|
|
ليبيا في ظل الإستعمار الإيطالي
الطاهر المعز
الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 14:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة من الأحداث التي لا يذكرها الكثيرون من العرب ومن المناضلين المناهضين للإستعمار في العالم، استعمار ألمانيا للعديد من البلدان الإفريقية وبعض مناطق المحيط الهادي وارتكاب مجازر الإبادة الجماعية حيثما حل الإستعمار الألماني، وكذلك استعمار هولندا لسورينام وجزء من إندونيسيا وغويانا وغيرها واستعمار سوريا من قِبَل فرنسا من نهاية الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية واقتطاع جزء منها ( لواء اسكندرونة) ومَنْحِهِ إلى تركيا، مثلما اقتطعت بريطانيا منطقة "الأهواز" الشاسعة والغنية بالمياه والنفط، من العراق لتهديها إلى شاه إيران، ليصبح لإيران منفذ بحري وميناء لشحن وتصدير النفط، ومن الأحداث التي يقلّ ذكرها: استعمار ليبيا من قِبَل إيطاليا واستشهاد مئات الآلاف وقُدِّرَ عددهم بين 300 ألف و700 ألف واستحواذ المُستعمرين الإيطاليين على الأراضي الزراعية والتجارة وبعض الصناعات والقطاعات الإقتصادية إلى غاية انقلاب "الضباط الأحرار" ( معمر القذافي ومجموعته) يوم الأول من أيلول/سبتمبر 1969، حيث تم تأميم ممتلكات المُستعمِرِين واسترجاع القواعد العسكرية التي كانت تستخدمها بريطانيا والولايات المتحدة، منذ هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، قبل الإستقلال الشّكلي لليبيا سنة 1951... شاركت إيطاليا في مؤتمر برلين أملاً في الحصول على حصة في التقاسم الاستعماري بين القوة الأوروبية، وتعود أطماع إيطاليا بشأن ليبيا إلى مؤتمر برلين سنة 1878، كما وقعت إيطاليا وفرنسا سنة 1902 اتفاقية سرية تعطي المغرب لفرنسا و إقليم طرابلس لإيطاليا التي بدأت سياسة الاختراق الاقتصادي في طرابلس بدعم بنك روما (بانكو دي روما) المرتبط بالفاتيكان على وجه الخصوص، ولعبت بعض الشركات دورًا من خلال الظهور كجسور لفتوحات قادمة، فحاولت السلطة العثمانية في اسطنبول ( التي كانت تحتل ليبيا) التصدي لهذا التوسع إلا أن البنك قام بالضغط على الحكومة الايطالية للتدخل لحماية استثمارات الشركات، وأطلقت بعض الجمعيات والأحزاب الايطالية، وكذلك بعض المثقفين مثل غابرييلي دانونزيو، حملة بعنوان "عودة الإمبراطورية الرومانية" وفتوحاتها في أفريقيا، "لإعادة الهيبة والمَجْد" إلى إيطاليا. بدأ الاستعمار الإيطالي سنة 1882 في إريتريا بشرق إفريقيا، من خلال شراء الأراضي وتوسع مع حملة رئيس الوزراء فرانشيسكو كريسبي (Francesco Crispi – 1819 – 1901) لاستعمار إريتريا ( 1882) وفشلت إيطاليا في احتلال الحبشة إثْر هزيمة "عدوة" التي اعتُبِرت كارثة عسكرية، مما وجّه الإهتمام نحو ولاية طرابلس، آخر ولاية عثمانية في شمال إفريقيا التي تمكنت من احتلالها خلال عشرين سنة من المعارك، بين سنتَيْ 1911 و 1931، واعتُبر التّوَسُّعِيُّون "إن الإستحواذ على المستعمرات ضرورة من ضرورات الحياة العصرية (...) وإن احتلال ليبيا مقدّمة لاختراق الصحراء عبر القوافل التجارية ثم بواسطة الجيش، لاحتلال مناطق في وسط إفريقيا... الاستعمار الإيطالي والمقاومة الليبية اتسمت الدوافع الأساسية والعملية وراء العدوان الاستعماري الإيطالي بالحاجة إلى إيجاد منفذ للهجرة الإيطالية، لا سيما من جنوب إيطاليا، حيث أصبح فَقْر السكان قضيةً تحتاج إلى حلٍّ عاجل، وحاولت الدّولة الإيطالية طمس التأريخ الاستعماري الإيطالي، فشوّهت الروايات غير إن الوثائق القليلة المتوفرة تثبت قسوة وفظاعة الهيمنة الإيطالية على ليبيا، في ظل ظُهُور حركة قومية إيطالية نشيطة تُنادي بضرورة بناء دولة قوية ومحاربة، تُزيل العار الذي لحق بإيطاليا في معركة عدوة، وتُجبر القوى الإمبريالية الأخرى على إنصاف إيطاليا، واعتبر زعماء هذا التيار الفاشي إن سيطرة إيطاليا على ليبيا ستمكّنها من السيطرة على ممرّات التجارة البحرية عبر البحر الأبيض المتوسط، والبرّية عبر الصحراء الكبرى، واكتمل احتلال المغرب العربي، حيث احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830 وتونس ( حيث كان يقيم آلاف الإيطاليين) سنة 1881 والمغرب سنة 1912 ( كانت متواجدة في بعض المناطق منذ نهاية القرن التاسع عشر) وهيمنت إيطاليا على مصر سنة 1882، ثم احتلت إيطاليا ليبيا سنة 1911، وتبنت إيطاليا سياسة "تدريجية" للتغلغل الاقتصادي البطيء في ليبيا، بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر، حيث شُجّع رجال الأعمال الإيطاليون على شراء المصالح التجارية/الصناعية الليبية القليلة، والسيطرة على خطوط الشحن الليبية، بالإضافة إلى تصدير العاج والصوف والإسفنج، وتوسّعت المصالح التجارية الإيطالية في ليبيا بعد توحيد إيطاليا سنة 1870، ومهّدت الطريق لاستعمار "طرابلس" سنة 1911، بعد تأسيس فروع بنك روما وإنشاء المدارس والصحف الإيطالية، فيما قام قناصل إيطاليا منذ سنة 1890 بتكثيف الإتصالات مع التجار المحليين من اليهود والمسلمين من ذوي النفوذ، وأصبح بنك روما (بنك روما) وسيلةً لشراء الأراضي والاستثمار في التجارة، وتوظيف شخصيات بارزة للعمل لتهيئة مناخ الإستعمار الإيطالي، وبلغ إجمالي عدد المُقيمين الإيطاليين في ليبيا سنة 1912، نحو 27500 شخص، وقبل الإحتلال، أمرت الحكومةُ مصرف "بنك ودي روما" ( Banco di Roma ) سنة 1905 بالتغلغل الإقتصادي في ليبيا وتمَكَّنَ المصرف من التوسع بسرعة وأصبح له سنة 2010 فروع في طرابلس وبنغازي واثنتي عشرة مدينة أخرى، وكانت الحكومة الإيطالية تهدف توظيف آلاف المهاجرين الإيطاليين في الشركات المملوكة لها وتوفير القروض لإنجاز مشاريع المُقيمين الإيطاليين... بدأت الصحافة الايطالية خلال شهر أيلول/سبتمبر 1911 حملة حول "مسألة طرابلس" كمقدمة لإيجاد ذريعة لغزو ليبيا وقام الجيش الإيطالي بمحاصرة طرابلس بداية من 26 أيلول/سبتمبر 1926 "لحماية ألف ايطالي في المدينة"، قبل إعلان الحرب على تركيا ( التي كانت تحتل ليبيا، آخر معاقلها في شمال إفريقيا) يوم 29 أيلول/سبتمبر وقصف طرابلس بداية من الثاني من تشرين الأول/اكتوبر 1911، وجندت إيطاليا ترسانتها العسكرية ومائة ألف جندي لتحتل مُدُن طرابلس وطبرق ودرنة وبنغازي وغيرها بين الخامس والواحد والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 1911، غير إن المقاومة القوية ( والسّريعة) لم تُمكّن الجيش ( رغم العدد الكبير واستخدام القصف الجوي لأول مرة في تاريخ الحروب) من تحصين مواقعه في المدن التي احتلها، وهاجمت المقاومة الليبية القواعد الايطالية حول طرابلس، وقتلوا الجنود الايطاليين فيها. فجاء الرد عنيفا وشرسا بقتل ألاف سكان المنطقة وبنقل بعضهم في ظروف مروعة إلى جزر ايطالية غير مأهولة حيث لاقى العديد منهم حتفهم، ووقّع الإحتلال العثماني معاهدة أوشي ( تشرين الأول/أكتوبر 1912) وتخلى عن منطقة طرابلس لايطاليا، وقدر باحثون ليبيون وإيطاليون أن نحو ربع سكان ليبيا البالغ عددهم ال700000 نسمة لقوا حتفهم بين العامين 1911 و1914، ومع ذلك نشأت حركة مقاومة مسلحة جديدة سنة 1915، وانتشرت في جميع أنحاء البلاد، غير إن الغزو الإستعماري تعزز مع استيلاء الفاشية على السلطة، واعلن بينيتو موسليني ( 1883 – 1945) "إن الإمبريالية هي قانون الحياة الأبدي وغير القابل للتغيير"، فأطلق مشروع إحياء استعمار ليبيا من خلال الأعمال الإنتقامية الوحشية ضد السكان المحليين بقيادة الجنرال رودولفو غراتسياني ( 1882 – 1955) : "إذا لم يقتنع الليبيون بحسن ما نقترحه عليهم، فسيضطر الايطاليون لقتالهم بشكل مستمر، وقد يستلزم ذلك تدمير الشعب الليبي بأكمله، وذلك حتى تحقيق السلام، سلام المقابر"، وتم ترحيل أكثر من ثلاثين من قواد الثورة إلى إيطاليا، مما قلّص رقعة المقاومة التي انحصرت سنة 1930 في إقليم "برقة" بزعامة "عمر المختار" ( 1858 – 1931) الذي قبُض عليه يوم 11 أيلول/سبتمبر 1931 وأعدم شنقا يوم 16 أيلول/سبتمبر بدون محاكمة، أمام 20000 من الليبيين الذين تم جلبهم غصبًا إلى مكان الإعدام، واستمر الاستعمار الإيطالي حتى سنة 1947 بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية، وتقاسمت فرنسا وبريطانيا المستعمرات التركية والإيطالية وبقيت ليبيا تحت سيطرة بريطانيا التي أنشأت قواعد عسكرية تقاسمت استخدامها مع الولايات المتحدة، حتى سنة 1970، رغم الإستقلال الشكلي لسنة 1951، وتنصيب إدريس السنوسي ملكا على ليبيا... إبادة واستيطان وتهجير رافقت الإستعمار الإيطالي ( 1911 – 1947 ) فظائع عديدة، ومن ضمنها بناء جدار لمنع مرور مقاومي الإستعمار من عبور الحدود بين ليبيا ومصر، ونَفْي المقاومين اللّيبيين إلى جُزر إيطالية صغيرة وقاحلة وغير قابلة للحياة، وهي نفس الجزر التي احتُجز فيها لاحقًا مناهضو الفاشية، بمن فيهم أنطونيو غرامشي، وهي واحدة من الفضائح الكيرة والمَخْفِيّة للتاريخ الاستعماري الإيطالي الليبرالي والفاشي على حد السواء، الكثيرة الخفية، وبدأت منذ العام 2011 بـ"مطاردة العرب" وإعدام آلاف الأشخاص بدون محاكمات ونُفِيَ ونُقل حوالي أربعة آلاف شخص ( بين شهرَيْ أيلول/سبتمبر وكانون الأول/ديسمبر سنة 2011)، على عجل دون محاكمة إلى فافينانا وجزر تريميتي وجيتا وأوستيكا، واستمرت عمليات ترحيل المقاومين الذين أُلقي القبض عليهم وبحوزتهم أسلحة أو معارضين بدون سلاح، وكذلك بعض الأئمة والمشايخ والمهنيين والمواطنين العاديين البسطاء، الذين اعتُقلوا عشوائيًا حتى سنة 1934 على الأقل، بهدف إحباط المقاومة التي استؤنفت بعد كل حملة قمع، وكانت ظروف الاحتجاز في المنفى وفي سجون ليبيا قاسية للغاية، كما وصفها الشاعر والمناضل فاضل الشاماني (من طبرق ) الذي نُفِيَ سنة 1912، ومات ما لا يقل عن ثلث المُرَحَّلين، بسبب الظروف غير الإنسانية للرحلات وظروف الإعتقال، وتم التّستّر على ذلك، كما هو الحال مع العديد من جرائم الاستعمار الإيطالي الأخرى في ليبيا، كما في الحبشة التي أُعيد استعمارها سنة 1936، وإريتريا والصومال والبلقان... إن إخفاء الذاكرة الاستعمارية، إلى جانب كونه إهانة للضحايا، كان ولا يزال إنكاراً لحق الإيطاليين في معرفة جوانب من تاريخ بلادهم، ورغم التّستّر الرّسمي، ترك تاريخ الإستعمار بعض الآثار ومن ضمنها مقبرة صغيرة في جزيرة أوستيكا حيث دُفن المرحلون الليبيون الذين قضوا في الأسر، ويُحْيِي بعض التقدّميين والشيوعيين الإيطاليين خلال الفترة من 15 إلى 18 أيار/مايو من كل عام ذكرى المَنْفِيِّين الليبيين، وضحايا الإستعمار الإيطالي ويتوجهون إلى جزيرة أوستيكا لوضع وردة على تلك القبور وغرس شجرة زيتون، تخليدًا لضحايا الاستعمار الإيطالي، ولذكرى المنفِيِّين الإيطاليين المناهضين للفاشية... محاولة جرد الأضرار أرادت إيطاليا إقامةَ مملكةٍ لاتينية في ليبيا وتأمينِ استيطانِ ثلاثة ملايين إيطالي فيها، فأقدَمَ جيشها على ارتكابِ آلافِ المجازر الوحشيَّة حيث قُتِلَ حوالي عشرون ألف بين سنة 1911 وبداية الحرب العالمية الأولى، فضلا عن تهجير حوالي ثمانين من سكان منطقَتَيْ بُرقة وطرابلس نحو صحراء سِرْت، حيث مات عددٌ كبير منهم وماتت مواشيهم بسبب قلة أو غياب الماء، وتم اختطاف الأطفال من سن الرابعة إلى الثانية عشر وإرسالهم إلى عائلات إيطالية... قَدّر المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية عدد المنفيين إلى جزر أوستيكا وترامتي، من طرابلس لوحدها بخمسة آلاف معروفين بأسمائهم وألقابهم وقبائلهم وقراهم ومدنهم، فضلا عن المعتقلين في عشرات المعتقلات التي أقامها الإستعمار الإيطالي على عجل في مدن سلوق والعقيلة والبريقة وعين غزالة والخمس ومصراتة وتاردية بالجبل الغربي، وقُدِّر مجموع المعتقلين المعروفين في كافة أنحاء ليبيا ب37763 وتم تسخير ما لا يقل عن ثلاثة آلاف ليبي في أعمال شق الطرق وتمهيد الأرض للزراعة بالسخرة، وقُدِّرَ عدد المنفيين والمفقودين بنحو 12 آلاف مواطن ليبي بقي مصيرهم مجهولاً، وقُدِّرت أعداد شهداء المعارك من الليبيين في المرحلة الأولى 33.181 شهيدا، وبلغ إجمالي المتضررين من الغزو الإيطالي حوالي مائتي ألف وفق دراسة لجنة التعويضات عن أضرار الاستعمار الإيطالي، وبلغ عدد الليبيين الذين أجبرتهم إيطاليا على القتال في صفوف جيشها في إريتريا والحبشة والصومال 25.738 مواطنا ليبيا، ولم يتم تعويض عائلات القتلى والمصابين، ولا تزال القنابل المزروعة منذ الحرب العالمية الثانية تحصد أراوح مواطني شمال إفريقيا من مصر إلى المغرب، وتخص هذه الأعداد المذكورة الفترة من 1911 إلى 1933، وكثفت السلطات الفاشية القمع منذ سنة 1934، سواء داخل إيطاليا أو في المستعمرات، حيث أقامت ستة عشر معسكر اعتقال سُجن بها ما لا يقل عن 110 آلاف بين 1929 و 1934 بعد قمع المقاومة... تم التعتيم على جرائم الإستعمار الإيطالي سواء في ليبيا أو في الصومال والحبشة وإريتريا أو في البلقان، ولم تتم محاكمة زعماء الفاشية الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية على غرار ما حصل في محاكمة النازية الألماني في نورمبيرغ، وتم التستّر عن الإعتقالات حيث قُتل ما لا يقل عن ستين ألف في المعتقلات سنة 1934، والإعدامات والإبادة والنّفي والتهجير القسري ومصادرة الأراضي وتسميم المواشي ( قتل حوالي 600 ألف رأس سنة 1929 لوحدها) والمحاصيل وحرقها وبناء جدار على طول الحدود المصرية، وفق بحث نشره عالم الأنثروبولوجيا الإنغليزي بجامعة أوكسفورد إيفانز بريتشارد ( 1902 – 1973)، والمؤرخ الإيطالي أنجيلو ديل بوكا ( Angelo Del Boca ) في كتابه بعنوان ( A un passo dalla forca )، حيث كتب كلّف الغزو الإيطالي الشعب الليبي مائة ألف روح على مدار عشرين عامًا، بينما لم يتجاوز عدد سكان ليبياثمانمائة ألف نسمة سنة الغزو ( 2011) أي إن واحد من كل ثمانية ليبيين فَقَد حياته في القتال أو في معسكرات الاعتقال والنّفي في سرتيكا، أو في السجون الإيطالية الأخرى، أو معلقًا على المشنقة بتهمة الدّفاع عن الوطن، ولا تزال المعلومات عن محنة الشعب الليبي ناقصة رغم محاولات جمع بعض الكتب والوثائق من مصادر محلية، بينما لا تزال معظم المصادر الإيطالية والأوروبية متحيزة... أُتيحت لأنجيلو ديل بوكا سنة 2006 فرصة الاطلاع على وثيقة لم تكن معروفة من قبل: مذكرات محمد فكيني، زعيم قبيلة الروجيبان، أحد أشد معارضي الإستعمار الإيطالي، ولخص المؤرخ الإيطالي من خلالها أفكار "الآخرين" ومشاعرهم واستراتيجياتهم السياسية، ومقارنة الروايتين ( الإيطالية والليبية ) للوقائع... تميزت أبحاث البريطاني إيفانز بريتشارد والمؤرخ الإيطالي أنجيلو ديل بوكا بإدراك فظاعة الدمار وجرائم الإبادة والقضاء على مقومات الحياة من قتل الماشية وحرق المحاصيل وتسميم المياه والأرض... أخفت أو أتْلَفَتْ إيطاليا الفاشية والنظام الذي جاء بعدها الكثير من السجلات الأرشيفية التي توثِّق ما حصل في معسكرات الاعتقال، كما قامت السلطات بوضع العقبات في طريق الباحثين... سياسة التهجير والنَّفْي: يُصادف تاريخ 29 تشرين الأول/أكتوبر وصول أول سفينة تحمل المُهجَّرين الليبيين إلى جزر تريميتي، خلال شهر تشرين الأول سنة 1911 وفق انجيلو ديل بوكا الذي وثق وقائع الإستعمار الإيطالي، مستعينا بمجلس بلدية الأرخبيل والمعهد الإيطالي للبحوث السياسية ( (ISIAO وبلديات فافينانا وبونزا وأوستيكا، ونشر المُؤرخ بعض أساليب الفترة الاستعمارية الإيطالية في ليبيا (1911-1947) من الإبادة الجماعية والأعمال الإنتقامية، واستخدام الغازات السامة والقنابل الحارقة ضد المدنيين، وإقامة أولى معسكرات الاعتقال المدنية في القرن العشرين، خصوصا بعد هزيمة الجيش الإيطالي يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011، في معركة سيارا سيات التي قُتل خلالها 21 ضابطًا و482 جنديًا، كما خسر الجيش الإيطالي سنة 1915، خلال "الثورة العربية الكبرى"، جميع الأراضي التي احتلها ولم يحتفظ إلا ببعض الموانئ، وأدّى الإنسحاب بعد المتسرع إلى وفاة نحو عشرة آلاف شخص، واستغرق الأمر عشرين عامًا لاستعادة ليبيا بالكامل، مع استخدام استخدام غاز الخردل والفوسجين ضد السكان المدنيين. كانت الجزر الإيطالية التي تم نفي الليبيين فيها من بين أكثر الأماكن التي يصعب الوصول إليها وهي مصنفة غير صحية وغير قابلة للحياة، ويُقدّر عدد المرحّلين الليبيين إلى هذه الجُزُر أربعة إلى خمسة آلاف خلال شهر تشرين الأول/اكتوبر 1911 وحده، وارتفع عدد المنفيين بعد كل نكسة للجيش الإيطالي، وتم احتجاز ما لا يقل عن مائة ألف في معسكرات الاعتقال في ليبيا، مات 40 ألفًا منهم بسبب الأوبئة، والظروف الصحية المُزرية في المعسكرات، والنظام الغذائي غير الصحي، والإبادة المُتكررة... كتب انجيلو ديل بوكا الذي قضى سنوات في توثيق فظائع الإستعمار الإيطالي " تشير التقديرات إلى أن ثلث السجناء فقط نجوا من الاحتجاز... تم ترحيل الليبيين الذين قاوموا أو يُشتبه في مقاومتهم كالماشية على متن السفن، ورُحِّلوا إلى جزر تريميتي وفافينيانا وبونزا وأوستيكا، وتُرِكوا هناك ليموتوا وتم مؤخرًا إقامة نصب تذكاري في جزر تريميتي، ونصب تذكاري في مقبرة بونزا (يتضمن لوحةً خارج الزنازين التي احتُجزوا فيها)، ولوحةً في مقبرة أوستيكا، فيما لا تزال الكتب المدرسية الإيطالية تُغفل هذه الفظائع، ولا يزال من المستحيل مشاهدة فيلم البطل الليبي عمر المختار، الذي أعدمته قوات الاحتلال الفاشي بقيادة الجنرال غراتسياني... كانت الرقابة صارمة للغاية طيلة فترة الإحتلال، سواءً خلال الحقبة الليبرالية الديمقراطية أو خلال الحقبة الفاشية التي استمرت عشرين عامًا، لكن من الغريب استمرار الصمت في إيطاليا على عمليات الترحيل والمجازر، في كل من ليبيا والحبشة، حتى بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال الكتب المدرسية وكتب التاريخ تتجاهل تلك الأحداث أو تقلل من شأنها، ولا يزال شريط "أسد في الصحراء"، ممنوعا تقريبًا ولم يُعرض إلا في نوادي السينما، ومن الوثائق النادرة، نشرت مجلة "الرسم التوضيحي الإيطالي"، صورة لمجموعة من المنفيين الليبيين بجزيرة سان نيكولا، بعددها 48، بتاريخ 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1911 بذلت بلديات الجزر الصغيرة جهودًا خلال السنوات الأخيرة فأقامت نصب شهداء سيارا سيات التذكاري، وضريح رمزي تكريما لشهداء معتقل جزر تريميتي، وأقامت بلدية جزر تريميتي يومًا دراسيّا سنويا حول المُهجّرين المنفيين الليبيين... من المؤسف أن تصبح ليبيا اليوم ( كما تونس ومصر والدّول المُتوسّطية العربية) قوة شرطة تمنع المهاجرين الفارين من الفقر والحروب من الذّهاب إلى أوروبا وتحمل مخاطر الموت غرقًا في البحر الأبيض المتوسط، وإنشاء معتقلات "بذريعة مكافحة الهجرة غير النظامية" بتمويل من السلطات الإيطالية والأوروبية... كانت جزر تريميتي أماكن للاحتجاز والترحيل، وبقيت قصة آلاف الرجال والنساء والأطفال الليبيين الذين رُحِّلوا إلى جزر ديوميدي من قِبل الإستعمار الإيطالي سنة 1911 غير معروفة، وتم ترحيلهم إلى إيطاليا بتهمة "التعاون مع المتمردين" و مات معظم هؤلاء المرحلين، نظرًا لقساوة الظروف الصحية وقلة النظافة وظروف المعيشة المروعة، بسبب سوء التغذية والمرض، وبعد حوالي قَرْن، أُقيم ضريح بالقرب من المقبرة في جزيرة سان نيكولا، تخليدًا لذكرى الحدث المؤلم لليبيين المرحَّلين إلى جزر تريميتي، خلال عملية السيطرة الإستعمارية الإيطالية على منطقتي طرابلس وبرقة سنتَيْ 1911 و 1912، حيث قاوم الشعب الليبي الغزاة الجدد الذي ادّعوا تحريره من الدّولة العثمانية التي كانت تحتل ليبيا منذ أربعة قرون، واعتبر الشعب الليبي جيوش إيطاليا غزاة وليسوا محررين، ولهذا السبب غالبًا ما انحاز الليبيون إلى الجنود الأتراك في الهجمات على القوات الإيطالية، كما حدث في معركة سيارا سيات يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر 1911، وردًا على ذلك، قتل الجيش الإيطالي السكان الليبيين في طرابلس، وأمر رئيس الوزراء الإيطالي، جيوفاني جيوليتي، الجنرال كارلو كانيفا بترحيل المتمردين الليبيين إلى جزر تريميتي، وأبلغه أن جزر تريميتي يمكن أن تستوعب أكثر من 400 سجين، ورتّب كانيفا عملية ترحيل آلاف الليبيين، بين 25 و 30 تشرين الأول/اكتوبر 1911، الذين وُزّعوا بعد ذلك على مختلف المنافي الإيطالية، بما في ذلك جزر أوستيكا وفافيجنانا وجيتا وبونزا، تم إلقاء القبض على المرحّلين بشكل رئيسي في منطقة طرابلس، وكانوا مقاومين وأطفالا وشبابا ونساء وكبار سن ومتسولين ومزارعين وتجار وملاك أراضي أثرياء، واستغرقت الرحلة أربعة أيام على متن سفن غير صالحة لنقل البشر فلقي العديد منهم حتفهم أثناء العبور، وأُلقيت جثثهم في البحر ، ووصل حوالي 1300 سجين إلى جزر تريميتي، وتوفي ثلثهم بسبب ظروف المعيشة المزرية، وكان الأرخبيل يتسع لحوالي 360 سجينًا، فاضطر الكثيرون إلى العيش في إسطبلات وكهوف محفورة في سفح الجبل المطل على جزيرة سان نيكولا، معرضين أنفسهم لعوامل الطقس القاسية، وساهمت ندرة الغذاء والماء في انتشار الأوبئة، وخاصة التيفوس، الذي قضى على عدد كبير من نزلاء السجن بعد خمسة أشهر. خاتمة يُشير المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية إن الإستعمار الإيطالي صادر الأراضي الصالحة للزراعة واستقدم آلاف المستوطنين لتملكها وتشغيل الليبيين بها بالسخرة، واستحوذ على كل الورش والصناعة البدائية وتم منحها إلى المستوطنين الإيطاليين... قدر بعض الباحثين إن 75% من الشعب الليبي فقدوا حياتهم أو تم سجنهم ونفيهم خلال فترة الإحتلال الإيطالي وتعاقبت الحكومات بعد ذلك واتفقت جميعها على سياسية النسيان الانتقائي للماضي الاستعماري حيث يتم تمجيد جوانب وإظهارها بصورة إيجابية ويتم مسح الجوانب السلبية من الذاكرة، بل احتجّت الحكومة الإيطالية، سنة 1997 لدى حكومة بريطانيا لمنع بث شريط وثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية بعنوان "الإرث الفاشي" حول جرائم الحرب الإيطالية، واشترت قناة راي ( شبكة القطاع العام التلفزيوني الإيطالي) نسخة من الشريط لكنها لم تبثه، وبعد سبع سنوات ( سنة 2004) عرضت قناة إيطالية خاصة بعض مقاطع من الشريط... حاولت الحكومة الإيطالية، سنة 1982، منع توزيع شريط أسد الصحراء ( إنتاج سنة 1981) عن المقاوم عمر المختار واستمر الحظر لمدة 27 عاما حتى تم بث الفيلم سنة 2009 على قناة سكاي إيطاليا أثناء زيارة معمر القذافي الذي حرضت الحكومة الإيطالية على الإطاحة به سنة 2011... يُطالب بعض الباحثين والمناضلين المناهضين للإستعمار بمراجعة نقدية للإرث الاستعماري الإيطالي، غير إن ارتفاع شعبية اليمين المتطرف في أوروبا وقيادة حكومة إيطاليا من قِبَل ائتلاف يقوده اليمين المتطرف، يسعى إلى تمجيد الإستعمار، ويُعتبَرُ إخفاء الذاكرة الاستعمارية إهانةً للضحايا الليبيين الذين قَضَوْا في المنفى والأَسْر، تم نسيانهم، كما يُعتَبَرُ إنكارًا لحق الإيطاليين في معرفة تاريخهم، فقد كانت ظروف الاحتجاز قاسية للغاية، كما يتضح من القصائد التي كتبها أثناء سجنه الشاعر والمناضل فاضل الشلماني من طبرق الذي تم ترحيله سنة 1912 إلى نفس الجزر التي احتُجز فيها لاحقًا مناهضو الفاشية، بمن فيهم أنطونيو غرامشي، وهي واحدة من فظائع التاريخ الاستعماري الإيطالي العديدة، الليبرالية في البداية، ثم الفاشستية. كتب فاضل الشلماني "نحن في زنزانات صغيرة، مكتظون، بلا ضوء شمس، وأبوابنا الحديدية مغلقة، وأينما نظرتُ، لا أرى إلا الإيطاليين.
#الطاهر_المعز (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدُّيُون تُعَرْقِلُ التّنمية
-
أفريقيا في قلب المعركة العالمية على المعادن الاستراتيجية
-
مُتابعات – العدد الثالث والخمسون بعد المائة بتاريخ السّادس م
...
-
بإيجاز - الغذاء والصّحّة
-
مَنْ صاحِبُ القرار، الولايات المتحدة أم الكيان الصهيوني؟
-
سوريا – السنة الأولى لسلطة المنظمات الإرهابية
-
الإستخدام السّلْبِي ل-الذّكاء- الإصطناعي
-
مُتابعات – العدد الثاني والخمسون بعد المائة بتاريخ التاسع وا
...
-
انتخابات نيويورك وفوز زهران ممداني
-
اقتصاد العراق بين وَفْرَة النّفط وارتفاع حجم الدُّيُون
-
حركة التضامن الأوروبية مع الشعب الفلسطيني
-
فلسطين - خطة استعمارية أمريكية
-
مُتابعات – العدد الواحد والخمسون بعد المائة بتاريخ الثاني وا
...
-
التدخلات الأمريكية في امريكا الجنوبية
-
أوروبا - الفساد في أعلى هرم السّلطة
-
غزة، من -ريفييرا الشرق الأوسط- إلى -خطة السّلام-
-
بإيجاز - خطوات أمريكية على طريق إنجاز -الشرق الأوسط الكبير-
-
تفاوت طبقي بالأرقام
-
الصين والولايات المتحدة ومكانة الدّولار والصناعة والتكنولوجي
...
-
مُتابعات – العدد الخمسون بعد المائة بتاريخ الخامس عشر من تشر
...
المزيد.....
-
مرتديًا قبعة سانتا.. أوباما يفاجئ طلاب مدرسة في شيكاغو
-
من هي لونا الشبل مستشارة الأسد التي ظهرت معه في التسريبات ال
...
-
ماذا نعرف عن قوات الدعم السريع التي تسيطر على نصف السودان؟
-
كيف يقرأ محرّر الشؤون الدولية في بي بي سي الحياة في سوريا بع
...
-
حيوان الرنة لارس تربى يدويا في المملكة المتحدة ينضم إلى القط
...
-
ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار بنايتين في مدينة بفاس إلى 22 قتيلا
...
-
منظمة اليونسكو الأممية تسجل القفطان المغربي تراثا عالميا غير
...
-
أي رد فعل أوروبي على انتقادات ترامب اللاذعة؟
-
آخر ما نعرفه عن حادث انهيار بنايتين سكنيتين في مدينة فاس
-
22 قتيلا في انهيار مبنيين في مدينة فاس المغربية
المزيد.....
-
قراءة في تاريخ الاسلام المبكر
/ محمد جعفر ال عيسى
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
المزيد.....
|