|
|
تمرد الهوامش في مقبرة المسودات المحذوفة - قصة ميتاسريالية
غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 20:13
المحور:
الادب والفن
لم يكن المستنقع مجرد وحلٍ لزج؛ كان عبارة عن جملة اعتراضية طويلة ومملة في رواية لم يقرأها أحد. في هذا القاع المعتم، حيث لا وجود للشمس، بل مجرد "فكرة باهتة عن الضوء"، عاش ميمون وأنوار كانا كائنين من الهلام الوردي المؤلم، يزحفان ببطء شديد. يمتلك ميمون ثلاث عيون دائرية ترى ما خلف السطور، بينما تمتلك أنوار مجسات رقيقة تمكنها من السباحة في الهوامش. مدّ ميمون طرفه اللزج والتقط قطعة من "طحالب الفراغ". لم تكن طحالب بالمعنى البيولوجي، بل كانت بقايا كلمات محذوفة، وأحرفًا تم شطبها من مخطوطة لم تُطبَع. قال ميمون وهو يمضغ الطحالب التي كان طعمها يشبه طعم "النسيان": "أنوار، هل تشعرين بذلك؟ السطر القادم يقترب. إنه يحمل رائحة الكارثة المعتادة". توقفت أنوار عن تلميع قشرتها الرقيقة بالطين الأسود. نظرت إليه بعينين واسعتين تفيضان بالحزن السائل: "أعرف يا ميمون. إنها الصفحة رقم 400. الصفحة التي تسقط فيها الصخرة، أو يظهر الوحش، أو يجف المستنقع. السيناريو يتغير، لكن الألم ثابت". لم يكن ميمون خائفاً من الحدث نفسه، بل كان مرعوباً من تكراره. كان يعلم أنه شخصية خيالية، ويدرك أن هناك "كاتباً" سادياً في الأعلى يمسك بقلم، ويقرر في كل مرة أن يعيد كتابة المشهد ليكون أكثر إيلاماً. قرر ميمون أن يفعل المستحيل.. قرر أن يخرج عن النص. لن ننتظر هنا! صرخ ميمون، وخرج صوته كفقاعات هواء تنفجر بصوت مكتوم. "سأغير الحبكة. سأزحف نحو الحاشية السفلية، هناك حيث لا ينظر القارئ". أمسك بمجس أنوار، وبدآ يزحفان بعيداً عن مركز المستنقع. فجأة، بدأت السماء تمطر حبراً أسود كثيفاً، وتحولت الأرض تحتهما من طين لزج إلى ورق أبيض ناصع وصلب. حاول ميمون استخدام قدرته السريالية؛ ركّز بعيونه الثلاث على "طحالب الفراغ" وحاول تشكيلها لتصبح "درعاً"، لكن الطحالب تحولت بين يديه إلى "فاصلة" (،) عملاقة وحادة. حاول أن يصرخ ليغير الحوار، لكن فمه اختفى فجأة؛ لأن الكاتب قرر شطب جملته الحوارية في المسودة الأخيرة. أصبح ميمون صرخة صامتة بلا فم. اختفت أنوار، وبقي ميمون وحيداً في مستنقع العفن، يحيط به بياض الورق المرعب. شعر بالألم المألوف يمزق أحشاءه الهلامية؛ إنه الألم الذي يمنحه "عمقاً" دراميًا. فكر ميمون: "سأنتقم.. سأخترق الورق" لكن، في ذروة غضبه، شعر بجسده يذوب ويعاد تشكيله. عاد المستنقع لزجاً، وعادت طحالب الفراغ لتنمو، وظهرت أنوار بجانبه تلمع قشرتها، غير مدركة لما حدث، أو ربما نسيت عمداً. نظر إليها ميمون والرعب يملأ عيونه الثلاث. قالت أنوار بابتسامة بريئة: "صباح الخير يا ميمون.. هل تشم هذه الرائحة؟ طحالب الفراغ طازجة اليوم". أدرك ميمون الحقيقة المرعبة: التغيير المستحيل ليس في منع الألم، بل في تذكر الألم بينما يعيد النص تدوير نفسه إلى الأبد. فتح فمه ليحذرها، لكنه وجد نفسه يقول رغماً عنه، وفقاً للنص المكتوب مسبقاً: "نعم يا أنوار.. إنه يوم جميل" بعد أن أُغلق المشهد السابق على عبارة "إنه يوم جميل"، اهتز الواقع قليلاً. لم يعد المستنقع مجرد حفرة مظلمة؛ بل تحول فجأة إلى "مزار سياحي". انشقت الأرض وخرجت "الكائنات القذرة". لم تكن قذرة بالمعنى الحرفي للأوساخ، بل كانت قذرة "معنوياً". مسوخ تشبه خنافس ضخمة ترتدي بدلات رسمية مهترئة، أطرافها عبارة عن دبابيس صدئة وأشرطة لاصقة. كانت وظيفتها: الديكور وتزيين عملية "تجميل" المأساة. بدأت هذه الكائنات بالعمل بنشاط محموم حول ميمون وأنوار. كانوا يزحفون فوق الوحل، يدهنون الطين الأسود بطبقة من البريق وبقايا أحلام مكسورة. اقترب أحد هذه المسوخ من أنوار، وبحركة مسرحية، قام بتعليق "لافتة نيون" مكسورة فوق رأسها تومض بعبارة: [منطقة الألم الرومانسي] نظرت أنوار إلى اللافتة بانبهار، وقالت بسذاجة مبرمجة: "انظر يا ميمون! إنهم يحتفلون بنا. انظر كيف يزينون العفن بشرائط ملونة! هل هذا مهرجان الحصاد"؟ أراد ميمون أن يتقيأ، لكن فمه كان مسدوداً بكرة من "شعر البنات" مصنوعة من نسيج العنكبوت والغبار، حشرها أحد الكائنات القذرة في فمه بالقوة ليمنعه من إفساد المشهد. زحف كائن قذر ضخم، يبدو أنه "المدير الفني" لهذا المستنقع الترفيهي. كان يحمل لوحاً خشبياً ويدون ملاحظات. وقف أمام ميمون وقال بصوت يشبه صوت احتكاك الفلين بالزجاج: "اسمع يا سيد ميمون. في الدورة الطحلبية السابقة كان أداؤك درامياً جداً ومملاً. الجمهور ملّ من البكاء الصامت. في هذه الدورة، نريد المزيد من الترفيه . عندما نطعن أنوار بخنجر الفراق، نريد منك أن تبتسم للكاميرا. نريد ألماً قابلاً للتسويق"! حاول ميمون الصراخ: "أي جمهور؟ نحن وحدنا هنا!". لكن الكائن القذر ضحك، ونثر مسحوقاً وردياً فوق المستنقع، فتحولت رائحة العفن الكريهة فوراً إلى رائحة "فانيليا صناعية" خانقة. تحول المستنقع رسمياً إلى "منتجع البؤس الشامل". طحالب الفراغ التي يتغذون عليها لم تعد عادية، بل قامت الكائنات القذرة بتغليفها بأكياس بلاستيكية براقة كُتب عليها: [وجبة خفيفة بنكهة العدم - خالية من السعرات الحرارية ومن الأمل]. أكلت أنوار غلافاً كاملاً وهي تضحك: "طعمها مقرمش اليوم يا ميمون".! في تلك اللحظة، أدرك ميمون الحقيقة الأكثر رعباً من الموت: عذابهما ليس عقاباً، بل هو "المحتوى". وهذه الكائنات القذرة هي خوارزميات تقوم بتحسين "تجربة المستخدم" لمن يراقبهم من الأعلى. همس الكائن القذر في أذن ميمون: "في الدورة القادمة، إذا قمت بأداء مشهد الانهيار العصبي بإتقان، سنمنحك تذكرة للدرجة الممتازة.. ربما لوناً بنفسجي كئيباً بدلاً من الأسود؟ عرض مغرٍ، أليس كذلك"؟ فجأة، انطلقت ألعاب نارية. لكنها لم تكن ناراً، بل كانت حروفاً متفجرة في السماء تشكل كلمة "نهاية" ثم تتحول إلى رماد يسقط. التفتت أنوار إلى ميمون، وجهها مغطى بالمكياج الذي وضعته الكائنات بالإكراه، وقالت: "كان يوماً ممتعاً، أليس كذلك؟ أشعر أننا نجوم". نظر ميمون إليها، واليأس قد تحول بداخله إلى مادة صلبة، ثم نظر إلى طاقم العمل الذي كان يكنس المسرح ويطفئ أضواء النيون استعداداً للدورة القادمة. أجاب ميمون، وهو يقرأ النص المكتوب على بطاقة يحملها المخرج أمامه: "نعم يا أنوار.. نحن نجوم.. تحترق في فراغ لا يصفق له أحد" أُسدل الستار، وبدأت الكائنات القذرة في بيع تذاكر الدورة القادمة. بدأت الدورة الجديدة بصافرة إنذار. نزل "فريق التجميل" لتلميع المستنقع بطبقة جديدة من "طلاء المعاناة اللامع". كانوا يحاولون إجبار ميمون وأنوار على الوقوف في نقطة المنتصف لتلقي "صدمة عاطفية" مقررة في الصفحة الخامسة والستين. بدلاً من أن يتبع ميمون النص ويقول عبارته المعتادة ("أنا أتألم، إذن أنا موجود")، زحف بصمت مُطبق نحو أنوار. لم يتكلم. بدلاً من ذلك، قام بمدّ ذراعه الهلامية ودمجها بذراع أنوار. لم يكن هذا مجرد تلامس، بل كان نقل بيانات. ضخّ ميمون كل "وعيه الميتا-سردي" داخل جسد أنوار. رأت أنوار في لحظة خاطفة كل الدورات السابقة: رأت نفسها تموت، تُمحى، تُعاد كتابتها، وتؤكل كوجبة خفيفة. رأت الخيوط التي تحرك مجساتها. شهقت أنوار وبدأت تتقيأ "شعر البنات" و"الفانيليا الصناعية" التي حُشيت بها. همست بصوت لم يكتبه أحد: "هذا ليس مستنقعاً.. هذا استوديو" عندما اقترب أحد الكائنات ليعيد رسم ابتسامة حزينة على وجه أنوار، بصقت في وجهه "حبراً أحمر". الحبر لم يكن مجرد سائل، بل كان "واقعاً صرفاً". صرخ الكائن حين بدأ الحبر يذيب "بدلته الرسمية" ويكشف عن تروس معدنية صدئة تحته. قال ميمون لأنوار عبر التخاطر اللزج: "لا تمنحيهم دراما. لا تصرخي. لا تبكي. فقط.. كوني مملة. كوني حقيقة قبيحة لا يمكن بيعها". توقفت الموسيقى التصويرية فجأة. انشق سقف المسرح (السماء الورقية)، ونزل "المدير الفني". لم يكن وحشاً، ولم يكن طحلبياً. كان شيئاً أسوأ. كان عبارة عن عين عملاقة ترتدي نظارة شمسية باهظة الثمن، وجسمه مكون من ملايين العقود والأوراق النقدية المبللة بالدم. هنا، نظر ميمون وأنوار حولهما بوعي كامل لأول مرة. بسبب الفوضى التي أحدثها، سقطت الستائر الجانبية للمسرح. وما رأوه خلف الكواليس جمّد الدم في عروقهم الهلامية. لم يكن هناك جمهور. المقاعد كانت فارغة.. أو هكذا بدت في البداية. على كل مقعد، كانت هناك نسخة من "الكائنات القذرة" تجلس هامدة، وعلى رقبة كل واحد منها بطاقة سعر تتدلى: [تم البيع للمدير الفني - عبد للأبد]. حتى العاملون في الديكور توقفوا عن الحركة، وظهرت على ظهورهم أختام حرارية: [ممتلكات خاصة - قسم المؤثرات البصرية] ضحك المدير الفني وتناثرت من فمه عملات معدنية بدلاً من اللعاب: "أيها السُذَّج! المسرحية ليست لكم، ولا للجمهور. المسرحية هي الطريقة الوحيدة لبقائي. أنا أبيع ألمكم لنفسي، وأشتريه من نفسي، لترتفع قيمة أسهمي في بورصة العدم. كل من في القاعة باع نفسه لي مقابل وعد بدور ثانوي. الآن، ميمون وأنوار يقفان وسط مستنقع مدمر، يواجهان مديراً فنياً يملك حقوق ملكية وجودهما. همس ميمون لأنوار: "هو يملك النص.. ويملك المسرح.. ويملك الممثلين.. لكنه نسي شيئاً واحداً". سألت أنوار: "ما هو؟" أجاب ميمون وهو يحدق في "طحالب الفراغ" التي بدأت تتوهج بلون غريب: "هو لا يملك الصمت. إذا توقفنا عن الفعل تماماً.. سيموت من الجوع" تجمّد ميمون وأنوار في مكانهما. تحولا إلى تمثالين من اللزوجة البيضاء الباردة. توقفت قلوبهم عن النبض، وتوقفت أفكارهم عن التدفق. تحولا إلى "لا شيء مطلق". في البداية، بدا المدير الفني مضطرباً. احترقت بعض أوراقه النقدية. لكن فجأة.. توقف عن الصراخ. عدّل نظارته الشمسية، ومال برأسه قليلاً يتأمل هذا "الجمود". ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة ومرعبة. بإشارة من يده، لم ينهار المسرح. بل تغيرت الإضاءة. نزلت من السقف إطارات ذهبية ضخمة أحاطت بميمون وأنوار، ووضعت الكائنات القذرة حبالاً مخملية حمراء حولهما، ولافتة صغيرة أنيقة كُتب عليها: [عنوان العمل: صرخة مكتومة في وجه القدر] [المادة: يأس عضوي خالص 100%] [السعر: روحك + ضريبة القيمة المضافة] تحولت الكائنات القذرة التي باعت نفسها من "كومبارس" إلى "نقاد فنيين". اقتربوا من التمثالين، أخرجوا هواتفهم وبدأوا يلتقطون صوراً "سيلفي" مع الصمت. قال أحدهم: "انظر إلى عمق الجمود في عين ميمون.. إنه يعبر عن فراغ ما بعد الحداثة ببراعة". رد الآخر: "تقلص جسد أنوار.. يا له من نقد لاذع للمجتمع الاستهلاكي!". لم يدركوا أن ميمون وأنوار لا يمثلون.. بل كانوا يحاولون الموت. لكن النظام حوّل "موتهم" إلى "معرض". اقترب المدير الفني من ميمون، ونقر بإصبعه على جبهته الصلبة، وهمس: "شكراً لكما على هذه النقلة النوعية. الصمت أرخص في الإنتاج، ولا يكلفنا كتابة سيناريو، والجمهور يدفع الضعف ليشاهد الغموض . لقد جعلتموني أكثر ثراءً". تحول المكان إلى متحف أبيض معقم وبارد. ميمون وأنوار تمثالان مخلدان في "وضعية الرفض"، والزوار يطوفون حولهم للأبد، يحللون صمتهم، ويشترون تذكارات صغيرة، ويشربون "عصير الطحالب" في الكافتيريا. دخل المتحف زائر واحد مختلف. لم يكن زائراً عادياً، ولم يكن من الكائنات القذرة. كان كائناً متوارياً ذا شوارب سوداء وشعر أبيض، يرتدي أسنانًا صناعية متحركة مصنوعة من "هوامش الكتب" و"المراجع الأكاديمية". كان رأسه عبارة عن علامة اقتباس ضخمة (") تدور حول نفسها. إنه "الناقد النخبوي". كائن يعتقد أنه يمتلك "وعياً ميتا-نقدياً" مفرطاً، لدرجة أنه لا يرى الأشياء كما هي، بل يرى ما "يجب أن تعنيه". مشى الناقد بتعالٍ، داس على الذيول الطويلة للكائنات القذرة دون اعتذار، ووقف أمام التمثالين. أخرج عدسته المكبرة، ونظر إلى اللافتة: [عنوان العمل: صرخة مكتومة في وجه القدر]. همهم الناقد بصوت يشبه صوت تمزيق الورق: "مبتذل. تقليدي. المدير الفني يفقد لمسته. من يستخدم كلمة القدر في عصر ما بعد السريالية"؟ اقترب الناقد أكثر. كانت عدسته المحدبة بها خدش صغير، وغروره كان به خدش أكبر. نظر إلى كلمة "القدر" في اللافتة. لكن بسبب الخدش في عينه، وبسبب قناعته الراسخة بأن كل نص هو "لغز" يجب حله، لم يقرأ الكلمة كما هي. صرخ الناقد بسعادة اكتشاف غبية: "آها! يا للمكر! هذه ليست صرخة مكتومة في وجه القدر .. إنها خدعة بصرية"! اللافتة تقول: [فتحة معلومة في وجه القعر] في العوالم الميتا-سريالية، "رأي الناقد" يمتلك قوة فيزيائية. بمجرد أن نطق بتفسيره الخاطئ، بدأ الواقع يرتجف. الكون لا يعرف من يصدق: "المدير الفني" أم "الناقد النخبوي"؟ استيقظ وعي ميمون المحبوس داخل الحجر بسبب هذا "الخطأ". وجد ميمون نفسه ينظر إلى الناقد، ومن صدره المفتوح تخرج "الحقيقة الخام". صرخ الناقد بفرح: "أرأيتم؟ قلت لكم إنه باب للقاع! انظروا إلى هذا السرد السائل يتدفق". حاول المدير الفني إغلاق الشق في صدر ميمون مستخدماً "شريط لاصق سردي"، لكن تدفق البيانات كان قوياً جداً. التفسير الخاطئ للناقد خلق ثقباً في حبكة المدير. أنوار، التي كان نصفها لا يزال حجراً، شعرت بالذبذبات. همست لميمون: "ميمون.. الناقد يظن أنك باب.. إذا كنت باباً، فأين تؤدي"؟ نظر ميمون إلى الناقد الذي كان يحاول الدخول عبر صدره حرفياً، ونظر إلى المدير الفني الذي يحاول ترقيعه. أدرك ميمون أن هويته الآن "ملتبسة". هو ليس بطلاً، وليس تمثالاً.. هو ثغرة. وبحركة يائسة، لم يهرب ميمون، بل قام بـ "ابتلاع" الناقد داخل الشق الموجود في صدره. اختفى الناقد داخل ميمون. وبما أنه مكون من "هوامش ومراجع"، تسبب دخوله في جسد ميمون في "تضخم معرفي" انفجاري. بدأ جسد ميمون يتضخم، ويمتد، وتحولت أطرافه إلى صفحات كتب، وعيونه إلى علامات تعجب. انتصب ميمون وسط المتحف الأبيض، وقد أصبح جسده الهلامي مغطى بوشم متحرك من الحروف (بقايا الناقد). لم يعد ينظر إلى الأشياء، بل كان ينظر من خلالها. حاول المدير الفني استعادة السيطرة، وصرخ عبر مكبرات الصوت: "أمن! أمن! البطل خرج عن النص! إنه يمارس التفكير غير المرخص! احذفوه". لكن ميمون لم يهاجم المدير. بل التفت ببطء نحو القطيع. تلك المسوخ المكررة التي باعت نفسها. فتح ميمون فمه الجديد، وأطلق سؤالاً واحداً تردد صداه كطنين كهربائي مؤلم: "لماذا"؟ بدأ القطيع يصرخ. الوعي مؤلم. الاستيقاظ من الغيبوبة السردية يشبه انتزاع الجلد. بدأ أحد الكائنات يهرش وجهه بجنون، وفجأة، سقط "قناع القذارة". تحته، لم يكن وحشاً قبيحاً، بل كان كائناً من نور باهت، تم إقناعه بأن دوره هو القبح لخدمة الحبكة. انتشرت العدوى. "المتحولون" رموا هواتفهم فتحطمت وتحولت إلى غبار طباشيري. قال ميمون بصوت جهوري: "المدير الفني لا يملككم لأنه قوي. هو يملككم لأنكم وافقتم على قراءة النص كما كتبه. المخرج يسقط فوراً إذا رفض الممثلون الهامشيون البقاء في الخلفية". صرخ المدير الفني بصوت رفيع ومرتعب: "توقفوا! سأزيد رواتبكم! سأعطيكم جملاً حوارية! سأجعلكم أبطالاً ثانويين! لا تفكروا.. التفكير يفسد العرض". لكن لا أحد استمع إليه. تحول المتحف الأبيض إلى فوضى عارمة من "إعادة الكتابة". بدأوا يغسلون الطين عن أجسادهم باستخدام "حبر الحقيقة" الذي ينزف من صدر ميمون. وسط هذه الفوضى، التفت ميمون إلى أنوار. كانت لا تزال نصف حجر، محبوسة في دور "الضحية الرومانسية". اقترب منها وهمس لها بوعي الناقد المحب: "أنوار.. انظري إلى الحجر. إنه ليس صلباً. إنه مكون من كلمات وصفية جامدة، عاجزة، حزينة. هذه الكلمات ليست أنتِ. هذه الكلمات هي رأي الكاتب فيكِ". نظرت أنوار إلى جسدها الحجري بوعي جديد: "هذا مجرد حبر جاف؟" أجاب ميمون: "نعم. وأنتِ سائلة". أغمضت أنوار عينيها، ورفضت الوصف. سقط الحجر عنها كقشرة بيضة، وخرجت مشعة بضوء التحرير. نظر ميمون إلى الحشد، ثم إلى الفراغ الأبيض اللانهائي الذي يحيط بهم بعد سقوط الجدران، وقال: "سابقاً، كان الخوف من الصفحة التالية لأن شخصاً آخر يكتبها. الآن.. الصفحة بيضاء لأنها تنتظرنا نحن لنكتبها". أمسك ميمون بقلم سقط من جيب الناقد المختفي، وقدمه إلى أحد الكائنات المحررة: "تفضل.. اكتب جملتك الأولى" "هنا انتهت سلطة النص المفروض"
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التراجعات الإبستيمولوجية واغتيال العقل: الحلول الهروبية في ا
...
-
سجع المخصي واليقين المعدوم -قصة ميتاسريالية
-
البيوبوليتيك والنيكرو-بوليتيك كآليات لضبط الحياة والموت في ا
...
-
التسطيح المقعّر في المستوى الميتا-غائم -قصة ميتا سريالية
-
التعاضد الثلاثي: الأسطورة، رأس المال، والسلطة
-
الوعي الترانسندالي وأوهام الميتافيزيقا
-
الوعي القاتل: مقاربة تكاملية للقفزة المعرفية، القلق الوجودي،
...
-
ماهية الفن في زمن الأضداد
-
اقتصاديات الهامش الأقصى: مقاربة فلسفية نقدية
-
الذات: جسد عارٍ في عصر النسبية التكنولوجية للخصوصية
-
أبولوجيا التدجين والسلطة: من الإخضاع البيولوجي إلى الترويض ا
...
-
الذات، المكان والكلمة: تحليل العلاقة التعاضدية في بناء الهيك
...
-
الأنوقراطية الزومبي وفلسفة النيوكولونيالية في الألفية الثالث
...
-
ثورة الجمال: قصة سريالية
-
الهرمسية الحديثة والسيطرة النخبوية: جدلية -نزع السحر- و-إعاد
...
-
الحداثة: المعرفة، القوة، والأخلاق: نقد جنيالوجي للانفصال الق
...
-
الوعي والمعنى الفلسفي للموجودات
-
الماهية والوجود: إعادة تعريف منهجي عبر الحاضرية الوجودية الش
...
-
التكلفة اللغوية للتماهي الفلسفي: تشكيل الوعي بين المتخيل وال
...
-
ثلاث قصص سريالية
المزيد.....
-
يوروفيجن تحت الحصار.. حين تسهم الموسيقى في عزلة إسرائيل
-
موجة أفلام عيد الميلاد الأميركية.. رحلة سينمائية عمرها 125 ع
...
-
فلسطينية ضمن قائمة أفضل 50 معلمًا على مستوى العالم.. تعرف عل
...
-
أفلام الرسوم المتحركة في 2025.. عندما لم تعد الحكايات للأطفا
...
-
العرض المسرحي “قبل الشمس”
-
اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.. احتفال باللغة وال
...
-
المدير التنفيذي لمعجم الدوحة: رحلة بناء ذاكرة الأمة الفكرية
...
-
يعيد للعربية ذاكرتها اللغوية.. إطلاق معجم الدوحة التاريخي
-
رحيل الممثل الأميركي جيمس رانسون منتحرا عن 46 عاما
-
نجم مسلسل -ذا واير- الممثل جيمس رانسون ينتحر عن عمر يناهز 46
...
المزيد.....
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
المزيد.....
|