غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 22:17
المحور:
المجتمع المدني
تأطير المعضلة الفلسفية والمقاربة الجنيالوجية
إن الأطروحة القائلة بأن "المعضلة الأصلية للحداثة تكمن في ربط المعرفة بالقوة القهرية على الآخر" تمثل تشخيصاً فلسفياً عميقاً للتحولات الإبستمولوجية التي شهدها الفكر الغربي. هذه الأطروحة ليست مجرد نقد سياسي للسلطة، بل هي إدانة للمسار المعرفي الذي جرّد المعرفة من غايتها القيمية وحوّلها إلى أداة تكنولوجية للسيطرة والهيمنة.
المعرفة بوصفها تكنولوجيا للسيطرة والقهر
تؤكد المقاربة النقدية أن المعضلة الأصلية للحداثة تكمن في الربط المعرفي بين المعرفة والقوة القهرية على الآخر [1]. لقد أدى هذا الارتباط إلى تجريد المجال المعرفي من القيمة الأخلاقية الذاتية، فظهرت المعرفة الحديثة مرتبطة بالسيطرة والهيمنة بدلاً من الأخلاق [1]. يوضح هذا المسار تحولاً جذرياً في وظيفة المعرفة: من كونها ضامناً للعدالة والخير (في الفكر الكلاسيكي) إلى كونها أداة لإنتاج القوة والسيطرة (في العصر الحديث).
يُعد المشروع الحداثي الغربي مسؤولاً حضارياً عن إرساء إبستمولوجيا الفصل بين نظام القيم الأخلاقية ودوائر المعرفة الأخرى. هذا الفصل سمح للعلم بالنمو في نطاق ما يسمى بـ "الموضوعية العلمية" المتفاخرة بحيادها. لكن هذا "الحياد" كان في جوهره إفراغاً للقيمة، مما جعل المعرفة وعاءً مثالياً لأي قوة خارجية تسعى لتوظيفها لخدمة مصالحها الخاصة، أي السلطة.
القوة القهرية مقابل السلطة الإنتاجية
لتحليل آليات القهر في الحداثة، يجب التمييز بين مفهومي القوة والسلطة. فـ القوة القهرية هي الآلية التي تمارس بها السلطة الفعل المادي أو الرمزي المباشر.
أما في الفلسفة المعاصرة، وخاصة عند ميشيل فوكو، فلا تُفهم السلطة بوصفها قوة قمعية عليا تفرض القانون فحسب، بل هي شبكة علاقات منتشرة تُنتج الأفراد والمعرفة والحقيقة [1, 2, 3]. وهذا يعني أن المعرفة لا يمكن أن تنفصل عن علاقات القوة التي تمنحها الشرعية وتجعلها ممكنة.
الأساس القيمي للمعرفة في الأطر الكلاسيكية
كانت النظرة الكلاسيكية للعلاقة بين المعرفة والأخلاق مختلفة جذرياً عن النظرة الحداثية. فلطالما نظرت الأطر الفلسفية القديمة إلى المعرفة بوصفها أساساً جوهرياً للأخلاق.
المعرفة كنظام قيمي لا أداة وظيفية:
في الفلسفة الأفلاطونية، يقوم التوجه الأخلاقي بشكل أساسي على إدراك الإنسان لجوهر الخير والشر [1]. هذا التصور يؤكد أن القضايا الأخلاقية هي قضايا كلية، عامة وشاملة لجميع الظروف والشرائط، مما يجعل المعرفة هي المنشأ الأساسي للأخلاق.
المنطق الكلاسيكي يفترض اقتراناً ضرورياً بين الفعل والإدراك:
إذا أدرك إنسان الخير والشر كما هما، فإن فعله يكون دائماً متوافقاً مع الأخلاق ولا يخرج عن إطارها [1]. في هذا السياق، فإن رأس الفضيلة هو الحكمة والمعرفة [4]. فجميع الفضائل الأخرى، كالشجاعة، هي في حقيقتها أنواع من الحكمة. على سبيل المثال، تُعرّف الشجاعة بأنها "معرفة ما يجب أن يُخاف منه وما لا يُخاف"، أما العدالة فتُعرّف بأنها العلم بالأصول والضوابط التي يجب أن تراعى في تنظيم الرابطة الإنسانية.
كانت الغاية الكلاسيكية للمعرفة ضمان العدالة والخير [1, 4]. وقد تركزت المعرفة حول التأمل والتجريد وتأويل العالم توصيفاً أخلاقياً وجمالياً، ولم تكن مجرد أداة للتحكم في الطبيعة [5]. وفي هذا النموذج، كانت الأخلاق أمراً واقعياً (وجودياً)، والإنسان الأخلاقي هو من يدرك هذه الأمور الواقعية، وكان يُكتفى في التحلي بها بمعرفة الخير من الشر.
كانت المعرفة (الحكمة) تعمل كقيد داخلي. وكان القهر الوحيد الذي يُمارس هنا هو الجهل، ومن ثم فإن مكافحة الفساد الأخلاقي تتم بالقضاء عليه [4]. هذا يوضح تمايزاً جذرياً بين المعرفة الكلاسيكية التي كانت قوة تأملية تعمل على تنظيم الذات من الداخل (العدالة الباطنية)، والحداثة التي تحولت إلى قوة أداتية تعمل على تنظيم الآخر من الخارج (السيطرة القهرية).
رغم ان، هذا النموذج الكلاسيكي احتوى على نقطة ضعف تاريخية. فافتراض أفلاطون بأن "معرفة الخير تضمن فعله" فشل في تفسير سبب اختيار الإنسان الواعي للشر. هذا الفشل سمح بظهور نقد الحداثة الذي طرح بديلاً عملياً: مادامت المعرفة لا تضمن الفضيلة، فلنجعلها تضمن النجاح والسيطرة. بالتالي، لم يكن الانتقال من "المعرفة لأجل الفضيلة" إلى "المعرفة لأجل المنفعة والقوة" مجرد طفرة، بل كانت استجابة نقدية مُدمرة لعدم فعالية النموذج الكلاسيكي في السيطرة على الواقع الاجتماعي والسياسي.
الانزياح الإبستمولوجي وآليات القوة
شهد العصر الحديث قطيعة معرفية هائلة، أدت إلى إرساء نظام إبستمولوجي يبرر القهر والسيطرة تحت ستار التقدم العلمي.
تكمن المعضلة الأصلية للحداثة في هذا الفصل الذي ربط المعرفة بالقوة القهرية على الآخر. لقد ظهرت المعرفة الحديثة مرتبطة بالسيطرة والهيمنة بدلاً من الأخلاق. هذا التجرد من القيمة الأخلاقية هو ما سمح لاحقاً لنظام القوة بملء الفراغ بـ "معرفة-قوة" وظيفية تخدم مصالحه الخاصة.
التكميم والتشيؤ كآليات للقوة الإبستمولوجية
لقد كانت النتيجة المروّعة لهذا الارتباط بين المعرفة والقوة هي الانتهاء إلى الانتقال من مركزية الإنسان إلى مركزية التقنية. وقد تم هذا التحول عبر آليتين رئيسيتين:
التكميم (يشير الى عملية تحويل الخصائص والصفات النوعية (الكيفية) أو الظواهر المعقدة إلى مقادير رقمية أو كمّية قابلة للقياس والتحليل الإحصائي): بجعل الرياضيات قوام المعرفة، أصبح كل شيء قابلاً للـ "تكميم" والتحويل إلى رقم وقياس.
التشيؤ: أدى هذا التكميم إلى تشيؤ الكائن البشري وجعله مجرد كائن مطيع لوثن الآلة، أو موضوع يُدار كمياً.
تستند القوة القهرية الحديثة إلى "الموضوعية الزائفة" التي تفصل المنهج عن الغاية، جاعلة أي نتيجة (مهما كانت لا أخلاقية) مقبولة ما دامت مستخلصة بمنهج سليم كمّي. هذا العقل الأداتي يبرر السيطرة عبر إخفاء غاية السيطرة تحت ستار "المنفعة" و"التقدم". وقد أدركت النظرية النقدية أن العقلانية التكنولوجية، التي وُلدت للسيطرة على الطبيعة، تم نقلها وتوظيفها لاحقاً للسيطرة على الإنسان نفسه.
هذا يربط المعضلة الحداثية ليس فقط بالسيطرة التقنية، بل بالهيمنة الجغرافية والتاريخية، حيث صنعت المعقولية الاستعمارية "التوحش" نقيضاً للحالة المدنية لتبرير الغزو والاحتلال.
تحليل ميشيل فوكو لشبكة المعرفة والسلطة
قدم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو تحليلاً جينيالوجياً معمقاً لآليات القهر الحديثة، مؤكداً على أن المعرفة والسلطة مترابطتان بشكل لا ينفصل. [2]
يرفض فوكو النموذج القانوني التقليدي للسلطة التي تُفهم كقوة قمعية عليا. فالسلطة، من منظوره، هي شبكة علاقات منتشرة تُنتج الأفراد والمعرفة والحقيقة [1, 8]. لا تُمارس السلطة من الأعلى إلى الأسفل فحسب، بل تتوزع عبر العلاقات الاجتماعية. [2]
من خلال "حفريات المعرفة"، أوضح فوكو كيف تتكوّن الذاتية في خطابات وممارسات واسعة النطاق ضمن حقل السلطة والمعرفة والحقيقة. على سبيل المثال، كانت الخطابات العلمية حول الجنون أو الجنسانية آليات انضباطية تهدف إلى فرض التطبيع على الجسد والسلوك، ولم تكن خطابات محايدة. ويُبرز هذا التحليل التواطؤ العميق بين السلطة و"الحقيقة" التي تُنشر، خصوصاً في مسألة الرغبات، حيث تُجعل موضوعاً لتدخل السلطة والمصلحة العامة، مما يفرض على الفرد الكشف عن ممارساته.
إن القوة القهرية الحديثة لا تحتاج إلى العنف الدائم، بل إلى إنتاج الحقيقة التي بموجبها يرى الفرد نفسه ككائن منحرف أو غير طبيعي، فيقوم بتصحيح ذاته. تعمل شبكة المعرفة-القوة كآلية انضباطية تُخضع الأجساد عن طريق العقول. [10]
في سياق الأنظمة المستبدة، تُظهر الممارسات السياسية آليات متطورة لفرض المعايير، أو بالأحرى، لتوزيع مسؤولية انعدام الأخلاق. فالأنظمة التي تقوم على القهر تعمل على نشر الفساد (كالرشوة) في تفاصيل الحياة العامة، بهدف تحويله إلى "أخلاق شعب" بدلاً من أن يبقى أخلاق مسؤول. وهذا تكتيك إبستمولوجي يسمح للسلطة برفع المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن الفساد الهيكلي، وتوجيه اللوم نحو الذات الجمعية. القهر هنا يكمن في فرض رواية زائفة للواقع الأخلاقي.
الحاجة المستمرة لتعزيز الاستقلالية الذاتية
في ضوء هذا التحالف المتنامي بين المعرفة التقنية والسلطة الحيوية، تكمن أهمية الفلسفة النقدية اليوم في الحفاظ على اليقظة الفكرية.
بدلاً من البحث عن قوانين أخلاقية موضوعية تُفرض خارجياً، يصبح العمل الأخلاقي هو فن الوجود وممارسة الحرية من خلال "تقنيات الذات" والعناية بها. هذا يسمح للذات بإعادة تشكيل نفسها في مواجهة الإكراه.
إن تعزيز الاستقلالية الذاتية يمثل الفعل المقاوم الأساسي ضد التشيؤ والتطبيع الذي تفرضه المعرفة القهرية. يجب أن تستمر مهمة الفلسفة النقدية في فضح الأيديولوجيات التي تتستر خلف العقل الأداتي، وتذكير المجتمع بأن هدف المعرفة يجب أن يعود إلى كونه ضامناً للعدالة والخير، وليس أداة للسيطرة والتمكين القهري على الآخر.
---------------------------------
المصادر والمراجع
1: [tanwair.com] فؤاد هراجة - مفاهيم أساسية في الفلسفة الأخلاقية - مجلة نقد وتنوير.
2: [siasur.com] ميشيل فوكو: بين السلطة والمعرفة – تحليل فلسفي لتطور المفاهيم الاجتماعية والسياسية.
3: [ahewar.org] مصطفى الحسناوي - السلطة عند فوكو - الحوار المتمدن.
4: [hekmah.org] محمد سبيلا - التحولات الفكرية الكبرى للحداثة: مساراتها الإبستيمولوجية ودلالتها الفلسفية.
5: [lakome2.com] المعرفة أفقا للسيطرة: أو العلم في خدمة القوة والهيمنة! - لكم-lakome2.
6: [cp.alukah.net] النظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت - شبكة الألوكة.
7: [babelwad.com] الحداثة وسياسات المعرفة: جغرافيّات النقد وتخومه - باب الواد.
8: [alantologia.com] د. زهير الخويلدي - دراسة مقارنة بين أركيولوجيا المعرفة عند ميشيل فوكو وفكر الاختلاف عند جيل جولوز وغراماتولوجيا جاك دريدا | الأنطولوجيا. (“د. زهير الخويلدي - دراسة مقارنة بين أركيولوجيا المعرفة عند ميشيل فوكو ...”)
9: [nohoudh-center.com] المأزق الحداثي وفقدان البوصلة الأخلاقية في الحاجة إلى أخلاق إحسانية.
10: [marefa.org] المعرفة والسلطة.
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟