|
|
نظرة إلى عالم اليوم (4)
عبدالحميد برتو
باحث
(Abdul Hamid Barto)
الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 18:16
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
تحولات جديدة و معسكرات متضادة يمكن القول: إن الفترة الواقعة بين عامي 2000 و 2010 شهدت بدايات أولية لعودة حالة من بعض التوازن النسبي بين الشرق والغرب. لكن من الضروري هنا، ملاحظة أن الصراعات لا تقوم على أسس أيديولوجية موحدة ومتبلورة واضحة تمامًا. وظهرت خلال هذه الفترة دول بدأت تتراجع عن الليبرالية الغربية في شرق أوروبا. كما رسّخت روسيا منذ عام 2008 نظامًا قوميًّا غير منصاع للغرب، خاصة بعد حربها في جورجيا. من جانب آخر، تعرضت بيلاروسيا تحت حكم الرئيس لوكاشينكو الى إنتقادات مريرة من الإعلام الغربي، الذي وصفها بـ"آخر دكتاتورية في أوروبا". تعتمد بيلاروسيا سياسة موالية لموسكو. في المقابل، إعتمدت كل من أوكرانيا وجورجيا سياسة التوجه غربًا، مما أدى إلى مواجهات مع روسيا لاحقًا. هذا المؤشرات تقول بوضوح إن حالة من التوتر بدأت تتصاعد بين الجانبين ـ الشرق والغرب.
جاء ذلك التصاعد بعد مضي نحو 11 عامًا، على إنفراد الولايات المتحدة بدور القوة العظمى الوحيدة. ثم بدأ الدور الأمريكي يتراجع تدريجيًا و ببطئ نسبيًا. ظهرت منذ عام 2000 حركات قومية معادية للغرب. أخذت طابعًا رسميًا في بعض الدول، وفي أخرى ظهرت على مستوى الثقافة الشعبية. تتركز تلك التحولات أو الانقلابات المعادية للسياسة الاستعمارية للغرب اليوم في العديد من المناطق، مثل: دول الساحل الأفريقي، الشرق الأوسط، بعض مناطق أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية.
كما برزت حالات جديدة بعد عام 2010، عُرّفت بالموجة الشعبوية المعادية للغرب. ظهرت تلك الحالات في عدد من دول الديمقراطيات الأوروبية الشرقية، التي بدأت تتبنى سياسات تناقض قيم الغرب الليبرالي. يمكن القول أن أنظمة دول شرق أوروبا الإشتراكية السابقة، مازالت في حالة مخاض، وبحث عن الهوية والمصلحة الذاتية في البناء الداخلي، وفي النظرة إلى العالم والعلاقات الدولية. هم يقارنون بين حالات رسمت لهم بكل مغرياتها وبين واقع يعيشونه. مازالت الأحزاب السياسية من أقصى اليسار الى أقصى اليمين في شرق أوروبا، تعاني مما يمكن وصفه بـ"معاناة التيه". وقد ظهرت قبل هذا حالات أكثر أهمية وتأثيرًا. يمكن وصفها بحالة من البحث عن المصالح الوطنية الذاتية في عالم اليوم. كان ذلك في كل من: الصين، روسيا، الهند، البرازيل وغيرها.
لنقف عند الحالات التي أشرنا إليها. و وصفت بأنها تحولات جديدة، و إن قسم منها أخذ صفة معسكرات متضادة. يمكن النظر على سبيل المثال إلى منطقة الساحل والصحراء في أفريقيا، التي تشمل: النيجر، مالي، موريتانيا، تشاد وبوركينا فاسو: شهدت هذه الدول انقلابات عسكرية، أطاحت بأنظمة الحكم فيها. كانت تلك الدول موالية للغرب وخاضعة له. ثم تحولت نحو روسيا. هناك من يعتقد أن نشاطات لدول ومنظمات أخرى أيضًا، ساعدت بهذا الاتجاه، مثل: مجموعة فاغنر/أفريكا كوربس.
يمكن أخذ النيجر كمثال على الإنقلابات العسكرية في هذه المجموعة. وقع إنقلاب عسكري في النيجر يوم 26 تموز/ يوليو 2023. أطاح الحرس الرئاسي بالرئيس محمد بازوم. قاد الانقلاب الجنرال عبد الرحمن تشياني. اعتقل الرئيس بازوم داخل القصر الرئاسي في العاصمة نيامي. ثم أعلن القائد العسكري تشياني سيطرة الجيش وتشكيل مجلس حكم ـ المجلس الوطني لحماية الوطن. برّر القادة العسكريون انقلابهم بالتدهور الأمني، فشل الحكومة في مواجهة المجموعات الجهادية وسوء الإدارة الاقتصادية والاجتماعية.
بعد الانقلاب، أُعلن تعليق الدستور، حل مؤسسات الدولة، إغلاق الحدود، وفرض حظر تجول. كما تم وقف النشاط الحزبي. على الرغم من أن بعض شرائح الشعب خرجت دعماً للانقلاب. كما أن الانقلاب في النيجر عزّز ما يُسمّى "حزام الانقلابات" في دول الساحل والصحراء الأفريقية. وفي المحصلة النهائية دفع الإنقلاب النيجر إلى الانسحاب من الكتّل الإقليمية الغربية والتقرّب من دول ومصادر دعم بديلة أخرى.
غني عن البيان عما يجري في السودان من مجازر وصرعات دموية. تديرها قوى عديدة معلنة وأخرى في الخفاء. كما لا يمكن تجاهل حالة عدم الإستقرار في ليبيا. إن قائمة الدول الأفريقية المستهدفة طويلة، خاصة تلك التي تمتلك ثروات هائلة في مجالات الطاقة والمعادن النفسية.
إن النفوذ الغربي يواجه صعوبات عديدة في العديد من الدول والمناطق. لقد شكلت عودة طالبان عام 2021 إلى السلطة في أفغانستان، ضربة كبيرة للنفوذ الغربي. وفي أمريكا اللاتينية تتنامى موجة يسارية جديدة، في بلدان، مثل البرازيل، المكسيك، كولومبيا، ترفض الهيمنة الأمريكية، وإن كانت ليست بالضرورة معادية للغرب بشكل مطلق. حتى في شرق أوروبا تظهر ملامح إنزعاج وعدم ارتياح. على الرغم من الدعم الغربي الكبير لأوكرانيا. تشهد بعض دول المنطقة، مثل: سلوفاكيا وبلغاريا صعود أحزاب موالية لروسيا أو متشككة في الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو".
تبلورت في الفترة الواقعة بين عامي 2020 ـ 2025، تحولات جديدة ومعسكرات مضادة، خاصة في السنوات الأخيرة. ومع استمرار الحرب الروسية ـ الأوكرانية، التي بدأت منذ عام 2022 إلى يومنا هذا. تراجعت خلالها الثقة بالغرب عالميًا، ظهرت تحولات واضحة. ليس في إفريقيا، الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية فقط، إنما نالت بعض مناطق أوروبا الشرقية.
المجر بقياة فيكتور أوربان: تحولت المجر إلى نموذج يوصف بـ"الديمقراطية غير الليبرالية"، حيث تَنتقد المجر بروكسل والاتحاد الأوروبي. كما بات يُنظر إلى المجر من الجانب الآخر، كنموذج معاصر لتحوّل نظام ديمقراطي إلى نظام انتخابي، يقوم على تعددية شكلية لكن بآليات تقييدية تحدّ من التوازن و الحقوق. فيما يلي أبرز المؤشرات التي يذكرها باحثو العلوم السياسية في الإتحاد الأوروبي:
ـ تركيز السلطات بيد السلطة التنفيذية. ذلك من خلال تعديل القوانين الدستورية بطريقة تمنح الحكومة أغلبية مُحكمة في المؤسسات. وتم إضعاف مبدأ الفصل بين السلطات عبر تعيين شخصيات موالية في المؤسسات الرقابية الأساسية.
ـ تقييد استقلال القضاء من خلال فرض تغييرات في آليات تعيين القضاة أو رؤساء الهيئات القضائية. كما جرت إعادة هيكلة المحاكم بما يسمح بتأثير سياسي أكبر على عمل القضاء.
ـ السيطرة على الإعلام، عبر شراء أو إغلاق أو إعادة تنظيم وسائل إعلامية عبر رجال أعمال مقربين من الحكومة. تحويل الإعلام العام إلى منصات ذات خطاب موحّد أو خاضع للسلطة. وكذلك ممارسة التضييق على الصحافة المستقلة من خلال القوانين أو الضغط الاقتصادي.
ـ إضعاف المعارضة السياسية من خلال قوانين انتخابات تُصعّب على الأحزاب الصغيرة التنافس بفعالية. واستخدام موارد الدولة في الحملات السياسية بشكل يخلق حالة من عدم تكافؤ الفرص. ثم ممارسة خطاب سياسي رسمي يُشيطن الخصوم السياسيين ويحصر المجال العام أمامهم.
ـ تضييق مساحة حركة المنظمات الاجتماعية، و وضع قوانين تقيّد تمويل المنظمات غير التابعة للسلطة، وأخيرًا تصوير النشاط الجماهيري المستقل كتهديد للأمن الوطني أو للهوية الوطنية.
ـ إعادة تشكيل النظام الانتخابي لصالح الحزب الحاكم، من خلال تقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة ترسّخ الأغلبية لأتباع الحكومة. وإعتماد قوانين انتخابية تُكافئ الحزب الأكبر بشكل غير متناسب.
ـ السير وراء خطاب قومي شعبوي. وذلك من خلال التركيز على سرديات حماية الأمة ومكافحة التأثير الخارجي. و استخدام النزعة القومية للحد من النقاشات حول الحقوق العامة والرقابة على السلطة.
ـ حكومة المجر من بين حكومات دول الاتحاد الأوروبي، التي تعترض على تَزوّيد أوكرانيا بالمعدات العسكرية خلال الحرب الروسية ـ الأوكرانية، ولا تسمح بمرور المعدات العسكرية المرسلة من الدول الأعضاء الأخرى عبر أراضيها. وتعترض على إستخدام الأموال الروسية في الخارج لتغطية إحتياجات أوكرانيا أيضًا، وواصلت شراء النفط والغاز الروسيين، بل تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مصادر الطاقة المستوردة من روسيا.
ـ تُعرف المجر بأنها من أقرب حلفاء إسرائيل في أوروبا، إذ خالفت الإجماع الأوروبي مرات عديدة، ووقفت إلى جانب إسرائيل. وقد قام قادة المجري والإسرائيلي بزيارات رسمية عديدة خلال الحرب على غزة. منذ بداية التحولات عام 1989 في المجر، دعا فكتور أوربان الى تعزيز علاقات بلاده بإسرائيل، وإعتبر ذلك نقطة الإنطلاق ومفتاح باب العلاقات في الإتجاه غربًا.
بولندا وتنامي الأحزاب المحافظة: تصاعدت شعبية حزب القانون والعدالة البولندي المحافظ والمعادي لبعض سياسات الاتحاد الأوروبي. هو حزب يميني ـ محافظ، قومي، وشعبوي تأسس عام 2001 تحت قيادة التوأمين كاتشينسكي. يجمع بين القيم الاجتماعية الراهنة والمحافظة على الأخلاقية الكاثوليكية، وبين سياسات اقتصادية مختلطة، تُشكل مزيجًا اجتماعيًا وثقافيًا بين اليسار و اليمين، خاصة في العهد الذي حكم فيه بولندا بين الأعوام 2015 ـ 2023). نظر الحزب إلى نفسه كممثل للأغلبية، من الفئات المحافظة الريفية والمجتمعات الشعبية، التي ترى فيه مَنْ يُدافع عن الهوية البولندية والقيم التقليدية.
إن الأخوين التوأم ليخ كاتشينسكي وياروسواف كاتشينسكي، هما من أبرز الشخصيات السياسية في بولندا، بعد تفكيك النظام الإشتراكي في بولندا. كان ليخ كاتشينسكي رئيس بولندا من 2005 حتى وفاته، في حادث تحطم طائرة عام 2010. أما ياروسواف كاتشينسكي فهو سياسي بارز ورئيس حزب القانون والعدالة. كان رئيسًا للوزراء عام 2006 ـ 2007 وظل شخصية مؤثرة جدًا في السياسة البولندية. ارتبط اسم الأخوين بمشروع سياسي قومي محافظ عبر حزب القانون والعدالة. كان لهما تأثير كبير في إعادة تشكيل مؤسسات الدولة البولندية بعد 2005. حصل حزب القانون والعدالة على أعلى الأصوات في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة، التي عُقدت في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. لكن الفوز لم يكن بمستوى يؤهله تشكيل الحكومة، إذ قام حزب المنتدى بعقد تحالف مع احزاب نالت مجتمعت أصوات أكثر منه وشكلت الحكومة الحالية.
يؤمن حزب القانون والعدالة في مجالات السياسة الاقتصادية والاجتماعية، بدور كبير للدولة فيها، وفي دعم الخدمات العامة الأساسية: الصحة، الإسكان و الرعاية الإجتماعية. تقوم سياسة الحزب على رفض خصخصة القطاعات الاستراتيجية، وتشجيع اقتصاد وطني على حساب التأثير الأجنبي. من أبرز نقاط برامجه: دعم العائلات ومنحها مخصصات شهرية للأطفال، تخفيض الضرائب على الدخول الدنيا، رفع الحد الأدنى للأجور، زيادة معاشات التقاعد، وتوسيع شبكات الضمان الاجتماعي. يصف الحزب نفسه بأنه مدافع عن الفقراء و العاملين، وعن قدماء المتضررين من التحول الرأسمالي في بولندا، أي من الطبقة الوسطى / الدنيا التي لم تستفد كثيرًا من الليبرالية الاقتصادية. وعلى صعيد القيم الاجتماعية والثقافية، يعتمد الحزب روح المحافظة والقومية. يربط الهوية البولندية ارتباطًا وثيقًا بالقيم الكاثوليكية والتقاليد القديمة. يعارض الهجرة الجماعية. يعارض ما يُطلق عليها أسم القيم الغربية الليبرالية، خاصة فيما يتعلق بحقوق المثليين أو أيديولوجيات الجندر. يروّج لـلقيم العائلة التقليدية، باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع، ويقدم سياسات تشجع الإنجاب ودعم الأطفال، كمحاولة لمواجهة انخفاض معدل المواليد. يسعى حزب القانون والعدالة في مجال سياسات الهوية والتاريخ، إلى صياغة سردية تاريخية وطنية، تؤكد على معاناة وبطولات البولنديين، في شكل وطني قومي غالبًا، خاصة فيما يتعلق في مواجهة الأجانب أو القوى الخارجية. اتُهم خلال قيادته للسلطة بأنه خفّض من مستوى استقلالية المؤسسات القضائية، أعاد تنظيم المحاكم، غيّر آليات تعيين القضاة، وقلّص حجم الرقابة على الحكومة. كذلك خضع الإعلام العام والخاصة لهيمنته، حيث يرى بعض النقاد أن الحزب سعى لجعل الإعلام أداة لنشر روايته وضمان ولاء واسع من الرأي العام. هذه الإجراءات إلى جانب سياسات الهوية والقيم تجعل بعض الباحثين يصنفونه كحالة من الديمقراطية غير الليبرالية أو الشعبوية المحافظة، حيث تحافظ على الانتخابات، لكن تُضعف الضوابط على السلطة وتُقيد الحريات المدنية.
يتخذ الحزب فيما يتعلق بالموقف من أوروبا والهجرة والعلاقات الدولية، يتخذ موقفًا مشروطًا، فهو من ناحية، شريك في الاتحاد الأوروبي، لكن من الناحية الأخرى يعارض ـ أو على الأقل يشكّك ـ في بعض متطلبات الاتحاد، التي يعتبرها تهديدًا لسيادة بولندا، مثل سياسات اللجوء أو بعض قوانين الاتحاد. ففي فترة حكمه، كان هناك صدام مع المؤسسات الأوروبية بشأن استقلال القضاء والحريات المدنية، مما أدى إلى إثارة توترات داخل الاتحاد الأوروبي.
حظر نشاط الحزب الشيوعي البولندي من المفارقات أنه في فترة حكم حزب القانون والعدالة المحافظ في بولندا، لم يجري حظر نشاط الحزب الشيوعي البولندي. بل جرى الآن في فترة حكم الائتلاف المدني، الذي يدعو للقيم الليبرالية الغربية. أن الائتلاف المدني الحالي، الذي يرأسه دونالد توسك رئيس الوزراء البولندي منذ 2003 يضم كل من: حزب الشعب البولندي، بولندا 2050 واليسار الجديد. وهو الائتلاف مؤيد بإندفاع لأوروبا.
أعلنت المحكمة الدستورية يوم 3/12/2025، عدم شرعية الحزب الشيوعي، ما يعني حظر نشاطه. كان رئيس الجمهورية كارول ناوروكي قدم طلب الحل في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. أصبح شطب الحزب من السجل ذي الصلة إجراءً شكليًا تمامًا. تداولت المحكمة بصدده لبضعة أيام، و لم تبذل جهدًا يُذكر لجمع الأدلة.
عبرت القاضية المُقررة، كريستينا باولوفيتش، عن إنحيازها المسبق حين صرحت، بان القرار كان أمرًا عزيزًا على قلبها، قبل تقاعدها المبكر بيومين فقط. قالت في الجلسة الختامية: إن بولندا حققت ما لم يحققه أحد منذ عام 1989، أي القضاء رسميًا على الشيوعية. بالمقابل صرح ممثل الحزب الشيوعي، قائلًا: سيكتفي الأعضاء بمتابعة معتقداتهم سرًا. يذكر أن الحزب أعيد تأسيسه عام 2002. عمل الحزب بشكل سرّي طوال فترة وجوده في الجمهورية البولندية الثانية، إذ حظرته السلطات البولندية منذ عام 1918. تجدد الحظر عام 1938 من قبل الكومنترن في موسكو باعتباره تنظيمًا مخترَقًا.
حمل القرار بعدًا رمزيًا قويًا أصبحت بسببه بولندا من الدول القليلة في أوروبا، التي تحظر رسميًا حزبًا شيوعيًا. كما يعكس القرار أيضًا استمرار التوتر الداخلي حول كيفية التعامل مع الماضي الشيوعي لأوروبا الشرقية. دَبَّ خلافٌ نتيجة لحظر عمل الحزب الشيوعي البولندي في أوساط القوى الحاكمة، بين من يريد طيّ الصفحة تمامًا، وبين من يرى أن أي استعادة للأفكار الشيوعية يجب أن تُمنع. كما ظهرت ردود فعل وانقسام في الرأي من جهات داخلية وأخرى في الخارج. وهناك من أدان القرار واعتبره قمعًا للحريات السياسية وتهديدًا لحرية التعبير عن الأفكار السياسية. جزء من هذا الجدل يتبناه أحزاب يسارية ومنظمات حقوق الإنسان.
ـ تركيا و السياسة الخارجية المستقلة: تنتهج تركيا سياسة خارجية مستقلة وأحيانًا معادية للغرب، خاصة بعد المحاولة الانقلابية، التي وقعت ليلة 15 تموز/ يوليو 2016. على الرغم من أن تركيا عضو مهم في حلف شمال الأطلسي ـ الناتو، لكن المحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة، تركت تأثيرها الذي جعل تركيا تبدو وكأنها تنتهج سياسة يمكن وصفها بسياسة "بين بين". أن الحدث كان داخليًا، لكنه هز الدولة التركية. سعت المحاولة الإنقلابية للاستيلاء على السلطة من قبل وحدات من الجيش. شاركت فيها مجموعة من الضباط والجنود، ومن وحدات مختلفة داخل القوات المسلحة، لكن الانقلاب لم يكن شاملاً للقيادة العليا. كان الانقلاب تحركًا منظمًا لكنه محدود. شمل السيطرة على بعض الجسور في إسطنبول، ومحاولة السيطرة على مؤسسات إعلامية، وإطلاق النار على بعض المراكز الحكومية. كما قُصِفت مبانٍ حكومية في أنقرة مثل البرلمان ومقر المخابرات أيضًا. تمت مواجه الانقلاب بتحرك سريع من الحكومة والجمهور.
أعلنت الحكومة أن ما يحدث "محاولة انقلاب". ظهر الرئيس رجب طيب أردوغان عبر اتصال هاتفي. دعا الناس للنزول إلى الشوارع. خرجت أعداد كبيرة من المدنيين، إضافةً إلى تدخل الشرطة وأجزاء أخرى من الجيش، مما أدى إلى إفشال المحاولة خلال ساعات.
أعلنت بيانات رسمية اتهامات تفيد بأن الانقلاب مرتبط بجماعة فتح الله غولن. حمّلت الحكومة تنظيم غولن المسؤولية، بينما الأخير نفى ذلك. أعقبت الانقلاب حملة اعتقالات وتطهير واسعة في الجيش والقضاء والإعلام والقطاع العام. يعد الحدث ذو تبعات سياسية كبيرة. أدى إلى تغييرات عميقة في بنية الدولة والجيش. كان نقطة تحوّل في سياسة الأمن الداخلي والعلاقات بين المؤسسات المدنية والعسكرية.
تتهم أنقرة جماعة فتح الله غولن بالوقوف وراء الانقلاب. أضعف ذلك الإتهام علاقات تركيا مع الغرب بشكل واضح. تعقدت علاقات تركيا مع الولايات المتحدة بسبب ملف غولن. تطالب تركيا منذ 2016 بتسليم فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا. رفضت واشنطن ذلك دون أدلة قضائية كافية، بحسب تصريحاتها. هذا خلق شعورًا في أنقرة بأن الولايات المتحدة لا تتعاون في مسألة تعتبرها وجودية لأمنها القومي. أدى ذلك إلى تراجع الثقة، وصعدت الاتهامات داخل تركيا، بأن واشنطن كانت تعلم أو تغاضت عن المحاولة.
شن الاتحاد الأوروبي انتقادات لرد الفعل التركي على الانقلاب. نفذت تركيا وجود اعتقالات واسعة في الجيش والقضاء والإعلام والتعليم وتسريح عشرات الآلاف من الموظفين. وصف الاتحاد الأوروبي الإجراءات التركية، بأنها مبالغ فيها، و تمثل قمعًا للحريات و ابتعادًا عن المعايير الأوروبية. نتيجة لذلك جُمد عمليًا مسار مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. و تدهورت الثقة السياسية بين الجانبين. وبصدد مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية، رأت التقارير الغربية أن حالة الطوارئ، التي فرضتها أنقرة أدت إلى تراجع في الحريات العامة. اعتبرت تركيا ذلك تدخلاً في شؤونها الداخلية. هذا زاد من التباعد السياسي بين الطرفين. ثم حصل تقارب تركي مع روسيا بعد الانقلاب.
وقع تقارب سريع بين أردوغان وبوتين بعد أسابيع من الانقلاب مما أثار قلق الغرب. لاحقًا اشترت تركيا منظومة S-400 الصاروخية الروسية. لم يكن ذلك بمعزول عن سياق تدهور العلاقات بعد 2016. هذا أدى إلى عقوبات أمريكية واستبعاد تركيا من المشاركة في برنامج F-35. هذه التطورات تركت أثرًا على السياسة الخارجية التركية. إذ عمّقت الشكوك السياسية المتبادلة، و ساهمت في تحول تركيا نحو سياسة خارجية أكثر استقلالًا وتوازنًا بين الشرق والغرب، وأدت إلى توتر غير مسبوق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
خلفية: تركيا ضمن الناتو تركيا عضو في الناتو منذ عام 1952. هي منذ ذلك الحين تُعَدّ من ركائز الدفاع في الحلف، خصوصًا لحماية الحدود الجنوبية الشرقية للحلف. من منظور أنقرة ظل الناتو ضمانًا أمنيًا أساسيًا، يعكس التزامات الدفاع المشترك والتعاون مع حلفاء غربيين.
بدأت نقطة التحول في صفقة S-400 الروسيّة. عندما قررت تركيا شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400 عام 2019. اعتُبرت خطوة مؤثرة جدًا على علاقة أنقرة مع الناتو، لأن النظام غير متوافق تقنيًا مع أنظمة الناتو. اعتبر الحلف وبعض حلفائه، خصوصًا الدول الغربية والولايات المتحدة أن وجود S-400 في تركيا يخلق مخاطر أمنية على حساسية المعلومات والتشغيل المشترك لأنظمة الناتو. نتيجة لذلك، جُمد أو تم تقييد جزء من التعاون الدفاعي مع تركيا، ومن أبرز ذلك استبعادها من بعض برامج تسليح مشترك.
تتسم العلاقات بين الطرفين بالتناقضات. هي تتراوح بين الانخراط والتباعد. على الرغم من التوتر، يُصرّ الجانب التركي على أن دوره في الدفاع عن حدود الناتو مهم، خصوصًا الشرقية والجنوبية منها. ويشكّل قيمة مضافة للحلف. كذلك، هناك جهود من تركيا لتطوير صناعتها الدفاعية، عبر شركات محلية تصنّع معدات دفاعية مطابقة لمعايير الناتو وتصدّرها لعدة دول. لكن في الوقت نفسه، مواقف أنقرة في قضايا مثل مكافحة الإرهاب أو قبول عضوية دول جديدة في الحلف تُثير جدلاً. تركيا تطلب أن تؤخذ حساسياتها الأمنية في الاعتبار قبل أي توسع للناتو.
توصف علاقات تركيا مع المنظمات الغربية العسكرية منها والمدينية، بأنها علاقات معقدة ومرنة في آن. دخلت العلاقة بين تركيا والناتو في عصر تشكّك. تراها بعض الدول الغربية والقيادات داخل الحلف الآن حليفًا مع بعض الحذر. في المقابل، تركيا تسعى للموازنة بين اعتمادها على الحلف ودفعها لتعزيز قدراتها الذاتية، عبر تطوير صناعتها الدفاعية. السؤال اليوم ليس فقط حول بقاء تركيا في الحلف، بل حول طبيعة الشراكة. هل تظل علاقة دفاعية تقليدية، أم تتحول إلى علاقة تبادلية أكثر مرونة، حيث تلعب أنقرة على عدة أوراق دفاعية وسياسية. وعلى نطاق الاتحاد الأوروبي، فإن تركيا رشحت لعضوية الاتحاد، قبل كل دول شرق أوروبا، ولكنها ظلت دون عضويته، بينما نالت معظم دول شرق أوروبا عضويتها الكاملة في الإتحاد الأوروبي. وهذا أمر يطرح الكثير من الأسئلة على النظرة المتبادلة بين الطرفين الأوروبي والتركي.
يوجد خلاف كبير بين الغرب وتركيا حول تعريف الإرهاب. تركيا ترى قوات حزب العمال الكردستاني PKKو وحدات حماية الشعب YPG تهديدًا وجوديًا. بينما دول في الناتو، خصوصًا الولايات المتحدة، دعمت وحدات حماية الشعب في الحرب ضد داعش. المشكلة في تضارب أولويات الأمن الإقليمي لكلا الطرفين، الغرب وتركيا. تأسس حزب العمال الكردستاني PKKعام 1978 بقيادة عبدالله أوجلان. يعمل أساسًا في تركيا وشمال العراق وسوريا. يسعي لحقوق أكبر للأكراد في تركيا. تُصنِّفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تنظيمًا إرهابيًا. يخوض صراعًا مسلحًا مع الدولة التركية منذ الثمانينيات. أما وحدات حماية الشعب YPG تأسست 2011 ضمن قوات سوريا الديمقراطية (SDF) لاحقًا. تعمل أساسًا في شمال وشرق سوريا. شَكلت القوة الأساسية التي حاربت تنظيم داعش بدعم من التحالف الدولي. لا تُصنَّف كتنظيم إرهابي من قبل الولايات المتحدة والغرب، لكن تركيا تعتبرها امتدادًا لـ PKK بسبب تشابه الإيديولوجيا والقيادات والعلاقات المحتملة بينهما.
وبصدد العلاقة التركية ـ الروسية، فقد أربك تقارب أنقرة مع موسكو بعد 2016 دول الحلف. ومن التصرفات التركية التي أثارت الحلفاء الغربيين شراء منظومات S-400 الروسية، هذا إضافة إلى التعاون الاقتصادي الواسع في مجال الطاقة، مما ترك انطباعًا عن الازدواجية في التوجهات الأمنية التركية. تقع المعضلة في تركيا بين حاجتها لروسيا في ملفات سوريا والطاقة وبين التزاماتها داخل حلف الناتو. توجد خلافات لتركيا حول الغاز في شرق المتوسط والبحر الأحمر. منها النزاعات حول الغاز شرق المتوسط مع اليونان وقبرص، وهما دولتان داخل و مرتبطة بالناتو. كذلك نشاط تركيا البحري العسكري وعمليات التنقيب أثارت حساسية دول أوروبية غربية.
كما إن تأخر مصادقة تركيا على عضوية فنلندا والسويد في الناتو، أعطى انطباعًا بأن أنقرة تستخدم ملف التوسّع للضغط بشأن مخاوفها الأمنية. اعتبرت دول في الحلف ذلك ابتزازًا سياسيًا. يلاحظ وجود شعور بعدم الانسجام السياسي داخل الحلف. كما تبرز نزعة الاستقلالية التركية في الصناعات الدفاعية، و طموح تركيا لتعزيز صناعة محلية قوية، مثل: المسيّرات، الدبابات و الصواريخ... يقلّل من اعتمادها على أنظمة الحلف. بعض المشاريع الدفاعية التركية لم تُدمج بسهولة مع المعايير التقنية للناتو. يمكن وصف النتيجة، بأنها تمثل تعاون دفاعي محدود، مقارنةً بما كان عليه الحال في العقود السابقة.
يمكن وصف العلاقة مع الناتو في نهاية المطاف، بأنها ليست في أزمة كاملة، لكنها علاقة مركّبة، تقوم على تعاون عملي مهم جداً في مجالات، مثل: المشاركة في المهمات، القواعد و الاستخبارات. توجد توترات سياسية حول روسيا، سوريا، الإرهاب، شرق المتوسط، والتسليح. فالنتيجة يمكن وصفها بالقول: الناتو يحتاج تركيا بوصفها قوة عسكرية كبيرة، و موقع جيوسياسي حساس. بينما تركيا تحتاج الناتو لضمانة الردع الاستراتيجي. ومع ذلك، الاتجاه العام هو: شراكة واقعية، لكن ليست قائمة على الثقة الكاملة.
يتبع ...
#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)
Abdul_Hamid_Barto#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرة إلى عالم اليوم (3)
-
نظرة إلى عالم اليوم (2)
-
نظرة إلى عالم اليوم (1)
-
مع الشاعر سمير الصميدعي
-
البحث المتواصل طريق خيرالله سعيد
-
التاريخ حجر الزاوية
-
حين أبحر جمال العتابي
-
رواية -كدمات اليمام- (3 والأخيرة)
-
رواية -كدمات اليمام- (2)
-
رواية -كدمات اليمام- (1)
-
في عالم الذكاء الإصطناعي
-
أوامر ترامب العجولة
-
إهانة التضحية
-
يحيى علوان رحل مسالماً
-
حميد الحريزي يرسم واحةَ الهذيان
-
جولة مع الروائي راسم الحديثي
-
الشاعر والمناضل مخلص خليل
-
حين يَتولى مُنصفون مهماتٍ
-
باب المنفى
-
لحظة مجيدة في نضال الشعب الفلسطيني
المزيد.....
-
المطبخ الإيطالي أول مطبخ في العالم يحصل على اعتراف اليونسكو
...
-
إدانة مخرج بتهمة الاحتيال على نتفليكس بـ11 مليون دولار أنفقه
...
-
فيديو-انفجار غاز عنيف يهز حيّا سكنيا في ولاية كاليفورنيا ويت
...
-
إيران تعتقل نرجس محمدي الحائزة على نوبل السلام خلال تأبين مح
...
-
تفكيك أوروبا ـ الهدف الخفي لاستراتيجية الأمن الأمريكية!
-
حلف قبائل حضرموت يتهم -الانتقالي- باختطاف جرحى من مستشفيات ا
...
-
محكمة تونسية تقضي بسجن المعارضة عبير موسي 12 عاما
-
مؤشر توتر مع إثيوبيا.. إريتريا تتحلل مجددا من روابط الإيغاد
...
-
البيت الأبيض: ترامب محبط من طرفي النزاع الروسي-الأوكراني.. إ
...
-
ترامب يعلن توسطه في اتفاق جديد لوقف إطلاق النار بين تايلاند
...
المزيد.....
-
النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط
/ محمد مراد
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|