أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - عبدالحميد برتو - نظرة إلى عالم اليوم (2)















المزيد.....


نظرة إلى عالم اليوم (2)


عبدالحميد برتو
باحث

(Abdul Hamid Barto)


الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 17:48
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
    


تموجات في العلاقات الدولية
يمكن بسهولة ملاحظة الفروق الكبيرة بين حركة الأساليب وحركة الأهداف لدى الدول الكبرى. تملك الأساليب عادة مرونة أكبر من مرونة الأهداف. إذ يجري تكييف الأساليب حسب طبيعة الواقع القائم، دون المساس بجوهر الأهداف. الأهداف في الواقع هي الناتج الفعلي للعقلية والمصالح. من هذا المنطلق يتطلب الأمر الوقوف عند بعض الأساليب الأكثر أهمية وإستخدامًا. إذ تسعى الدول الكبرى الإستعمارية في النظام الدولي القائم حاليًا إلى الهيمنة بحكم طبيعتها، أينما أمكن ذلك. هي لا تتورع دومًا عن إتباع أساليب إضعاف منافسيها، وحتى التوابع أيضًا، بإستثناء تلك الدول، التي تريد إستخدامها ضد آخرين كتهديد قائم أو مباشرة. تُعد اسرائيل النموذح الأكثر وضوحًا في هذا الجانب من تلك السياسة. كما تستبعد أو لا تحبذ الدول الكبرى الدخول في مواجهات مباشرة مع البلدان أو القوى الأخرى، معتمدة أسلوب التدخل بالوكالة عبر طرف آخر.

تتدخل الدول الإستعمارية بكل دولة على حدة، عبر خلق المنافسات والصراعات المحلية، وفي الأقاليم ككل أيضًا. تستخدم في كل صراع أساليب كثيرة، منها: تخويف الدول الصغيرة من الدول متوسطة الحجم والقوية نسبيًا في المنطقة، تُحرك مكامن المصلحة والغرور لدى الدول المتوسطة، تأجيج صراعات داخلية حسب الظروف الملموسة في كل بلد، تأجيج الصراعات القابلة للإحتراق بسرعة، مثل: الطائفية، الدينية، العرقية، تُحرك بعض المثالب في العلاقات التاريخية، حياكة إستفزازات بمهارة و إعداد ينطلي على أوساط واسعة من الراي العام في المواقع المستهدفة وغيرها. كما لا تسمح في الوقت نفسه للدول الإقليمية المتوسطة بفرض هيمنتها كاملة أو تتجاوز الحدود المرسومة لها من قبل الدول الكبرى.

بديهي أن الحروب بالوكالة، التي تخوضها الأصابع الموالية، أو التصادم بين الدول في أي إقليم تصمم ويخطط لها، بما يخدم أهداف الدول الكبرى، بالهيمنة والفوائد الهامة سياسيًا واقتصاديًا. وما يحقق لها نفوذًا، لا تخسر فيه أية إستثمارات. هذا إلى جانب الفوائد الكبيرة، التي تحصل عليها، في مجالات السوق والمعادن الأساسية والنادرة والثمينة. كما تحاول أن تظهر خلال تلك الأحداث، بأنها تلعب دور حمامة السلام الحريصة على دماء الناس، ذلك من خلال دور الوسيط "الشريف والمنصف". كما لا تريد القوى الكبرى أن تظهر أمام شعوبها، بأن شعاراتها الطيبة، التي تكثر من ترديدها مجرد لغو. و لا تريد أن تمنح الجماعات التي تدعو إلى السلام، وتقف ضد إنتهاك حقوق الشعوب الأخرى، فرصة واسعة لمخاطبة الناس بوقائع تعريها.

زرعت الدول الاستعمارية كيانات غريبة في مختلفة الأقاليم، التي يمكن فيها ذلك، تأسيسًا على أساطير أو روايات دينية أو خرافية أو خلق أية رواية أخرى يمكن تمريرها. تمرر تلك الروايات في العلن، ولكن جوهر الخطط يرسم بوضوح طبيعة المصالح المطلوبة في كل مشروع. كل جسم غريب تجري زراعته، لا تستقبله المنطقة المعنية بالقبول و تحاول مواجهته. يتحول ذلك الكيان المزروع عنوة إلى طرف موثوق به من جهة المنشأ. يُدعم بطريقة إستثنائية بكل عناصر القوة، بما يحوله الى قاعدة أو معسكر أمامي للدولة أو الدول المُؤَسسةِ المعنية. يحمل سفر التاريخ شواهد كثيرة في هذا المجال. بدأت بهذا السلوك الإستعماري بريطانيا، و ورثته على نطاق أوسع وأكثر ضراوة للولايات المتحدة الأمريكية.

الحرب على العراق
غزا العراق الكويت في 2 آب/ أغسطس 1990. كان الغزو خطوة غير محسوبة من جانب قيادة السلطة العراقية. خاصة فيما يتعلق، بما يعتمل و يَتغيَّر حينها داخل حركة العلاقات الدولية. هذا إذا استثنينا مخاطر تلك الخطوة، على طبيعة العلاقات المُفترضة بين الدول العربية وعموم الدول المتجاورة، وإمكانات إستثمارها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية ضد مصالح جميع دول المنطقة. كل حسب ما يناسبه و وفق بُنية المصالح الغربية. تَوصَلت السلطاتُ العراقية لحظتها إلى إستنتاج لا يدعمه الواقع الدولي. يقوم ذلك الإستنتاج على تقديراتٍ تُفيد بأن واشنطن لن تتورط في حرب مباشرة على العراق، وإن موسكو ستقف إلى جانبه. كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون في تلك الفترة، يعتقدون إعتقادًا راسخًا، بأنهم يُوشِكُون الوصولَ إلى بداياتِ بناءِ عالم جديد مختلف تمامًا، عن الحالة الدولية القائمة حينها، حيث العالم ثنائي القطبية. وإنهم يخطون أولى خطواتِهم بتخطيط وثبات صوب عالم القطبية الغربية الواحدة.

بعد نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية وخلالها (1980 ـ 1984)، تصاعد و تطوّر الخلاف بين العراق والكويت. وأخيرًا تحول الخلاف إلى نزاع. إتهم العراقُ الكويتَ عام 1990 بسرقة النفط العراقي، عبر حفر آبار نفطية بطريقة مائلة، في حقولها الحدودية مع العراق. يرى بعض المحللين السياسيين و المهتمين بالمنطقة، أن السبب الحقيقي وراء هذا الاتهام، يقوم على محاولة التخلص من الديون الكويتية الكبيرة التي في ذمة العراق، التي أضطر إليها من جراء متطلبات الحرب العراقية ـ الإيرانية، و التي طالب العراق مرارًا و تكرارًا بإسقاطها. ولكن الكويت رفضت ذلك بصورة قاطعة.

اجتاحت القوات العراقية الكويت. وفي أثر ذلك فُرضت عقوبات اقتصادية على العراق. كما طالب مجلس الأمن الدولي القوات العراقية بالانسحاب من الأراضي الكويتية دون قيد أو شرط. جاءت الفرصة سانحة للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اللتين استعدتا للحرب على العراق. بدأت عمليات تحرير الكويت من القوات العراقية في 17 كانون الثاني/ يناير 1991. حققت عمليات قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية نصرًا هامًا، مهد لها الدخول إلى أجزاء من الأراضي العراقية. تركز الهجوم البري والجوي على الكويت والعراق وأجزاء من المناطق الحدودية مع السعودية. قامت القوات العراقية بالرد، عن طريق إطلاق عدد من صواريخ سكود على إسرائيل والعاصمة السعودية الرياض.

عندما غزا العراق الكويت، تَشكّل في الحال تحالف دولي واسع، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبدعم من مجلس الأمن، بما في ذلك موافقة الاتحاد السوفييتي، تعد هذه الموافقة نقطة مفصلية في مواقف الإتحاد السوفيتي. لم يستخدم السوفييت حق النقض (الفيتو) ضد قرارات مجلس الأمن للأمم المتحدة، بل شاركوا دبلوماسيًا في دعم الجهود الغربية والعربية لإخراج العراق من الكويت. يمكن إعتبار حرب إخراج القوات العراقية من الأراضي الكويتية، خطوة تصب في طريق بدايات تفكك النظام الدولي ثنائية القطبية، ذلك النظام الدولي الذي نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

وقعت حرب تحرير الكويت عام (1991). في لحظة تاريخية إنتقالية دقيقة وحساسة. يشهد العالم فيها تغيرات كبيرة وهامة جدًا. تَلَمَّسَ فيها أي متابع جاد، ما يجري في رحم النظام الدولي. و أن حالة الثنائية القطبية، التي سادت في النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، خلال السنوات (1947–1991(، حيث تقاسمت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي النفوذ العالمي، كثمرة مادية للعمليات الحربية. بدأت تلك الحالة تُعاني بل تتداعى بصورة متسارعة و خطيرة، حيث لم يبقى من بنيتها الهرمية القائمة سوى الإتحاد السوفيتي منفردًا، يعيش أشهره الأخيرة من العام نفسه 1991. إذ ظهرت في الحالة القائمة شرقًا في مجموعة منظومة الدول الإشتراكية السابقة منذ عام 1989، أنظمة جديدة موالية للغرب بحماسة و وضوح. هنا ساد تهلهلٌ و تصدع وضعف تدريجي في حالة الثنائية القطبية. تراخى الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات على صعيد المواجهات الفكرية والعملية مع الغرب. وصل الأمر بسكرتير الحزب ميخائيل غوباتشوف حد التغني بإقتصاد السوق السويدي ونوع إشتراكيته. يرافق ذلك تراجع اقتصادي وسياسي في الإتحاد السوفيتي، وفي البنية الداخلية للحزب الذي يقود الدولة، وصولًا إلى انهيار الاتحاد وتفككه الكامل في كانون الأول/ ديسمبر 1991.

قادت الولايات المتحدة الأمريكية تحالفًا عسكريًا دوليًا، تَشكل في 2 آب/ أغسطس 1990، ضد الغزو العراقي للكويت. يضم التحالف 34 دولة تحت قيادتها. بعد أن منح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تفويضًا بذلك. إن ما عُرف بحرب تحرير الكويت، كان علامة أولية علنية وعملية، على شبه النهاية الفعلية لدور الاتحاد السوفيتي الدولي. وهو مؤشر واضح أيضًا، يصب في مجرى بداية نظام دولي أحادي القطبية، بقيادة الولايات المتحدة. بدأت العمليات العسكرية في 17 كانون الثاني/ يناير 1991 تحت أسم "عملية عاصفة الصحراء". انتهت عملية تحرير الكويت في 26 شباط/ فبراير 1991. بلغت تلك الحرب ذروتها في المرحلة الأرضية، التي بدأت في 24 شباط/ فبراير 1991. هذه الحالة أظهرت تفوّقًا استراتيجيًا وسياسيًا كاملًا لواشنطن.

تلمس المراقبون بعض مؤشرات الضعف بمواقف الإتحاد السوفياتي في حرب الخليج وبقية التطورات الدولية الأخرى. إلّا أن المؤشرات الحاسمة و البارزة على دخول العالم في مرحلة جديدة. توضحت بما لا يقبل أي درجة من الشك، من خلال سقوط جدار برلين، تفكك كتلة الدول الإشتراكية في شرق أوروبا عام 1989 تباعاً. يمكن القول إن التجسيد العملي النهائي لانتهاء حقبة الثنائية القطبية قد تحقق فعلًا، منذ تفكك الإتحاد السوفيتي نفسه رسميًا.

مر عالمنا بمرحل متعاقبة خلال العقود الأخيرة، من أهمها:
أ ـ عجز الاتحاد السوفييتي في أيامه الأخيرة عن لعب أي دور موازن للقوة الأمريكية في القرارات و الأحداث الدولية.
ب ـ هدم جدار برلين وتفكك منظومة الدول الإشتراكية في شرق أوروبا تباعًا، وأخيرًا تفكك الإتحاد السوفيتي نفسه.
ج ـ تولت الولايات المتحدة الأمريكية في بداية التسعينيات القيادة الفعلية للنظام الدولي الأحادي القطبية الجديد، الذي تلى مرحلة الثنائية القطبية و الحرب الباردة، حيث تحكمت كلمتها بالقرارات في مجمل الشؤون الدولية.
د ـ وأخيرًا، يمكن القول: إن العالم سادته حالة، يمكن أن توصف بفترة التحول أو الإتجاه غربًا. بدأت تلك الفترة بعد تفكك المنظومة الإشتراكية في دول شرق أوروبا، وحلف وارشو، ومن ثم تفكك الإتحاد السوفيتي. إستقطب الغرب معظم دول العالم. و غابت أية مؤشرات واضحة غير هذا الإتجاه، حيث غاب أي إنتصار حقيقي لصالح ما كان يُعرف بحركات التحرر الوطني. طبعت هذه الصفة أو الحالة العالم بأسره. بإستثناء الصين وبضع دول أخرى حافظت على خصائصها العامة، السابقة والمعلنة. و لكن بعد 11 عاما من تلك الفترة، أي حتى عام 2000. لاحت في الأفق الدولي من جديد مؤشرات مهمة، تظهر تململًا وإعتراضاتٍ ومساحةً ما من المنافسة والأمل في الوضع الدولي، ولحد ما بعض حالات النهوض الثوري مجددًا.

تفكك الاتحاد السوفيتي
لنتابع سير التطورات الهامة وكيف حصلت خلال العقود الأخيرة. تراكمت أحداثٌ مهمة منذ عام 1989. تصب في قناة تولي واشنطن قيادة السياسة الدولية. منها: سقوط جدار برلين 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، بعدها تفكك المنظومة الإشتراكية في شرق أوروبا، حرب الخليج الثانية، و كانت الخاتمة في انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي نفسه في 26 كانون الأول/ ديسمبر 1991. وهو التاريخ الرسمي لنهاية الوجود القانوني للدولة السوفيتية. تم ذلك بعد يوم واحد من استقالة الرئيس السوفيتي الأخير ميخائيل غورباتشوف في 25 كانون الأول/ ديسمبر 1991.

ألقى ميخائيل غورباتشوف في 25 كانون الأول/ ديسمبر 1991 خطاب الاستقالة من رئاسة الاتحاد السوفيتي. بعد الخطاب جرى إنزال العلم السوفيتي عن مبنى الكرملين، و رفع العلم الروسي بدلاً عنه. بعد يوم واحد من انزال العلم السوفيتي، صادق مجلس السوفيت الأعلى رسميًا على حل الاتحاد السوفيتي، وإعلان استقلال 15 جمهورية كانت جزءًا منه. ثم دعم الرئيس الروسي بوريس يلتسين تليمذه فلاديمير بوتين، الذي رشحه لاحقًا لقيادة روسيا. وعد الأخير الناخبين بالاستقرار وحماية مكانة روسيا في العالم.

بعد تلك الإنهيارات والتحولات العاصفة الى يومنا الحالي، يُطرح سؤال: هل ظهرت تحولات أو تبدلات في المواقف الدولية اتجاه للغرب؟ هذا السؤال يفرض نفسه بقوة، لأن الأجوبة عليه قد تقدم مؤشرات مهمة، لحركة الأحداث والوعي العام ارتفاعًا و هبوطًا. شهد العالم منذ انهيار جدار برلين سنة 1989 وحتى اليوم (2025)، سلسلة من التحولات السياسية والاقتصادية المتضادة، في دول كانت تُعتبر في لحظة ما قريبة من الغرب، أو تسعى للانضمام إليه، ثم حدثت فيها تحولات معادية للغرب الإمبريالي بدرجات مختلفة. لابد من نظرة متفحصة ومنظمة لتعاقب التطورات في الفترات والمناطق المختلفة.

شهد العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة، سلسلة من التحولات السياسية أشبه ما تكون بالانتصار كامل للغرب. بلغت تلك التحولات ذروتها، بتفكك الاتحاد السوفيتي. سادت خلال تلك التحولات وبعدها حالة من الذهول و التراجع و الانحصار، في مسيرة ما يُعرف بحركات التحرر الوطني. تجلى ذلك بإنحسار عند و في الحركات الوطنية واليسارية عامة. سواءً كانت تلك الحركات على علاقة وطيدة مع الإتحاد السوفيتي، أو تحمل له بعض ملامح العداء والإختلاف والنقد المرير. إن إنفراد الغرب الإستعماري بقيادة العالم تحول لسنوات قليلة، إلى كابوس للحركات اليسارية، التي تحمل مضمونًا إجتماعيًا تقدميًا. و ولّد ذلك الوضع حالات من الياس والقنوط وفقدان الأمل. وإن لم يدم ذلك البؤس طويلًا.

بدأت تلوح في الأفق الدولي بعد عام 2000 حالات وتطورات تصب في قناة تعدد الأقطاب، منها: الانحسار في دور القطبية الأحادية، المتاعب الجدية داخل الولايات المتحدة نفسها، حالات عدم الإنسجام بين الحلفاء الغربيين، تنامي دور ومكانة الصين في السياسة والاقتصاد الدوليين، مساعي روسيا لإستعادة جزءٍ من دورها الدولي كدولة قومية، الحرب الروسية ـ الأوكرانية، و تصاعد الروح الوطنية في دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية. كل هذه المستجدات وغيرها تستحق المزيد من المتابعة والتحليل وإستخلاص النتائج و العِبَر، وتقدير إنعكاساتها على واقع ومستقبل العالم. سوف نتوقف عند هذا النقاط وغيرها، خلال الفقرات القادمة من هذه الدراسة.

ارتفاع أسهم الصين
لم يستمر الحال الدولي على المنوال الذي سعى إليه الغرب. إذ حدثت انتكاسات في الهيمنة الغربية. ظهرت تحولات معادية للغرب بدرجات مختلفة ومتفاوتة، بدول كانت تُعتبر في لحظة ما قريبة من الغرب، أو تسعى للانضمام إليه. يشهد العالم اليوم بوضوح ما يقترب من تعددية الأقطاب، حيث لم يعد الغرب النموذج الوحيد الجذاب والقوي وبدون منافس. هنا بدأت حالات من التململ العفوي والمنظم.

لكن من زاوية أخرى يبدو أن الصين إتخذت مسارًا مختلفًا، ولكنه إلى أمام. إذ اقترنت التحولات الأخيرة في الصين، التي عُرفت بالحِقبة الجديدة، بنجاحات كبيرة خاصة في الميدان الإقتصادي. برزت تلك الحالة أكثر وضوحًا، عند تولي شي جين بينغ عام 2012 رئاسة الحزب الشيوعي الصيني و رئاسة جمهور الصين الشعبية.

جرى إضفاء سمات صينية على النظام الاشتراكي، دون تنصل من الجذور الأساسية للماركسية. نُظر بايجابية الى كل الفترات والقيادات السابقة، التي مرت على الثورة الصينية. إبتداءً من ماو تسي تونغ قائد ومؤسس الصين الجديدة. مرورًا بـقيادة دنغ شياو بينغ، الذي عُرف بمهندس الإصلاح الصيني، طبعًا إلى قائد المرحلة الحالية شي جين بينغ، الذي وضع الصين في موقع مرموق وهام في عالم اليوم. هذا الموقف منح الحركة التاريخية للصين صفة الإنسجام والتراكم البناء. إن عملية إضفاء الطابع الصيني على الماركسية، و منع أية محاولة للتعصب، تحت شعارات أقل من الوطنية السمحة والأممية البناءة. فالاشتراكية والنزعة الأممية تمنح الأوطان قوة إضافية، و توجه دقيق لكل عملية بناء جاد. هي شجرة تنمو على أرض ومن أرضها تتغذى أيضًا وتُغذي. هذا ما تقوله القيادة الصينية الحالية.

يكرر شي جين بينغ الكثير من المقولات، مثل: لكي تتقدم الثورة الإجتماعية تتطلب فتح الأبواب، أمام الثورة العلمية والتكنولوجية والثورة الرقمية، لتنمو مع الثورة الإجتماعية، وتتكامل جميعًا في بودقة متراصة و واحدة. تتقدم الثورة بمضموها الإجتماعي إذا تضافرت عوامل هامة، منها: العزم، الحماسة، العدل، الروح الثورية والإرتقاء بالبناء الثوري. طريق الثورة ليس إنتصارات أو إنكسارات حسب، إنما طريق تغيير الواقع إلى مساحات وفضاءات أرحب، ولكن بإصرار و عزم وخصال ثورية عالية. هذه هي المواقف واللغة من أبرز ما تتبناها القيادة الصينية، و يبقى الإختبار الحقيقي على أرض الواقع التنفيذي.

يقول معظم المتابعون لسيرة الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ إنه يؤمن بعمق ويبجل ويفخر بكل منجزات الثورة الصينية، بل هو يتمسك بمفرداتها الأولى التي تتردد بكل خطاباته ومعالجاته الفكرية والسياسة. ومن المعلوم أن كل ثورة إجتماعية كبيرة تخلق مفرداتها. هذه حالة نجدها في قواميس كل الحركات السياسية والإجتماعية. تُخلق عبر مسيرتها ومن خلال توجهاتها والأهداف التي ترسمها لمسيرتها، ولا ينبغي تجاهل الفلسفة التي تقوم عليها أي حركة سياسية أو إجتماعية.

يَذكر أنصارُ التوجهات الجديدة للثورة الصينية، أن شي جين بينغ صب سلوكًا حيويًا متوثبًا في عروق كل المصطلحات الكلاسيكية للثورة الصينية. أضحى الحزب من خلال ذلك السلوك و الاصرار حزبًا حيويًا، يعتز بمنجراته الحاضرة ويفخر بمآثره التاريخية. يدعو الحزب إلى مواصلة الثورة حتى إكتمالها. كما يدعو إلى العمل على الترابط الحاسم والدقيق بين المنطلقات النظرية والتاريخية والواقع.

حتى فترة قريبة جرى التعامل و النظر الى الصين كدولة نامية. لم تتنبه الولايات المتحدة والدول الغربية إلى ما حققته الصين من منجزات إلّا في السنوات الأخيرة. فالصين بممارستها العملية لم تطرح نفسها كقوة أيديولوجية. إنما تعاملت بقوتها الإقتصادية حسب. بهذه المرونة منحت الصين نفسها فترة من العمل الحثيث. ولكن بصمت و تواضع صوب الوصول إلى قوة عالمية لا يمكن تجاهلها.

لم تملك الصين خلال صراعها الفكري مع الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي نفوذًا قويًا خارج إطارها الوطني. يأخذ شكل هيئات أو أحزاب شيوعية، تأخذ بالملاحظات والرؤى الصينية. إنما ظهرت تلك القوى الموالية، ككتل صغيرة محدودة التأثير في أغلب دول العالم. كانت الصين هي الأكثر تطرفًا في النظر إلى قضايا الصراع الطبقي وفي الصراعات الدولية. كانت تتردد كثيرًا في تلك الحقبة الشعارات الثورية المبالغ في ثوريتها، مثل مقولات ماو: "الإستعمار وكل الرجعية نمور من ورق". إستمرت تلك المواقف فترة طويلة قبل إنتهاجها الصين لسياستها الحالية.

يُذكر على صعيد التطورات الجديدة عالميًا، دخول نفس أو اسلوب جديد في الصراعات الأقليمية. جعل الصراع الإقليمي يأخذ بعدًا عالميًا. ففي الحرب الروسية ـ الأوكرانية. جهز الغرب بأكمله أوكرانيا بالمعدات، بما يتجاوز حدود بيع السلاح فقط. فكانت المشاركة الغربية تتجاوز حدود ذلك، لتدخل حدود المشاركة بالخبرات والمعلومات والمساهمات البشرية غير الظاهرة. باتت الحرب تأخذ سمة عالمية بأبعاد غير قليلة، أي يمكن الحديث عنها بأنها حرب أبعد مما بين بلدين فقط، مع إعتراف جزئي بأنها فيها خصائص أخرى تهدد السلم العالمي. تبرز بين أبعادها العالمية وجود أكثر من هدف وطرف: روسيا ـ أوكرانيا، الغرب ولحد ما الصين وأطراف أخرى.

تقدم الصين بعض أوجه المساعدة للجهد الحربي الروسي، لكنها مساعدة لا تأخذ صفة إستثنائية بين دولتين كبيرتين. ظلت الصين خلال الأزمة الأوكرانية محافظة على طبيعتها المرنة في التعامل مع حالة الحرب بين روسيا وأوكرانيا. لكن من جانب آخر، أرتفع حجم التبادل التجاري بين الطرفين عام 2024. وصل إلى 240 مليار دولار. وقد مال حجم التبادل التجاري بين البلدين لصالح الصين، بصورة واضحة، حيث بلغت الصادرات الصينية ستة أضعاف نظيرتها من روسيا.

باتت الشركات الصينية بديلًا للشركات الأوروبية المنسحبة من السوق الروسية. أصبحت الشركات الصينية المورّد الرئيس للأجزاء والمواد الدقيقة في تصنيع الأسلحة المختلفة. إذ بلغت نحو 90% من كامل واردات موسكو في هذا القطاع. كما تؤمّن الصين ما يقارب 70% من أدوات التصنيع اللازمة للصناعات العسكرية الروسية. يوجد بين البلدين تعاون واسع في مجال تصنيع الطائرات المسيرة، خاصة في مجال توفير المواد الأولية لروسيا. هذا فضلًا عن التعاون في مجال تبادل الخبرات. تُستخدم مئات المسيرات يوميًا في هذه الحرب. إن عمليات تبادل الخبرات والمعلومات بين البلدين، جعل المسيرات لها دور فعال نوعيًا في الحرب الحالية.

يتبع ...



#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)       Abdul_Hamid_Barto#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظرة إلى عالم اليوم (1)
- مع الشاعر سمير الصميدعي
- البحث المتواصل طريق خيرالله سعيد
- التاريخ حجر الزاوية
- حين أبحر جمال العتابي
- رواية -كدمات اليمام- (3 والأخيرة)
- رواية -كدمات اليمام- (2)
- رواية -كدمات اليمام- (1)
- في عالم الذكاء الإصطناعي
- أوامر ترامب العجولة
- إهانة التضحية
- يحيى علوان رحل مسالماً
- حميد الحريزي يرسم واحةَ الهذيان
- جولة مع الروائي راسم الحديثي
- الشاعر والمناضل مخلص خليل
- حين يَتولى مُنصفون مهماتٍ
- باب المنفى
- لحظة مجيدة في نضال الشعب الفلسطيني
- لماذا يحمل الطلبة الراية الأعلى؟
- أمينة الرحال بطلة من بلادي


المزيد.....




- أحمد الشرع: إسرائيل شنت على سوريا أكثر من 1000 غارة.. وهذا م ...
- روسيا والهند: ماذا حقّق بوتين ومودي بعد لقائهما في دلهي؟
- بعد هجوم بمسيّرة... شبح تشيرنوبيل يطل من جديد
- ترامب يقدم رؤية قومية حاسمة لأمريكا في العالم في وثيقة من 30 ...
- نقابات هوليود تحذر من صفقة استحواذ نتفليكس على -وارنر براذرز ...
- الشرع: سعي إسرائيل لإقامة منطقة عازلة في جنوب سوريا -يدخلنا ...
- -العهد للقدس-.. مؤتمر بإسطنبول يجدد إدانة الإبادة ورفض التطب ...
- نشاط روسي متزايد في البلطيق.. البحرية السويدية تكشف عن مواجه ...
- الأردن يضمن التأهل للدور الثاني من كأس العرب بعد الفوز على ا ...
- إيرانيات يتحدين النظام ويشاركن بمارثون بلا حجاب


المزيد.....

- النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط / محمد مراد
- افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار ... / حاتم الجوهرى
- الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن / مرزوق الحلالي
- أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا ... / مجدى عبد الهادى
- الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال ... / ياسر سعد السلوم
- التّعاون وضبط النفس  من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة ... / حامد فضل الله
- إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية / حامد فضل الله
- دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل ... / بشار سلوت
- أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث / الاء ناصر باكير
- اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم / علاء هادي الحطاب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - عبدالحميد برتو - نظرة إلى عالم اليوم (2)