|
التاريخ حجر الزاوية
عبدالحميد برتو
باحث
(Abdul Hamid Barto)
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 16:36
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
توشك الثقة باللافتات التي ترفعها الحكومات الغربية، أن تصل حافة الإنهيار. هذا على الرغم من أن المعاني المعجمية لتلك اللافتات تستحق الإحترام بذاتها ولذاتها. يقوم إحترام المفاهم بمعزل عن درجة الإخلاص لها أو عدمه من قبل مروجيها. لكن مما لا شك فيه أن غياب الصدق يضر بجمال تلك القيم. نعم وألف نعم لـ: حقوق الإنسان، لا للإبادة الجماعية، لا للتطهير العرقي، لا لسياسة التجويع والحصار الإقتصادي وغيرها.
مر إثنان وعشرون شهراً على حرب الإبادة والتجويع في غزة. كشفت تلك الحرب (الغزو) حقائق السياسة الفعلية للأطراف الدولية المختلفة. تتبنى واشنطن سياسة اللوحات الغامضة والمتناقضة، مع التأكيد على منطق القوة، بل القوة أولًا. أما مواقف الحكومات الأوروبية، فقد تنوعت بشكل واضح، بعد أن تحول مجرد الصمت الى فضيحة وجريمة مكتملة الأركان. ظهر التنوع على هيئة: إدانة واضحة للعدوان كما في أسبانيا، إرلندا، النرويج وغيرها. و بدأت في دول أخرى مرحلة من التململ البسيط والمحدود. ذلك مراعاة لتصاعد الإنزعاج الشعبي في داخلها، مثل: بريطانيا، ألمانيا وخطوة أعلى نسبيًا في فرنسا، وثالثًا وأخيرًا، هنالك مَنْ واصَلَّ سياسةَ محاباة تل أبيب مع إلقاء اللوم على الضحية في أي فرصة تتيح ذلك.
لا توجد في اللحظة الراهنة، قضية تَطرَحُ نَفسَها من حيث الأهمية والشدة والألم، مثل حرب الإبادة الراهنة ضد غزة وعموم الشعب الفلسطيني. كشفت تلك اللحظة المروعة المأساة العامة لعجز النظام الدولي و العربي بأكمله. لقد تراجعت القيم الإنسانية عند الحكام العرب، بل صارت مثارًا للحزن والسخرية أيضاً. يتصدر هذا المشهد تصريح رئيس أكبر دولة عربية، الذي جاء فيه: "مصر لم تغلق معبر رفح... ولن يُغلق أبدًا في وجه المساعدات الموجهة للفلسطينيين...". هل هناك أفظع من هذه الصلافة؟
يَنكشف الإهمالُ الرسمي العربي العام اليوم على أكثر من صعيد ومجال. كما يُقدم العَجزُ الحكومي مؤشرًا دقيقًا على ضعف إحترام معظم الحكام العرب للذات الشخصية، الوطنية وحتى الإنسانية. هذا الواقع المأساوي قد يُغلق الباب أمام تناول قضايا، قد تبدو ليست كبيرة، أو ليست ذات صلة بما يجري الآن، مثل: أحداث التاريخ، الآثار والشواهد، الفن، العلم والشخصيات التاريخية. يقول واقع الحال أن الترابط وثيق بين الأحداث الكبيرة والصغيرة. هذا الضعف الرسمي العربي نجده في كل المواقع والمواقف والمؤشرات. نقف اليوم عند قضية مؤلمة. تُقدم مؤشرًا محزنًا على تعمق روح المذلة وعدم المبالاة. يبدأ الضعف وإنعدام الهمة والوهن العام من تجاهل الأمس، لنرى ثمارها اليوم وغدًا. من حق الشعوب عند خذلانها أن تتهم الحكام بأقسى الإتهامات. لنقف اليوم عند حدود إتهامهم بالحماقة، التي أعيت من يداويها، مع العلم بأن الواقع يقول أكثر من هذا بكثير.
هاكم هذه المزامنة التي وقعت في بلدين عربيين، كانا في فترات عديدة أشبه بجناحي المنطقة كلها. تحلق بهما المنجزات، الآمال، الأوهام والإنكسارات أيضًا. تمت قبل فترة ليست بعيدة محاولة إزالة قبر ابن الجوزي (1116 ـ 1201م) الواقع في منطقة السنك ببغداد، لإقامة مرآب كبير للسيارات. ابن الجوزي شخصية تاريخية كبيرة. ألف نحو 300 كتاب في العديد من العلوم: اللغة، التاريخ والطب وغيرها. كما سبق محاولة الإزالة أن تَحول القبر إلى مكب للنفايات. بغض النظر عما لأبن الجوزي وعما عليه من وجهات النظر المختلفة. فهو والتاريخ لا يستحقان هذا التصرف الشائن والأحمق. بل يستحقان المناظرات العلمية من أجل خدمة الحاضر والمستقبل.
وعلى الضفة الثانية، أقدمت بلدية مدينة القاهرة على تصرف أشد حماقة وجهلًا. إذ أزالت قبر العلامة ابن خلدون مؤسس علم الإجتماع وشخصيات تاريخية وعلمية أخرى، من أجل بناء مرآب للسيارات أيضًا. المقابر التي هدمت تضم قباب جميلة العمران، وشواهد صخرية ذات قيمة تاريخية، فضلًا عن جمالية الخط الذي نُقش عليها. ربما قسوة المحن التي تمر بها منطقتنا تعرقل طرح مثل هذه القضايا. لكن عند التدقيق بالأمر نرى في هذه التصرفات الشائنة مقدمات لما وصلت إليه بلداننا.
إذا رفعنا ما يمكن أن تذهب إليه التقديرات بعداً من إتهامات. نقف عند حدود إتهام تلك الإجراءات بالحماقة كأرحم وصف. بل حتى نتمنى بأن تكون مثل هذه الأخبار مجرد دعاية سوداء وليست حقيقية. هنا ندع العلامة ابن الجوزي يدلي بتصوراته وإقتباساته عن الحماقة. ذكر في كتابه الجميل والغني "أخبار الحمقى والمغفلين" ص: 24: في أنَّ الحمق غريزة. قال عن أبي إسحاق، قال: "إذا بلغك أنَّ غنيًا أفتقر فصدَّق، وإذا بلغت أنَّ فقيرًا استغنى فصدَّق، وإذا بلغت أنَّ حيًا مات فصدَّق، وإذا بلغت أنَّ أحمق استفاد عقلًا فلا تصدِّق". و عن أبي يوسف القاضي، قال: "ثلاث، صدَّق باثنتين ولا تصدَّق بواحدة: إذا قيل لكَ إنَّ رجلًا كان معك فتوارى خلف حائط فمات فصدَّق، وإن قيل لك أنَّ رجلًا فقيرًا خرج الى بلد فاستفاد مالًا فصدَّق، وإن قيل لك أنَّ أحمق خرج إلى بلد فاستفاد عقلًا فلا تصدق". و عن الأوزاعي إنه يقول: بلغني أنه قيل لعيسى ابن مريم عليه السلام: يا روح الله إنك تحيي الموتي؟ قال: نعم بإذن الله، قيل: وتبرئ الأكمة؟ قال نعم بإذن الله، قيل: فما دواء الحمق؟ قال: هذا الذي أعياني".
توجد في القاهرة مساحة أوسع للمتابعة من بغداد. فمن بين المناطق التي تعرضت للاعتداء (الهدم): منطقة مقبرة الإمام الشافعي ومقبرة جلال الدين السيوطي ومقبرة السيدة نفيسة. هذا فضلًا عن حادثة قبر ابن خلدون و المقريزي بمنطقة مقابر الصوفية فى باب النصر، وابن هشام النحوي وتقي الدين السبكي وغيرهم الكثير من رموز تاريخية الأخرى. لم يحمي تلك المقابر، أنها تخضع لقانون اليونسكو، الذي يَعتبر تلك المنطقة منطقة تراث عالمي يجب الحفاظ عليها.
نُفِّذ قرار محافظ القاهرة القاضي بهدم مقبرة باب النصر على الفور. بُرر الهدمُ على أساس أنه يَستهدف إقامة موقف سيارات متعدد الأدوار. إن تطوير المدن وتخطيط إحتياجاتها الراهنة والمستقبلية، لا يقوم إطلاقاً على هدم وتخريب تُراثها. نلاحظ في معظم المدن العربية موجات عنيفة من الهدم والتخريب المتعمد لنسيجها العمراني، تحت حجج إقامةِ محاور، مَرَائِب، جسورٍ مرورية ومعارض تجارية كبرى. إن ذلك التخبط العشوائي يوحي للمتابعين بهواجس غير مريحة، تقف خلف تلك الأعمال. يؤكد المختصصون بأنه ليس بالضرورة أن يكون البناء الجديد على حساب شواهد تاريخية مهمة. قد يكون من المشروع إعتبار تلك الأعمال، تُمثل محاولات للتغريب وإنتهاك الماضي. وقطع صلات الأجيال الجديدة بجذورها وروابطها التاريخية.
ساهم مؤرخون من مختلف الأمم في إغناء مضامين التاريخ وإستثمارها إيجابيًا. طور المؤرخون الإغريق منهجياتهم التاريخية. كما كان لهم مساهمات عميقة في تطوير الدراسات والمعلومات التاريخية. يُعتبر "تاريخ هيرودوتس" أول عمل تاريخي نقدي معروف. كتبه المؤرخ هيرودوت (484 – 425 ق. م.)، الذي صار يُعرف باسم «أبو التاريخ». صاحب عبارة مصر هبة النيل. حاول هيرودوت أن يميز بين الروايات الموثوقة وغيرها. أجرى أبحاثه شخصيًا عبر السفر كثيرًا. قدم روايات عن عدة حضارات متوسطية. كان مهتمًا بالتَعَرّف على عادات البشر وتقاليدهم خارج بلاده. وقد وصف محطات أسفاره في كتابه بأسلوب ممتع و جذاب. كان رأيه بالعرب إيجابيًا للغاية. عبر عن أعجابه بأخلاقهم، مُشيرًا إلى أنهم يحترمون المواثيق و العهود.
كذلك لعب الفلاسفة دورًا حيويًا في ميدان التاريخ. يُعتبر الفيلسوف اليوناني هرقليطس (535 ق. م ــ 474 ق. م)، من رواد الفلسفة الغربية. كانت لديه نظرة فريدة للتاريخ والواقع. وهو من الفلاسفة الذين عاشوا في عصر ما قبل سقراط. تميزت فلسفته بالتركيز على التغيير والحركة في الكون. اشتهر بمقولته الشهيرة "لا أحد يستطيع أن يستحم في نفس النهر مرتين" في إشارة الى حالة التغيّر المستمر في العالم من حولنا.
يُشكل التاريخ جزءًا أساسيًا من هويتنا الثقافية والتاريخية. كما يقدم الطراز و الإرث العمراني وصيغ التعامل مع الرحلين عن الدنيا، مؤشرًا على نوع و طبيعة النظرة الاجتماعية السائدة ومستوى ونوع الحياة. يَمُدُّ التاريخُ وشواهده من آثار وموجودات أخرى الحاضرَ بالكثير من مصادر المعرفة والقوة. إن قائمة المؤرخون في بلادنا طويلة وغنية، منهم على سبيل المثال: أبو الريحان البيروني (973 ـ 1048م.)، أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (896 - 957م.) مؤرخ، جغرافي ورائد نظرية الانحراف الوراثي وغيرهما.
كان للمؤرخون العرب مساهمات كبير في ميادين علمية أخرى. في مقدمهم يقف ابن خلدون. وُلد عبد الرحمن بن خلدون (1332 ـ 1406م.). هو مؤرخ كبير وفيلسوف اجتماعي وسياسي. يُعتبر بحق مؤسس علم الاجتماع. كانت لديه نظرة واسعة للتاريخ وأهميته. يؤكّد على أَنَّ "التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق". "وبين ظاهر التاريخ وباطنه قد تضيع كثيرٌ من الأمجاد، ويُنسَى إرثٌ من المفاخر، وتُجهَلُ كنوزٌ من الإنجازات". وهو واضع أصول فسلفة التاريخ، أنتج موسوعة تاريخية اعتُبرت من أهم مصادر الفكر العالمي.
جاءت تتويجًا لمسيرة احترام التاريخ عبارة كارل ماركس: "أعرف علماً واحداً هو التاريخ". هذه المقولة تُعبر عن قيمة التاريخ كعلم أساسي لفهم العالم. يمكن تفسير هذه العبارة بأنها تعكس فكرة أن التاريخ هو مفتاح لفهم حاضرنا وتوقع مستقبلنا، وإن دراسة التاريخ هي الأساس لفهم أي علم آخر.
#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)
Abdul_Hamid_Barto#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حين أبحر جمال العتابي
-
رواية -كدمات اليمام- (3 والأخيرة)
-
رواية -كدمات اليمام- (2)
-
رواية -كدمات اليمام- (1)
-
في عالم الذكاء الإصطناعي
-
أوامر ترامب العجولة
-
إهانة التضحية
-
يحيى علوان رحل مسالماً
-
حميد الحريزي يرسم واحةَ الهذيان
-
جولة مع الروائي راسم الحديثي
-
الشاعر والمناضل مخلص خليل
-
حين يَتولى مُنصفون مهماتٍ
-
باب المنفى
-
لحظة مجيدة في نضال الشعب الفلسطيني
-
لماذا يحمل الطلبة الراية الأعلى؟
-
أمينة الرحال بطلة من بلادي
-
الترقب السياسي السلبي
-
الذكرى الخامسة لرحيل مناضل
-
بين الساهر و الدكتور صالح
-
حول شخصنة الأزمة
المزيد.....
-
أوكرانيا تُعلن تدمير مقاتلة روسية.. وتتحدث عن تكلفتها على مو
...
-
من موقع سري في الحرب الباردة إلى وجهة سياحية.. اكتشف قاعدة ص
...
-
تلقت لقاحي الكزاز وداء الكلب.. سيدة تروي قصة تعرضها لعضة -فأ
...
-
هل انتهت الحرب الباردة حقاً؟
-
خطة نتنياهو بشأن غزة في مهب الريح - مقال في الإندبندنت
-
هدنة هشّة وتوتر متصاعد في السويداء ومبعوث ترامب يحذر من العن
...
-
في تعليق على نشر ترامب للغواصات النووية: -الكرملين- يدعو إلى
...
-
جنون السيلفي .. شاب يتعرض لصدمة كهربائية مروعة فوق قطار في ك
...
-
قوات سوريا الديمقراطية تشتبكت مع قوات حكومية بحلب
-
مداهمات إسرائيلية جنوب سوريا قرب الجولان
المزيد.....
-
السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية)
/ رحيم فرحان صدام
-
كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون
/ زهير الخويلدي
-
كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية
/ رحيم فرحان صدام
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
المزيد.....
|