|
|
فرنسا – الذّكرى العشرون لانتفاضة الأحياء الشعبية 2005 – 2025
الطاهر المعز
الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 14:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
توفي شابان من أصل مهاجر، هما زياد بنّا (17 عاماً) وبونا تراوري (15 عاماً)، صعقاً بالكهرباء أثناء فرارهما من الشرطة، يوم 26 تشرين الأول/اكتوبر 2005، في ضاحية كليشي سو بوا الباريسية، وهو ليس حدثًا معزولًا، بل متكرر منذ عُقُود، وكانت هذه الوفاة المُزْدوجة شرارة الإنتفاضة التي استمرت حوالي ثلاثة أسابيع، وأطْلَقت صراعًا اجتماعيًا حوّل أحياء المدن الفرنسية إلى ساحة معركة بدأت كاحتجاج محلي سرعان ما امتد إلى 274 بلدية، مخلّفًا 9000 سيارة محترقة، وخسائر في الممتلكات بلغت 200 مليون يورو، وهُوّةً عميقة في المجتمع الفرنسي، حيث لم تدعم النقابات ومنظمات الدّفاع عن الحقوق والأحزاب هذه الإنتفاضة لأن مُطْلِقِيها من أبناء المهاجرين ومن أبناء الطّبقة العاملة والفئات الفقيرة التي تم حَشْرُها في أحياء خاصّة شبه مُغْلَقَة يعيش بداخلها مواطنون من الدّرجة الثانية أو الثالثة، محاصرون بفرق خاصة من شرطة "مكافحة الشغب والجريمة والإرهاب..."، وكرّست هذه الإنتفاضة، وما قبلها وما بعدها، الإنقسام الإجتماعي والهُوّة بين الدّولة وجزء من المجتمع، وإهمال مؤسسات المجتمع المدني لقسم هام من المواطنين، مما يُساهم في إضعاف الصف التّقدّمي... تعود جذور هذا الانفجار الاجتماعي إلى الظروف المعيشية في الأحياء، والمجمعات السكنية الطرفية التي أصبحت منذ السبعينيات والثمانينيات أقفاصًا للسكان المهاجرين المغاربيين وأصيلي جنوب الصحراء الكبرى، حيث ترتفع مستويات بطالة الشباب إلى مستويات تفوق المعدلاتن الفرنسية بكثير، فضلا عن الإقصاء والتمييز المنهجي الذي تمارسه المؤسسات الحكومية والبلدية في مجالات التوظيف والسكن، فضلا عن الإستعراض الإستفزازي لقوى الشرطة التي لا تُشكل مصدرا للأمن بل مصدرًا للتوتر والتّعسّف، من خلال تكرار عمليات التحقق من الهوية عدة مرات في اليوم لنفس الأشخاص، وأدّت الممارسات العنصرية للشرطة – من بينها الإستخدام المفرط للعنف والإعتقال - إلى زيادة مستوى الإستياء الذي أدّى تراكمه منذ فترة الإستعمار المباشر، إلى انتفاضات عديدة تميزت بالإشتباك مع الشرطة – الرمز الوحيد للدّولة الحاضر باستمرار - وحرق المركبات واستهداف المباني العامة، رمز السّلطة، وكان نيكولا ساركوزي وزيرًا للداخلية خلال انتفاضة 2005 – فترة رئاسة جاك شيراك – وأدلى بتصريحات استفزازية وبذيئة، وأعلن جاك شيراك وحكومته تطبيق سياسة "عدم التسامح مطلقاً" وإعلان حالة الطوارئ، بداية من يوم الثامن مكن تشرين الثاتني/نوفمبر 2005، فيما وَصَف نيكولا ساركوزي – الفاسد والسّارق والمُحتال، وفق القُضاة - المُحْتَجِّين ( على وفاة مُراهِقَيْن خلال ملاحقتهما من قِبَل الشرطة ) وسُكّان الأحياء الطرَفِية للمدن بـ"الحثالة"، وساهم بذلك في تأكيد الممارسات العنصرية الرّسمية، فيما أكدت الإنتفاضة عمق الأزمة الهيكلية لمنظومة الحكم في فرنسا، إذ تَلتْها، بعد أشْهُرٍ قليلة ( شباط/فبراير وآذار/مارس ونيسان/ابريل 2006 ) انتفاضة شباب الثانويات والجامعات احتجاجا على مشروع قانون "عقد العمل الأول" للشباب الذي قدّمته حكومة دومنيك دو فيلبان، وهو قانون يُكرّس الهشاشة والأجور المنخفضة وسوء ظروف العمل، بحجة "تدريب الشباب وتأهيلهم " وحظيت مظاهرات الشباب المدرسي والجامعي بدعم كبير من قِبَل وسائل الإعلام والنقابات المهنية والمجتمع المدني، خلافًا لمظاهرات شباب الأحياء الطّرَفية التي تم التّعتيم عليها، لكنها أدّت إلى إطلاق النقاش الواسع بشأن التمييز والإقصاء، غير إن اليمين الموصوف ب"الجمهوري" واليمين المُتطرف اللّذَيْن تقاربا إلى درجة الإندماج، تمكّنا من اختزال هذه المشاكل الإقتصادية والسياسية في "مسألة الإسلام والهوية والأمن..." بعد عشرين سنة من وفاة زيد بنّا وبونا تراوري، أصبحت الوفاة المأساوية للمراهقين من كليشي سو بوا (سين سان دوني) حدثًا هامشيا وأمرًا من الماضي لا يذكره أحدسوى عائلات الضحايا، ولم يتم ذكر الإحتجاجات التي تلتها ولا استخلاص الدّروس منها، وكانت البيانات قليلة جدًّا ومخيبة للآمال، وغاب الإهتمام بمصير سُكّان الأحياء الشعبية، فيما زادت شعبية الفكر الإقصائي والعنصري لليمين المتطرف، وأسفرت الإنتخابات المحلية والوطنية عن ارتفاع شعبية اليمين المتطرف وشعبية الشعارات التي تُعبّر عن كراهية شباب الأحياء الشعبية، وتبرير العنصرية وكراهية الأجانب ووحْشِيّة الشرطة وتحميل الفُقراء وأبناء الطبقة العاملة من ذوي الأصول الأجنبية ارتفاع الهشاشة والتّهْمِيش والبطالة والفَقْر وعدم المساواة، واعتبر عالم الاجتماع جوليان تالبين، مدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، أن هذا "تحول جذري في النقاش العام (...) فلم تعد قضايا التمييز الذي يستهدف أبناء وأحياء الطبقة العاملة، تلقى صدىً لدى معظم الطيف السياسي ( وتم استبدالها ب) النقاش حول هواجس اليمين المتطرف: الطائفي، والإسلاموية وتجارة المخدرات ونعت الفقراء بالبرابرة والمتوحشين..."، وأصبح هذا الخطاب يبرر عنف الشرطة و"شَيْطَنَة" وتجْرِيم الضحايا وعائلاتهم، واختفت قضايا البطالة والفقر وظروف النقل والسكن، من جدول أعمال الحملات الإنتخابية، وتم استبدالها بمكافحة التطرف والإسلاموية وبنى إيمانويل ماكرون – وهو ممثل رأس المال المالي وأثْرَى الأثرياء" حملته الرئاسية، بدءًا من خريف سنة 2016 على "التركيز على واقع البطالة والوضع الإجتماعي بدلاً من التركيز على قضايا الهوية والديانة، واستخدام العلمانية ضدّ الإسلام..." ونجح في مُغالطة العديد من الناخبين، لكنه بعد انتخابه نفذ سياسات نقيضة لما أعلنه فتم تقليص مساعدات الإسكان، ووضع حدّ لعقود العمل الخاصة بالشباب والتي تدعمها الدّولة، وبذلك توارَت الحدود بين اليمين التقليدي واليمين المتطرف، وتم قمع حركة "السترات الصفراء" التي أطلقها فُقراء الأرياف والمدن الصغيرة، بشكل غير مسبوق ( بَتْر الأطراف واستهداف الوجه والعيْنَيْن) في عملية اعتبرتها السلطة معركة إيديولوجية، وتغيير احتجاجات الفُقراء البيض إلى منافسة بين "البيض ذوي الدخل المحدود" وسكان أحياء الطبقة العاملة... لم تكن انتفاضة شباب الضّواحي والأحياء الطّرفية، خلال شهرَيْ تشرين الأول/اكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2005، الأولى ولا الأخيرة فقد سبقتها انتفاضات عديدة في مرسيليا ( 1971 – 1973) وضواحي "ليون" خلال النصف الأول من عقد ثمانينيات القرن العشرين، فضلا عن انتفاضات شباب ضواحي العاصمة باريس وأحيائها الشعبية، بسبب الصعوبات التي يُعاني منها سكان الأحياء العمالية، ولحقتها ( بعد 2005) انتفاضات أقل انتشارًا بسبب تكرار عمليات القتل المتعمد الذي تمارسه الشرطة، ومن ضمنها عملية قَتْل الشاب المراهق نائل مرزوق خلال شهر حزيران/ يونيو 2023 في نانتير ( مدينة في ضواحي باريس كان لها دور هام في نضال الجزائريين ضد الإستعمار الفرنسي المباشر للجزائر) التي أعقبتها انتفاضة تميزت كسابقاتها بوحشية الشرطة وزيادة التمييز والتهميش الاجتماعي، وبعد شهر طلب الصحفيون من رئيس الدولة ( إيمانويل ماكرون) تقييم ليالي الغضب تلك، فقال " إن الدّرس الذي استخلصته من هذا هو وجوب فرض النظام، النظام، النظام، ولا شيء غير ذلك"، وتم بعد ذلك إقرار قوانين أشدّ قمْعِيّة بذريعة "مكافحة أعمال الشغب والتخريب " وتشديد الرقابة على المنشورات في وسائل التواصل الإجتماعي، مما أدّى إلى تراجع نسبة المُشاركين في العملية الإنتخابية وتراجع نسبة التّصويت لدى الفئات القاطنة بالأحياء الشعبية وضواحي المدن الكبرى، وأصبح اليمين المتطرف يُمثل القوة السياسية الكُبرى في فرنسا وكذلك في العديد من دول أوروبا، لأن الإنعطافة اليمينية اجتاحت معظم الدّول الرأسمالية المتقدّمة كانعكاس لسيطرة رأس المال المالي والمُضارب، وتحويل الصناعات المُلوثة والتي تتطلب كثافة عُمالية إلى بلدان الأطراف، وكنتيجة لاتساع الهُوّة الطّبقية التي جعلت المُنْتَمِين للفئات الشعبية وسكان أحياء الطبقة العاملة، ييأسون من تغيير الوضع بواسطة الإنتخابات، فاستقالوا من العمل السياسي، بسبب غياب قوة سياسية تُعبِّر عن مشاغلهم ومطالبهم ومطامحهم..." وابتعد أبناء وأحفاد المهاجرين عن أحزاب اليسار التقليدي ( الإصلاحي) لأنها تنكر التمييز المُمَنْهج وطبيعته النظامية أو المؤسساتية وتنكر انتشار العداء للمسلمين ( أو من يُشْتَبَهُ بهم) والعنصرية ضدّ السّود، باسم اللائيكية – على الطريقة الفرنسية – وخوفًا من اتهامها بالدّفاع عن "الطّائفية"، وربما لأن اليسار الإصلاحي يُفضّل توجيه خطابه وجهوده نحو الفئات الوسطى والعُمّال من ذوي المؤهلات ( الأرستقراطية العُمّالية) ولا يستطيع مخاطبة الفئات الهشّة المتواجدة في أسفل درجات السُّلّم الطّبَقِي. بعد عشرين عامًا من وفاة زياد بنّا وبونا تراوري، لا يزال أبناء العرب والسّود، وأبناء الطبقة العاملة والفقراء بفقدون حياتهم بسبب العنصرية وبسبب المَيْز الطّبقي، ولا تزال الأحزاب والمنظمات اليسارية والتقدّمية تعمل خارج أحياء الطبقة العاملة، مما سبب بعض "الإستسلام السياسي" بين فئات عديدة من السّكّان، ويتجلى ذلك في انخفاض مستوى المشاركة في العمل السياسي التقليدي، غير إن بعض الهَبّات مثل السترات الصّفراء أو التظاهرات ضدّ احتكار الأرض والمياه، في مناطق بعيدة عن باريس والمدن الكبرى، وكذلك الإحتجاجات ضدّ العدوان الصهيوني وضدّ عمليات الإبادة الجماعية أظهرت مدى حساسية هذه الفئات الشعبية لقضايا الظّلم والإستعمار والإضطهاد... تكمن مسألة المشاركة الضعيفة في الإنتخابات في غياب التمثيل السياسي لأبناء ولأحياء الطبقة العاملة، وفي غياب قوى اليسار عن الأحياء الشعبية وسكانها ومشاكلهم...
#الطاهر_المعز (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بزنس الرياضة – كأس إفريقيا وكأس العالم لكرة القدم 2026
-
مُتابعات – العدد الخامس والخمسون بعد المائة بتاريخ العشرين م
...
-
إفريقيا بين الغطرسة الأمريكية و-الواقعية- الصّينية
-
يوم اللغة العربية 18 كانون الثاني/ديسمبر
-
عُدْوان أمبريالي مستمر على أمريكا الجنوبية
-
منظمة العفو الدّولية وقضية فلسطين
-
المصانعالإيديولوجية للإمبريالية الأمريكية
-
الغذاء أحَدُ مُؤَشِّرات عدم المُساواة
-
مُتابعات – العدد الرّابع والخمسون بعد المائة بتاريخ الثّالث
...
-
صناعة الأدوية زمن العَوْلَمَة
-
ليبيا في ظل الإستعمار الإيطالي
-
الدُّيُون تُعَرْقِلُ التّنمية
-
أفريقيا في قلب المعركة العالمية على المعادن الاستراتيجية
-
مُتابعات – العدد الثالث والخمسون بعد المائة بتاريخ السّادس م
...
-
بإيجاز - الغذاء والصّحّة
-
مَنْ صاحِبُ القرار، الولايات المتحدة أم الكيان الصهيوني؟
-
سوريا – السنة الأولى لسلطة المنظمات الإرهابية
-
الإستخدام السّلْبِي ل-الذّكاء- الإصطناعي
-
مُتابعات – العدد الثاني والخمسون بعد المائة بتاريخ التاسع وا
...
-
انتخابات نيويورك وفوز زهران ممداني
المزيد.....
-
حادث غريب.. حفرة ضخمة تبتلع زورقين قرب قناة مائية في بريطاني
...
-
الإفراج عن 30 ألف وثيقة جديدة من ملفات إبستين.. هذا ما توصلن
...
-
الرويشد ويسرا والفخراني وماريا كاري.. تكريمات مؤثرة لمبدعين
...
-
وزارة العدل الأمريكية تنشر آلاف الوثائق المرتبطة بقضية جيفري
...
-
من -فور سيزنز- في موسكو إلى يخوت دبي.. كيف يعيش آل الأسد في
...
-
السودان في كأس إفريقيا.. هوية وروح واحدة في زمن الانقسام
-
إطلاق الناشطة تونبرغ في لندن بعد توقيفها في مظاهرة مؤيدة للف
...
-
تواجه حكما بالإعدام... 400 شخصية نسائية عالمية تطالب طهران ب
...
-
فرنسا : الجمعية الوطنية تصادق على -قانون خاص- يتيح مواصلة تم
...
-
زيلينسكي يكشف عن مسودة جديدة للتسوية وروسيا تتقدم شرق أوكران
...
المزيد.....
-
الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد
...
/ علي طبله
-
الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل
...
/ علي طبله
-
قراءة في تاريخ الاسلام المبكر
/ محمد جعفر ال عيسى
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|