نشأ عام 1975. يضم الدول الصناعية الرئيسية في العالم: الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، كندا واليابان.
كما تشير أرقام عام 2025 التقديرية إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بلغ 29.8 تريليون دولار. وهو الاقتصاد الأقوى كميًا و نوعيًا. تليه الصين 19.7 تريليون دولار، روسيا 2.09 تريليون دولار. هذه الأرقام تعني أن الاقتصاد الأمريكي يقارب 15 ضعفًا للاقتصاد الروسي الاسمي. كما يعادل الاقتصاد الصيني ما يقارب 9-10 أضعاف الاقتصاد الروسي.
تتربع الولايات المتحدة على قاعدة تكنولوجيا متطورة. كما حققت في ميدان الابتكار موقع الريادة عالميًا، خاصة في مجالات: الذكاء الاصطناعي، البرمجيات، الفضاء، أشباه الموصلات المتقدمة، مستوى الجامعات ومراكز الأبحاث. تقف الولايات المتحدة ضمن أهم الدول عالميًا في مجال الابتكار. دخلت الصين ضمن العشرة الأوائل عالميًا أيضًا، فيما يتعلق بحقل الابتكار. تشير بيانات المنظمة العالمية للملكية الفكرية في جنيف WIPO، وهي وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، تُعنى بحماية حقوق الملكية الفكرية، مثل: براءات الاختراع، حقوق المؤلفين، العلامات التجارية، والتصاميم الصناعية. تشير إلى أن الصين هي الأعلى من حيث براءات الاختراع المسجلة، متقدمة على كل الاقتصادات الأخرى. أما روسيا فهي حاليًا خارج المراكز العشرة العليا.
بلغ عدد السكان التقديري لعام 2025 في الولايات المتحدة 343 مليون نسمة، و الصين 1.42 مليار نسمة، أما روسيا فقد بلغ 122 مليون نسمة. تعد الديموغرافيا مستقرة نسبيًا في الدول الثلاث كقوى شاملة عالمية. لكن كل منها تواجه تحديات داخلية، تتعلق بالتبايانات الثقافية ونسب الشباب و غيرهما.
يبلغ الإنفاق العسكري السنوي في الولايات المتحدة 970 مليار دولار. أما الصين فقد بلغ 246 مليار دولار. وفي روسيا 150 مليار دولار. هذا يعني أن أمريكا تنفق أكثر من ضعف مجموع ما تنفقه الصين وروسيا معًا تقريبًا. إن روسيا تنفق نسبة من اقتصادها هي الأعلى بكثير، ولكن رقم الإنفاق الكلي المطلق أقل. تملك واشنطن قوة عسكرية كبيرة جدًا. تملك أقوى جيش في العالم من حيث القدرة الشاملة. لديه شبكة قواعد منشرة في مختلف القارات. تحيط بها تحالفات عالمية، دول حلف الناتو، اليابان و كوريا الجنوبية. هذا إلى جانب وجود تفوق بحري وجوي واضحين.
تشير أحدث التقديرات حول المخزونات النووية، أي عدد الرؤوس النووية لعام 2025، إلى أن الولايات المتحدة تملك 3700 رأس نووي، روسيا 4300 رأس نووي و الصين 600 رأس نووي، أي أن روسيا تمتلك أكبر ترسانة نووية عددًا، ثم الولايات المتحدة ثم الصين. تبلغ نسبة الترسانة النووية الروسية 6 إلى1 مقارنة مع الصين.
تولي الولايات المتحدة إهتمامًا واسعًا بتقوية نفوذها الثقافي والإعلامي. وقد حققت تأثير عالميًا كبيرًا عبر السينما، الإعلام، التعليم واللغة. تعد الولايات المتحدة من أعلى الدول في نسبة الإنفاق على البحث العلمي و التطوير بالنسبة للناتج القومي. يصل عادة حسب البيانات الرسمية إلى حول 3.4% تقريبًا. وهي ظلت تتصدر بالمطلق الدولَ الصناعيةَ الكبرى كافة في حجم الإنفاق على الابتكار.
تُعد استراتيجية الرئيس ترامب للأمن القومي مخططًا للهيمنة على العالم. انصبت جهود الرئيس الامريكي على تعزيز الهيمنة الاقتصادية للشركات الأميركية المتراجعة، وعلى إقناع المترددين من الشركاء التجاريين باستخدام تهديدات الرسوم الجمركية، أو إقصاء المنافسين في الأسواق عبر العقوبات وقيود التصدير. إنها استراتيجيةٌ قاسية لتأمين الهيمنة على العالم. دافعها الرئيسي هو سحق القوى المنافسة، وإبطاء تنامي النفوذ الدولي للصين. يأتي هذا المخطط في ظل حشدٍ عسكري أميركي خطير في منطقة الكاريبي، وضرباتٍ سافرة خارج نطاق القانون، بما يشير إلى تصعيدٍ عنيف في حملة واشنطن ضد فنزويلا.
تصعد واشنطن العداء للتحالفات الجيوسياسية التي تراها منافسةً لها، مثل "بريكس". و تشدّد الوثيقة على منع إعادة توحيد الصين مع تايوان، نظراً لأهمية الجزيرة في الهيمنة البحرية الأميركية. كما تؤكد الاستراتيجية مطلب إنفاق دول حلف شمال الأطلسي ـ الناتو 5% من ناتجها المحلي على العسكرة، ومواجهة الصين وروسيا مباشرةً.
تدعم الإدارة الأمريكية في أوروبا أحزابًا قومية يمينية متطرفة موالية لواشنطن، لضمان بقاء أوروبا أداةً تابعة. و يصف دول وسط وشرق وجنوب أوروبا بالدول غير المُعتلّة، التي تحكمها حكومات يمينية ودّية مع إدارة ترامب. تعلن الادارة أنها ستعمَل على بناء تلك الدول من خلال الروابط التجارية، مبيعات السلاح، التعاون السياسي والتبادلات الثقافية والتعليمية.
تعمل استراتيجية البيت الأبيض على فكّ ارتباط روسيا بالصين. ومنع التعاون بين بلدين يُنظر إليهما كمنافسين. تسعى استراتيجية ترامب إلى الهيمنة في مجال الطاقة. وفي أفريقيا تسعى إلى الاستثمار و الاستيلاء على المعادن الحيوية في القارة. يأتي هذا المخطط متزامنًا مع حشدٍ عسكري أميركي خطير في الكاريبي، وضرباتٍ فيه خارج إطار القانون، بما ينذر بتصعيدٍ عنيف في حملة تغيير النظام في فنزويلا. ستكون بعد أكبر شركاء الولايات المتحدة التجاريين المباشرين، كندا والمكسيك، تكون دول أميركا اللاتينية، وهي أول من سيجد نفسه في مرمى هذه الاستراتيجية الجديدة.
ـ نقاط الضعف يوجد في الولايات المتحدة استقطاب سياسي داخلي حاد، يؤثر على صنع القرار. تشهد الولايات المتحدة استقطابًا سياسيًا داخليًا. بات ظاهرة بارزة تربك بعمق عملياتِ صنع القرار على مستويات متعددة. وليس مجرد حالة من النزاع الحزبي المعتاد. لم تعد الانقسامات تنحصر بين الجمهوريين والديمقراطيين حول السياسات فقط، بل حول فهم الواقع نفسه، مما يزيد صعوبة التفاهم السياسي.
تُغذّي وسائل الإعلام الإلكترونية و وسائل التواصل الاجتماعي الانقسامات من خلال تكريس روايات، تستهدف العواطف أكثر من المنطق. ومن المخاطر الجدية أن الحملات الانتخابية تقوم على سرديات الهوية والأمن الاجتماعي. بات العنف السياسي حالة من الاستقطاب، على غرار حادثة مقتل الناشط المحافظ تشارلي كيرك. أدّت الانقسامات العميقة في الكونغرس إلى تباطؤ ملحوظ في سنّ التشريعات، خصوصًا تلك التي تحتاج توافقًا واسعًا. كما يؤثر الاستقطاب على قضايا محددة، مثل الموقف من متطلبات المناخ وحماية الطبيعة والسياسات العامة. إن احتدام الاستقطاب الحزبي أثر سلبًا على قدرة الولايات المتحدة في تنفيذ سياسات طويلة الأمد نحو السياسات المناخية و غيرها.
ترك الاستقطاب تأثيرات سلبية على صنع القرار. باتت القرارات أكثر تقلبًا. تتغيّر السياسات بسرعة مع تغيير الحزب الحاكم، مما يقلّل من الاستقرار. إن الحاجة إلى توافق حزبي يجعل الكثير من القوانين المعقدة تصطدم بحواجز قبلية، تؤدي الى البطء في التشريع.
إن الاستقطاب الأميركي ليس فريدًا تمامًا، لكنه يتمتع بخصائص تجعله أخطر وأكثر تأثيرًا على الحكم من كثير من الحالات التاريخية والأوروبية. هو مماثل للأستقطابات السابقة في الانقسام الحاد حول هوية الدولة، مستقبل النظام السياسي، تصاعد الشعبوية، اتهام النخب بخيانة الأمة وتسييس الخوف بصدد الاقتصاد، الهجرة و الأمن. يختلف عن الاستقطابات السابقة، التي كانت بين أنصار الديمقراطية وأنصار أنظمة بديلة مستبدة. كثير من الدول كانت ديمقراطيات هشة حديثة العهد. فكانت النتيجة في حالات عدة انهيار النظام قبل نحو 8 عقود، كما في ألمانيا، إيطاليا و إسبانيا. البارز هنا أن الولايات المتحدة لا تعيش صراعًا على وجود الديمقراطية شكليًا، بل على معناها وحدودها وهذا فرق جوهري.
شهدت الولايات المتحدة نفسها حربًا الأهلية في القرن التاسع عشر بين الأعوام 1861 ـ 1865. كانت صراعًا داخليًا دمويًا بين الاتحاد في الشمال و الولايات الكونفدرالية في الجنوب المنفصلة، مدفوعة بشكل أساسي بقضية العبودية، والاختلافات الاقتصادية والسياسية حول حقوق الولايات. انتهت بانتصار الاتحاد، والحفاظ على وحدة البلاد، وإلغاء العبودية رسميًا. تعد من أكثر الحروب دموية في تاريخ الولايات المتحدة. تشبه المرحلة الحالية في: الانقسام الأخلاقي و الهوياتي العميق، أي العبودية سابقًا و الهوية و الدولة اليوم. لعب الإعلام الحزبي دورًا تعبويًا. لكنه حقق فشلًا متكررًا في الحلول الوسط. أما أوجه الاختلاف، فقد كان الاستقطاب في القرن التاسع عشر جغرافيًا واضحًا، شمال و جنوب. بينما الاستقطاب اليوم ثقافي و هوياتي متداخل جغرافيًا، أي داخل كل ولاية. يمكن القول بصفة عامة، إن الاستقطاب الحالي أقل وضوحًا لكنه أوسع انتشارًا وأكثر تجذرًا اجتماعيًا.
يمكن إجراء مقارنة مع أوروبا المعاصرة. على سبيل المثال في فرنسا. استقطاب حاد بين المركز الليبرالي، اليمين القومي و اليسار الراديكالي. لكن النظام شبه الرئاسي يسمح بالحسم الانتخابي وتقليص الشلل. تشهد فرنسا اليوم توترًا اجتماعيًا مرتفعًا، لكن صنع القرار أقل شللًا من أميركا.
تعيش إيطاليا استقطابًا مزمنًا وتغير حكومات متكرر. كما إن الشعبوية، اليمينية واليسارية حاضرة بقوة. لكن الانقسام غير وجودي، الجمهور اعتاد عدم الاستقرار. وإذا إنتقلنا إلى شرق أوروبا مثلاً بولندا والمجر. الاستقطاب فيهما حاد حول استقلال القضاء، الإعلام و علاقة الدولة بالاتحاد الأوروبي. هنا الاستقطاب أنتج تحوّلًا سلطويًا، لا شللًا تشريعيًا. وفي إسبانيا تميز الاستقطاب بأنه هوياتي مثلًا في كتالونيا، فضلًا عن الذاكرة التاريخية. لكن وجود تحالفات حزبية مرنة يسمح بالحكم رغم الانقسام.
قد يُطرح سؤلٌ: لماذا يبدو الاستقطاب الأميركي مختلفًا؟ ذلك بسبب طبيعة النظام السياسي بوجود نظام ثنائي صارم، حزبان فقط. و لا توجد صمامات أمان، عبر ائتلافات أو حكومات وحدة وطنية. إن كل قضية تتحول إلى معركة صفرية. أي تسييس كل شيء. يختلف الأمر في أوروبا، حيث تكون بعض الملفات فوق الحزبية، مثل: الإدارة، القضاء و الصحة. أما في الولايات المتحدة فكل الساحات تعد صراعًا أيديولوجيًا: القضاء، الانتخابات، التعليم، وحتى اللقاحات. كما يتحول الإعلام والمنصات الرقمية في الولايات المتحدة إلى المختبر الأكبر لاقتصاد الغضب السياسي. إن الخوارزميات تُكافئ التطرف لا التسوية. مما يؤدي إلى تآكل الثقة المؤسسية على مستويات الثقة بالكونغرس، الإعلام، وحتى الثقة بالنتائج الانتخابات، فهي الأدنى من معظم أوروبا الغربية. هذا يجعل الخاسر لا يعترف بالهزيمة بسهولة.
الاستقطاب الأميركي ليس فريدًا من حيث الحدة، لكنه فريد من حيث التأثير المؤسسي. هو لا يقود بالضرورة إلى انهيار مفاجئ كما في أوروبا بين الحربين، بل إلى: تآكل بطيء لقدرة الدولة على اتخاذ قرارات مستقرة وطويلة الأمد. وهذا ما يجعله خطرًا هادئًا لكنه عميق.
مقارنة مع الاتحاد السوفيتي في سنواته الأخيرة أو تحليل سيناريوهات مستقبلية: هل يتجه الاستقطاب الأميركي إلى تهدئة، انفجار، أم تطبيع دائم؟ إن المقارنة مع الاتحاد السوفيتي في سنواته الأخيرة (1985–1991) تضيء زوايا عميقة لا تظهر عند مقارنته بأوروبا الغربية فقط، خاصة لمن يهتم بالتاريخ الحديث. تبني المقارنة على خمسة محاور دقيقة، لنصل إلى خلاصة تفسيرية تحذر من إسقاطات مبسطة.
عندما يُقال إن الاستقطاب السياسي الحاد في الولايات المتحدة يؤثر على صنع القرار، فهذا توصيف يُستدلّ عليه من مجموعة مؤشرات ملموسة ومتكررة، وليس مجرد انطباع عام من أبرز تلك المؤشرات:
1 ـ الشلل التشريعي: يتمثل بصعوبة تمرير القوانين الكبرى، خصوصًا في القضايا الهيكلية، مثل: الهجرة، الموازنة و الرعاية الصحية. يجري الاعتماد المتزايد على الأوامر التنفيذية بدل التشريع، ما يجعل السياسات هشّة وقابلة للإلغاء مع تغير الإدارة. هذا يُأشر على ضعف القدرة المؤسسية على اتخاذ قرارات طويلة الأمد.
2 ـ أزمات الموازنة وسقف الدين يؤدي إلى تكرار أزمات، مثل: إغلاق الحكومة الفيدرالية و تهديدات التخلف عن سداد الديون بسبب الخلاف حول سقف الدين. هذه الأزمات أصبحت أداة ضغط حزبي وليست استثناءً. إن قضايا مالية سيادية تُدار بمنطق الصراع لا التوافق. ـ الدين العام مرتفع، حيث بلغ إجمالي الدين الحكومي عام 2025 للولايات المتحدة38.3 تريليون دولار. و بلغت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي الاسمي نسبة 125%. تأتي بعدها الصين في المرتبة الثانية عالميًا، حيث يصل حجم الدين المطلق إلى 18.7 تريليون. إن الملاحظة الرئيسية عن الدين العام للولايات المتحدة، بأنها تمتلك أعلى دين حكومي مطلق في العالم وينذر بالارتفاع. سجلت الولايات المتحدة عجزًا كبيرًا في الميزانية الفيدرالية عام 2025 بلغ حوالي 173 مليار دولار في شهر واحد. أما العجز السنوي للسنة ذاتها فقد بلغ حوالي 1.78 – 1.8 تريليون دولار أمريكي. يعادل العجز نحو 5.8% – 6.0% من الناتج المحلي الإجمالي. تشير توقعات عدة إلى أن الديون الأمريكية ستستمر في النمو خلال العقد القادم بسبب الضغوط الاجتماعية والشيخوخة.
3 ـ تصاعد نسبة التصويت الحزبي شبه المطلق، أدى إلى تراجع التصويت العابر للأحزاب في الكونغرس مقارنة بالعقود السابقة. تُمرَّر أو تُرفض معظم مشاريع القوانين وفق الانتماء الحزبي لا مضمون القرار. هذا يعني تآكل ثقافة التسوية التي كانت جوهر النظام الأمريكي.
4 ـ تسييس القضاء والمؤسسات الحكومية. يجري التعامل مع تعيين القضاة، خصوصًا في المحكمة العليا، كأنه معركة أيديولوجية صريحة و مرتبطة مباشرة بنتائج الانتخابات. فأصبحت القرارات القضائية الكبرى تُقرأ سياسيًا فور صدورها. هذا يمثل تراجع في صورة المؤسسات كحَكَم محايد، وزيادة الشك الشعبي.
5 ـ انقسام إعلامي ومعلوماتي حاد في بيئات إعلامية منفصلة. جمهوران يستهلكان روايات مختلفة للواقع نفسه، انتشار مفهوم حقائق بديلة وتراجع الثقة بالمصادر المشتركة. هذا الواقع يخلق صعوبات في بناء إجماع وطني حول أي سياسة عامة.
6 ـ تراجع الثقة الشعبية بالمؤسسات، حيث النسب المتدنية من الثقة في: الكونغرس، الحكومة الفيدرالية و أحيانًا العملية الانتخابية نفسها. هذا التراجع مستمر منذ سنوات وليس ظرفيًا. مما يضعف الشرعية السياسية و يزيد كلفة أي قرار صعب.
7 ـ انعكاس الاستقطاب على السياسة الخارجية. يلاحظ حلفاء الولايات المتحدة تقلب الالتزامات الأمريكية بتغير الإدارات، صعوبة التعويل على استمرارية السياسات و اتفاقات تُوقَّع ثم تُلغى لاحقًا داخليًا. بعيارة أدق يتحول الاستقطاب الداخلي إلى عامل عدم يقين دولي.
8 ـ ومن المؤشرات الضارة كان ظهور تراجع نسبي في الصناعة التقليدية.
يمكن إجراء المقارنة بين الاتحاد السوفيتي في فترة البيريسترويكا 1985 ـ 1991 والولايات المتحدة الآن، تتناول المقارنة عدة جوانب أساسية:
أولًا: طبيعة الاستقطاب هل هو أيديولوجي أم هوياتي؟ كان الاستقطاب في الاتحاد السوفيتي ليس بين أحزاب مختلفة. بل بين قيادة النظام السياسي الرسمي و الواقع الاجتماعي ـ الاقتصادي، خاصة بعد تعمق الفشل التنفيذي. لم ينقسم الناس حول سياسات بديلة، بل حول: هل ما زال النظام نفسه قابلًا للحياة بعد غياب البديل، وحتى ممثلين له خارج إطار القيادة الضيقة، مما حوّل الاستقطاب إلى تضاد بين الخطاب والواقع. في الولايات المتحدة اليوم الاستقطاب بين رؤيتين في مجالات: هوية الأمة، التاريخ، معنى الحرية والديمقراطية. كل طرف يرى الآخر ليس كمنافس، بل كـتهديد وجودي. هنا الاستقطاب بين هويات وروايات متصارعة، لا بين خطاب وواقع فقط.
ثانيًا: دور النخب، هل التفكك من الأعلى أم من القاعدة؟ بدأ الانهيار في الاتحاد السوفيتي من النخب، أي انقسام داخل الحزب، بين بيروقراطية فقدت الإيمان بالعقيدة، نخب محلية بدأت تفكر بمصالحها القومية في 15 جمهورية. لم يُسقط المجتمعُ النظامَ، النظامُ تفكك من داخله. تقود الاستقطاب في الولايات المتحدة القاعدة الاجتماعية: ناخبون مستقطبون، إعلام تعبوي، ضغط شعبي على النخب بدل العكس، و النخب أحيانًا تحاول التهدئة، لكنها تُساق خلف قواعدها. هذا فارق بالغ الأهمية.
ثالثًا: الاقتصاد كعامل تفكيك خُلِقت في الاتحاد السوفيتي أزمة اقتصادية بنيوية، لم يجري التداول بصددها، إنما برز نقص في السلع، عجز مالي و سباق تسلح مرهق. كشفت "إصلاحات" البيريسترويكا بحسن نية أو بغيرها العجز بدلًا عن علاجه. الاقتصاد قوض شرعية النظام بالكامل. لا توجد في الولايات المتحدة أزمة اقتصادية وجودية مماثلة. لكن هناك: شعور واسع بعدم العدالة، تآكل الطبقة الوسطى، اقتصاد قوي كليًا، لكنه منقسم اجتماعيًا، و في الاقتصاد يوجد وقود للاستقطاب، و لا سبب لانهيار الدولة.
رابعًا: الإعلام و انفجار الحقيقة طرحت في الاتحاد السوفيتي مسألة العلانية (الغلاسنوست) بطريقة مفاجئة دون تمهيد فكري أو إجتماعي مما أربك الجميع، وما زالت دوافعه قيد التداول والتحليل اليقظ والمرتاب. إن الانكشاف المفاجئ أسقط الرواية الرسمية، لم تعد الدولة تملك احتكار الحقيقة و النتيجة. ذلك خلق فراغًا معنويًا شاملًا أقرب ما يكون إلى الصدمة النفسية، التي طبعت سلوك الأغلبية بالذهول والتردد والإنتظار. في الولايات المتحدة الآن ليست مشكلة نقص بالمعلومات، بل في فيض مفرط منها. لا توجد حقيقة مشتركة، كل معسكر يملك إعلامه، خبراءه، أرقامه. هنا لا تنهار الرواية الرسمية، بل تتفتت الحقيقة نفسها.
خامسًا: الدولة والنظام في الاتحاد السوفيتي يقوم على دولة مركزية. حين فقدت القيادة السيطرة انهارت بسرعة، حصل تفكك جغرافي، الانهيار كان سريعًا ودراماتيكيًا. توجد في الولايات المتحدة دولة اتحادية مرنة. المؤسسات قادرة على الصمود حتى مع الشلل. الخطر ليس التفكك السريع، بل تحول النظام إلى دولة مشلولة دائمًا، أي تآكل بطيء بدل الانهيار المفاجئ.
ليست الولايات المتحدة اتحادًا سوفيتيًا جديدًا، لكن هناك تشابهًا أخطر من مجرد الانهيار، كلا النظامين وصلا إلى لحظة لم يعد فيها اتفاق على قصة مشتركة عن الدولة نفسها. يكمن الفرق في أن الاتحاد السوفيتي سقط عندما انهارت القصة فجأة. الولايات المتحدة قد تستمر طويلًا من دون قصة متفق عليها. وهذا تاريخيًا وضع نادر وخطير.
شُلَّ في الاتحاد السوفيتي دور الناس وعضوية الحزب الحاكم في مجال الدفاع عن النظام نتيجة للصدمة الغامضة. فالتخريب تقوده القيادة نفسها، بدلًا عن تنظيم جهد الإصلاح والمواجهات. في الولايات المتحدة كل طرف مستعد للدفاع عن نسخته من النظام بشراسة. وهذا ما يجعل المسار الأميركي أطول، أعقد، وأقل قابلية للتنبؤ. يُطرح سؤال حاسم: هل يستطيع النظام الأميركي إعادة إنتاج قصة جامعة، كما فعل بعد الكساد العظيم أو الحرب العالمية الثانية؟ سؤالُ يذهب مباشرة إلى قلب المشكلة الأميركية، والإجابة المختصرة هي: نعم، نظريًا يستطيع. لكن بشروط أصعب من أي وقت مضى. أما عمليًا، فالأمر غير مضمون، لأنه يتطلب تلاقي عوامل نادرة تاريخيًا.
المقصود بالقصة الجامعة في السياق الأميركي. ليست دعاية ولا أيديولوجيا صلبة، بل سردية مرنة تتضمن: من نحن؟ لماذا نختلف لكن نبقى دولة واحدة؟ ما الذي يجعل الخسارة السياسية مقبولة؟ تاريخيًا، القصة الأميركية نجحت عندما وفّرت: إطارًا أخلاقيًا يسمح بالخلاف دون نزع الشرعية المتبادلة. هنا يأتي سؤال مهم: كيف أُعيد إنتاج القصة سابقًا بعد الكساد العظيم 1930؟ تتمثل القصة بوجود الدولة لحماية الكرامة الاقتصادية للمواطن. لم تُنهِ الانقسام الطبقي، لكنها أعادت تعريف دور الدولة. حتى المعارضون قبلوا القواعد الجديدة. أما ما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد طُرحت القصة بأن أميركا زعيمة "العالم الحر" والازدهار. وكذلك مسألة مواجهة عدو خارجي واضح هو الاتحاد السوفيتي والمعسكر الأشتراكي. هذا حقق إجماعًا نخبويًا واسعًا و إعلامًا أقل تشظيًا.
كانت القصة بعد الحرب الباردة 1990، تتمثل بادعاء أن الديمقراطية الليبرالية، هي النهاية الطبيعية للتاريخ. هذه القصة الأخيرة انتهت، ولكن لم تُستبدل. باتت مسألة إعادة الإنتاج قصة جديدة أصعب اليوم. يقف في مقدمة تلك المصاعب غياب العدو الجامع. أما الخصوم الخارجيون الصين و روسيا، فلا يولّدون إجماعًا داخليًا. يُستخدمون في الصراع الداخلي بدل توحيده.
يوجد في الولايات المتحدة حالياً انقسام في الهوية لا في السياسات فقط. الخلاف ليس حول الضرائب أو الرعاية الصحية فقط، بل حول: التاريخ، الهوية و معنى المواطنة. لا يمكن تسوية هذا النوع من الانقسام بحلول تقنية. كان يلعب الإعلام، الجامعات و الكنائس سابقًا دور وسطاء سرديون. انهار اليوم دور الوسيط، إذ أصبح كل وسيطٍ متهمًا بالتحيز. ولا أحد يملك شرعية رواية القصة للجميع. حتى الانتخابات لا تُنهي الصراع. لم تعد الخسارة الانتخابية مؤقتة، بل تُفهم كـخطر وجودي دائم.
مقارنة هذا المأزق مع أزمات السرد الوطني في أوروبا الشرقية بعد 1989. هذه مقارنة كاشفة جدًا لأن أوروبا الشرقية بعد 1989، واجهت مأزقًا سرديًا يشبه ما تعيشه الولايات المتحدة اليوم، لكن من زاوية معكوسة تاريخيًا. يقوم التحليل على أربع طبقات: طبيعة الأزمة، مسارات الدول، أوجه الشبه والاختلاف، ثم الدروس التحذيرية للولايات المتحدة.
يطرح سؤال مهم: ما الذي انهار في أوروبا الشرقية بعد 1989؟ هناك مَنْ يرى بأن الإنهيار لم يتوقف عند حدود إنهيار النظام فقط، بل انهارت القصة معه. كانت القصة الرسمية قبل 1989 نحن دول اشتراكية، شرعيتنا تأتي من مقاومة الفاشية وبناء مجتمع عادل. بعد الانهيار سقطت الشرعية الأيديولوجية. سقط معها: تفسير التاريخ. معنى الدولة فكرة من نحن. لم يكن الفراغ سياسيًا فقط، بل وجوديًا.
حاولت دول أوروبا الشرقية إعادة بناء سردها الوطني؟ جسدته في المسار الليبرالي ـ الأوروبي، ذلك في بولندا، تشيكيا، دول البلطيق وغيرها. في البداية كانت القصة الجديدة: نحن عائدون إلى أوروبا، إلى التاريخ الطبيعي الذي انقطع. تنتظرنا مكاسب، مثل: الهوية الواضحة، العدو السابق واضح و الأفق المستقبلي في الاتحاد الأوروبي. لكن القصة تجاهلت الخاسرين اجتماعيًا. حوّلت الليبرالية إلى هوية أخلاقية لا برنامجًا اجتماعيًا. ما جعلها هشّة على المدى المتوسط. المسار القومي ـ الانتقامي، كما في المجر، بولندا ولاحقًا في صربيا.
ثم بدأت تُطرح القصة البديلة. جرى التعبير عنها، بالقول: لقد سُرق تاريخنا وكرامتنا باسم الليبرالية والعولمة. تمثلت سمات تلك الطروحات. عبر إعادة كتابة التاريخ، تمجيد الأمة و شيطنة النخب و الخارج. أعادت هذه القصة المعنى، لكنها قوّضت المؤسسات الديمقراطية. أتبعت يوغوسلافيا على سبيل المثال المسار الفوضوي، مما أدى إلى الانهيار. حققت فشلًا كاملًا في إنتاج قصة جامعة. كل جماعة فيها أعادت سرد التاريخ بطريقتها. كانت النتيجة بأن الهوية سبقت الدولة فانهارت الدولة.
كان الصراع في أوروبا الشرقية على التاريخ. و تمحور حول: مَنْ هو البطل؟ مَنْ هو الخائن؟ مَنْ هو الضحية؟ أما في الولايات المتحدة فقد تناول أسئلة حول: العبودية؟ التأسيس؟ الهجرة؟ لم يتخذ الصراع طابعًا أكاديميًا، بل كان سياسيًا وجوديًا. كانت الليبرالية هوية إقصائية في الحالتين. لم تُقدَّم الليبرالية كإطار جامع، بل كمعيار أخلاقي: من يعارضها فهو متخلّف و غير شرعي. هذا يُنتج رد فعل شعبوي حتمي.
إن الفروق الحاسمة هنا تكمن في خطورتها على أميركا و أوروبا الشرقية. كانت تؤسس الدول الجديدة على أنظمة جديدة ودساتير جديدة. كان الخطأ جزءًا من التأسيس. ما هو قائم حاليًا في الولايات المتحدة يدعو إلى تفكك دولة راسخة و مؤسسات عمرها قرنان. كانت القصة تعمل ثم تعطلت. التفكك من الداخل أخطر من التأسيس من الصفر. أمريكا هي عامل إمبراطوري أما أوروبا الشرقية فكانت على هامش النظام العالمي. لعبت الولايات المتحدة دور المركز، فأي فشل سردي أميركي له أثر عالمي مضاعف. تقدم دروس أوروبا الشرقية تحذيرات مباشرة لأميركا. يقول الدرس الأول: لا تعيش طويلًا بلا قصة، الفراغ السردي لا يبقى فارغًا. سيملؤه قوميون، بسيطيون و سلطويون وغيرهم.
ليست الولايات المتحدة اليوم في لحظة انهيار. لكنها في لحظة تعليق سردي خطير. والفرق الجوهري: أن أوروبا الشرقية استعارت قصصًا جاهزة على غرار أوروبا و المشاعر القومية. لا تملك الولايات المتحدة نموذجًا أعلى تستعيره. جملة ختامية مكثفة. إذا كان درس أوروبا الشرقية هو: إن الديمقراطية بلا سرد تتحول إلى صراع هويات. فإن تحذيرها للولايات المتحدة هو أن القوة المؤسسية لا تعوّض عن غياب القصة الجامعة، بل تؤجل الانفجار فقط.
ـ وجود إرهاق إستراتيجي نتيجة التدخلات الخارجية الطويلة تأسست أمريكا في عام 1776، أي منذ249 عامًا. كان يقدر عدد سكان الأمريكتين الشمالية والجنوبية، بـحوالي 112 مليون نسمة، قبل قدوم الأوروبيين إليهما. تضم نحو 400 قبيلة كبرى من الهنود الحمر. لم يتبقَّ منهم حتى عام 1900 سوى ربع مليون فقط .شن الأوروبيون على قبائل الهنود الحمر 93 حربًا جرثومية. كما خَطَف الأمريكان والأوروبيون نحو 12.5 مليون إفريقي لاستعبادهم في أمريكا. لم يصل منهم سوى 10.7 مليون، مات منهم في الطريق نحو 1.8 مليون إنسان.
ليس من السهل حصر أعمال أمريكا ضد الشعوب والدول الأخرى. دَوَّنَ سجلُها التاريخي عمليات إنقلابية في 127 دولة. حاولت اغتيال 54 زعيمًا وطنيًا في دول العالم الثالث. أشعلت حروبًا أهلية في 85 دولة. كما أطاحت منذ 1945 بـ 40 حكومة وطنية وسحقت أكثر من 30 ثورة شعبية. شاركت أمريكا في انقلاب إندونيسيا 1965 بقيادة سوهارتو. و قدمت للمخابرات الإندونيسية قوائم بأسماء الشيوعيين والمعارضين، مما أدى إلى مقتل أكثر من مليون إنسان. دعمت أمريكا نظام الفصل العنصري الأبارتايد في جنوب إفريقيا لعقود، واستخدمت الفيتو ضد 4 قرارات أممية لإدانته. قدّمت الأسلحة والمال للحكومة العنصرية. والمفارقة أنها وضعت عام 1988 الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا على قوائم الإرهابيين المطلوبين، وفي 1993 حصل على جائزة نوبل للسلام !
جاء في مقدمة إعلان استقلال أمريكا عام 1776 مادة تنص على: "أن الناس جميعًا خُلقوا أحرارًا". ومع ذلك ظل الرق 87 سنة بعدها، واستمرت العنصرية 188 سنة أخرى. منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، استخدمت أمريكا حق النقض (الفيتو) 76 مرة، منها 57 مرة ضد حقوق الشعب الفلسطيني.
حفل سجل أمريكا بحروب كثيرة، منها القديمة مثل حربها ضد هنود الأباتشي، التي استمرت 46 عامًا، الحرب ضد إيالة الجزائر 15 سنة والحرب في الفلبين 14 سنة. أسقطت أمريكا على فيتنام قنابل تعادل 3 أضعاف ما استُخدم في الحرب العالمية الثانية من جميع الأطراف، أي ما يعادل 640 قنبلة ذرية مثل قنبلتها في هيروشيما.
قتلت في الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988) أكثر من مليون إنسان، إذ زودت أمريكا كلا الطرفين بـ 93% من السلاح. أمريكا هي أول دولة أدينت رسميًا في حزيران/ يونيو 1986 بممارسة الإرهاب، من قبل محكمة العدل الدولية. دعمت أمريكا الإبادة الجماعية في رواندا عبر دعم نظام الهوتو عسكريًا واستخباراتيًا قبل المذبحة، ثم امتنعت عن التدخل أثناء قتل 800 ألف إنسان خلال 100 يوم.
تسببت أمريكا في قتل 2 مليون عراقي منذ عاصفة الصحراء عام 1990 على العراق. كانت أمريكا العقل المدبر لحصار العراق بين عامي 1990 ـ 2003، الذي أدى إلى موت نصف مليون طفل بسبب نقص الدواء والغذاء. قالت مادلين أولبرايت عنهم: "كان الأمر يستحق الثمن". أنفقت أمريكا 40 مليار دولار في أول 20 يومًا من الحرب على العراق عام 2003، أي 2 مليار يوميًا. استخدمت أمريكا اليورانيوم المنضّب في العراق عام 1991 وعام 2003، مما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في مرض سرطان الأطفال والتشوّهات الخَلقية، خصوصًا في الفلوجة والبصرة، ولا تزال آثاره قائمة حتى اليوم.
قادت أمريكا ما يُعرف بعملية "كوندور" في أمريكا اللاتينية، خلال السبعينيات والثمانينيات، وهي تحالف استخباراتي هدفه اغتيال واعتقال المعارضين في التشيلي، الأرجنتين، الأوروغواي والبرازيل. أسفرت العملية عن مقتل واختفاء ما لا يقل عن 60 ألف إنسان.
موّلت أمريكا حرب الصرب في البوسنة في بداياتها، عبر التسليح غير المباشر ومنع وصول السلاح للبوسنيين، مما أدى إلى مذابح مثل سربرنيتسا التي قُتل فيها أكثر من 8,000 شخص في يوم واحد. أدارت و تدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سجونًا سرّية حول العالم مثل "باغرام" في أفغانستان، و"بوخارست"، و"غوانتنامو"، و"أبو غريب" أثناء احتلالها للعراق، حيث استخدمت التعذيب بالكهرباء، الإيهام بالغرق، الاغتصاب والتعذيب النفسي ضد المعتقلين بلا محاكمة.
الوثيقة الإستراتيجية الأمريكية أصدرت إدارة ترامب مؤخرا وثيقة مهمة تبين إستراتيجيتها. عنوانها الرئيس ستبقى أميركا في القلعة وعلى العالم أن يعتني بنفسه. تؤدي تلك السياسة إلى تغيرات واسعة بشأن السياسة الخارجية. وتعمل أعادة صياغة دورها في الشؤون العالمية. تقع الوثقية في 33 صفحة. أظهرت الوثيقة ما يفيد بأن جوهر السياسة القومية الأمريكية، يقوم على أسس لا تُرهق أمريكا نفسها بعد الآن في صراعات بعيدة، لا تمثل أولوية للأمن القومي الأميركي.
أخذت الوثيقة شكل رواية سياسية موجّهة للداخل أكثر من كونها خطة أمن قومي تقليدية. أبتعدت عن اللغة المؤسسية التي ميزت وثائق الأمن القومي الأميركية لعقود. تؤكد الإستراتيجية على أن المصلحة الوطنية الأميركية يجب أن تتجاوز التحالفات التقليدية، والسياسة الخارجية القائمة على القيم، وحتى المؤسسات العالمية.
تدور الإستراتيجية الأميركية الجديدة حول مفهوم جديد كليا للأمن القومي. ينظر هذا المفهوم إلى الهجرة والاتجار بالمخدرات بوصفهما تهديد أساسي للأمن. تشير الوثيقة صراحة إلى حماية أمريكا لنفسها أمام الهجرات، التهديدات العابرة للحدود، الإرهاب، التجسس والاتجار بالبشر.
تسعى وثقية ترامب إلى استعادة هيمنة أمريكا على النصف الغربي من العالم. تدمج الإستراتيجيةُ الجديدة السياسةَ الاقتصادية مباشرة بالأمن القومي. تُعطي الإستراتيجية الجديد الأولوية لإعادة توطين الصناعات وتلتزم باستعادة القدرة التصنيعية المحلية في القطاعات الحيوية إستراتيجيا وأهمها الصناعات العسكرية. وتخطط الإستراتيجية للهيمنة على قطاعات الطاقة، القطاعات المالية، التمويل الرقمي والابتكار.
تهتم الإستراتيجية المطروحة بالاستثمار في تعدين المعادن الحيوية في أفريقيا ونصف الكرة الغربي لتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد التي تُهيمن عليها الصين. تخصيص موارد كبيرة للتحديث النووي، بما في ذلك الصواريخ الباليستية العابرة للقارات الجديدة، ومنظومة دفاع صاروخي متقدمة أطلق عليها اسم "القبة الذهبية".
لا تولي الإستراتيجية الأميركية الجديدة اهتمامًا عالميًا، لمسألة تعزز الديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم الليبرالية. على خلاف ما تدعيه إستراتيجية بايدن الوطنية لعام 2022، التي نصت على أن "الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية تتنافس على إظهار أي نظام حكم قادر على تقديم أفضل الخدمات لشعوبها وللعالم".
ترى الولاياتُ المتحدة في نفسها أكبرَ منتج للنفط والغاز الطبيعي في العالم. لا تبدي أميركا إهتمامًا بمسألة الانبعاثات الكربونية وقضية التغير المناخي. كما أكدت اهتمامها بمعالجة نقاط الضعف الملموسة في سلاسل التوريد.
يمكن من خلال الوثيقة ملاحظة استعداد واشنطن الصريح للتخلي عن حلفائها وهجومها على نظامهم السياسي، ذلك التحالف الذي رعته الولايات المتحدة عقودًا. ذلك التحالف الذي وفّر أساسًا لاستقرار أوروبا ولأمريكا نفسها. صحيح أن أوروبا سوف تتأثر نتيجة الانسحاب الأميركي، لكن النتيجة المحتملة لن تصب في صالح واشنطن على الأغلب. فإما أن يؤدي ذلك إلى إضعاف أوروبا، وتمهيد الطريق أمام القوى المنافسة مثل روسيا والصين لبسط نفوذها على القارة العجوز، أو أن يفرز أوروبا أكثر قوة واستقلالًا، وأكثر قدرة على تحدي المصالح الأميركية.
كتب بوريل فونتلس الممثل الأعلى السابق للشؤون السياسية والأمنية في الاتحاد الأوروبي على شبكة X: "أظهر فانس نائب الرئيس الأمريكي أزدراءه لأوروبا بوضوح في ميونيخ. والآن رفعه ترامب إلى مستوى استراتيجية للأمن القومي. إنه إعلان حرب سياسية على الإتحاد الأوروبي. أنه يريد أوروبا بيضاء مقسمة إلى دول. خاضعة لمطالبة وتفضيلاته الإنتخابيه". وأضاف بوريل: "يجب على الزعماء الأوروبين التوقف عن التظاهر بأن ترامب ليس خصمًا، والإختباء وراء صمت خائف و راضٍ، وبدلًا عن ذلك التأكيد على سيادة الاتحاد الأوروبي ـ التكنولوجية والأمنية والدفاعية والسياسية".
جاءت تعليقات المسؤول الأوربي السابق في الوقت الذي جدد فيه ترامب انتقاداته اللاذعة لأوروبا، التي وصفها بأنها مجموعة "متداعية" من الدول يقودها "ضعفاء"، وانتقد الزعماء الأوروبين لفشلهم في الحد من الهجرة وإنهاء حرب روسيا في أوكرانيا. كما قامت الولايات المتحدة مؤخرًا بتحديث استراتيجيتها للأمن القومي، مشيرة إلى أن أوروبا، التي تواجه مشاكل اقتصادية، تتجه أيضًا نحو "محو الحضارة".
جاء في الوثيقة الاستراتيجية الأمريكية من بين أمور كثيرة: "ومن بين المشاكل الأكبر التي تواجه أوروبا أنشطة الاتحاد الأوروبي وغيرة من الهيئات فوق الوطنية، التي تقوض الحريات السياسية والسيادة. وسياسات الهجرة التي تعمل على تحويل القارة وتخلق الاضطرابات، الرقابة على حرية التعبير، قمع المعارضة السياسية، الانحدار الحاد في معدلات المواليد، فقدان الهوية الوطنية والثقة بالنفس".
إن ازدراء الديمقراطية الليبرالية، وهي المظلة الأيديولوجية للنظام الدولي. والحفاظ على علاقات وثيقة مع دول تختلف نظمها السياسية عن النموذج الأميركي طالما تحقق الشراكة أهدافا مشتركة. المشكلة في هذا الإعلان ليس استعداد أميركا للتحالف مع الأنظمة الاستبدادية، فتاريخ واشنطن حافل بعشرات الحالات التي تحالفت فيها مع أنظمة قمعية بل ونصبت بنفسها هذه الأنظمة، حينما اقتضت مصالحها ذلك. لكن المشكلة أن أميركا تمنح من خلال هذا العنوان صوتا ونفوذا للقوى الأكثر تطرفا في المجتمعات الديمقراطية، عبر انتقاد "القيود" التي تفرضها بعض الحكومات الأوروبية على شعوبها باسم حماية الديمقراطية.
المفارقة حين يتزامن هذا النهج مع تضييق واسع داخل الولايات المتحدة على الأصوات المنتقدة لإسرائيل، مما يكشف انتقائية واضحة في توظيف خطاب الحريات والديمقراطية. وإذا وُضع ذلك جنبًا إلى جنب مع ازدراء القادة في أوروبا والتسفيه بشأن رؤيتهم للصراعات كما في أوكرانيا، واتهامهم بتقويض العملية الديمقراطية، فإن ذلك يفتح مجالا لتدخلات أميركية غير مسبوقة في شؤون أوروبا.
لا يعد هذا هو التناقض الوحيد في الوثيقة التي تدعو صراحة إلى الانقلاب على نصف قرن، من إعطاء منطقة الشرق الأوسط الأولوية، على جميع المناطق الأخرى، بدعوى تراجع أهمية المنطقة للولايات المتحدة بسبب تنوع إمداداتها من الطاقة وتراجع نفوذ إيران. تعود لتؤكد أن لأميركا مصالح جوهرية في ضمان عدم وقوع إمدادات الطاقة من المنطقة في أيدي عدو مباشر، وأن يظل مضيق هرمز مفتوحًا، وأن يبقى البحر الأحمر صالحًا للملاحة، وألا تكون المنطقة حاضنة للإرهاب ضد المصالح الأميركية، وأن تظل إسرائيل آمنة.
يتبع...
#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)
Abdul_Hamid_Barto#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرة إلى عالم اليوم (6)
-
نظرة إلى عالم اليوم (5)
-
نظرة إلى عالم اليوم (4)
-
نظرة إلى عالم اليوم (3)
-
نظرة إلى عالم اليوم (2)
-
نظرة إلى عالم اليوم (1)
-
مع الشاعر سمير الصميدعي
-
البحث المتواصل طريق خيرالله سعيد
-
التاريخ حجر الزاوية
-
حين أبحر جمال العتابي
-
رواية -كدمات اليمام- (3 والأخيرة)
-
رواية -كدمات اليمام- (2)
-
رواية -كدمات اليمام- (1)
-
في عالم الذكاء الإصطناعي
-
أوامر ترامب العجولة
-
إهانة التضحية
-
يحيى علوان رحل مسالماً
-
حميد الحريزي يرسم واحةَ الهذيان
-
جولة مع الروائي راسم الحديثي
-
الشاعر والمناضل مخلص خليل
المزيد.....
-
يبلغ من العمر 100 عام ويصنع ألعابًا خشبية يدوية لعيد الميلاد
...
-
في السعودية.. محميتا شرعان ووادي نخلة بمحافظة العُلا ضمن موا
...
-
شبكة CNN تتحدث إلى رئيس وزراء السودان وسط جهود التوصل إلى وق
...
-
مصر.. فيديوهات لفتاة -مخلة بالآداب- في الإسكندرية والأمن يرد
...
-
ناقلة النفط التي تطاردها الولايات المتحدة | بي بي سي تقصي ال
...
-
متى ستنتهي الحياة على كوكبنا الأزرق؟ وكالة ناسا تجيب
-
البرلمان الجزائري يصوّت على مشروع قانون يجرّم الاستعمار الفر
...
-
بالخرائط والأرقام.. كيف يحول مشروع -القدس الكبرى- الضفة إلى
...
-
موقع أميركي: هل يخفي لبنان مئات الضباط السوريين ويساعدهم على
...
-
تصعيد بين واشنطن وكراكاس.. ناقلة نفط تعود وقانون فنزويلي يجر
...
المزيد.....
-
النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط
/ محمد مراد
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|