غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8522 - 2025 / 11 / 10 - 18:42
المحور:
الادب والفن
الـمِفْـتَـاحُ الـصَـدِئُ وغُـرفَـةُ الـثَـوَانـي
كانت الساعة على حافة المدفأة تنصهر ببطء، لا عقارب لها، بل خطوط دخان ترتفع وتتلاشى، مُعلِنةً أن الزمن ليس سوى إشاعة.
كنت أرتشف كوبًا من شاي النعناع الذي لم يكن ساخنًا ولا باردًا، بل كان "بُنّيَّ اللون “، سيكاري يتدلى من فمي كأنه مسمار محنط، عندما شعرت بشيء صلب يضغط على لثتي. لم تكن ورقة نعناع ولا حافة مسمار، بل كان مفتاحًا صدئًا صغيرًا. مفتاح لم يسبق لي رؤيته، لكنه كان يحمل رائحة مسحوق الغسيل القديم، تلك الرائحة التي كانت تستخدمها جدتي في الغسيل صيفًا.
فور لمس المفتاح بلساني، انفتح الحائط أمامي. لم ينفتح إلى غرفة أخرى، بل إلى ثانية مضت.
كانت الثانية المفتوحة مضاءة بضوء أصفر باهت، ووقفت في منتصفها سيدة ترتدي قبعة عريضة وتدير ظهرها لي. لم تكن جدتي، لكنها كانت تكرر حركة محددة: تقف أمام مرآة مُغطاة بقماش وتهمس كلمة، ثم ترفع القبعة لثانية وتخفيها.
دفعتني الذاكرة اللاإرادية إلى الأمام. لم تكن هذه ذاكرتي بالكامل؛ كانت مزيجًا من ذاكرتي، وذاكرة مفروشات المنزل، وذاكرة الغسالة الصدئة
في الثانية التي دخلتها، لم يكن هناك ماضٍ أو مستقبل. كان هناك "فقط" تكرار لا نهائي لتلك اللحظة القصيرة.
حاولت أن أتذكر: ما هي الكلمة التي همستها السيدة؟
في اللحظة التي فكرت فيها بالإجابة، بدأ توقيت الغرفة بالتغير. لم يعد المفتاح في فمي، بل أصبح على الأرض بجانب قدم السيدة. وبينما كان المفتاح يصدأ أسرع فأسرع، بدأت السيدة بالتحرك. لم تتحرك للأمام أو الخلف، بل تحركت إلى الجانب الأيسر من الزمن: إلى يوم الثلاثاء الماضي.
ثلاثاء الماضي كان عبارة عن ضوء أزرق ساطع ورائحة البنزين وشعور بالغضب غير المبرر. عندما نظرت إلى يدي، وجدت أنني لم أعد أنا. لقد أصبحت سائق التاكسي الذي أوصلني في ذلك اليوم. كنت أصرخ على راكب خفي لا أراه، لكن الكلمات لم تخرج مني، بل خرجت على شكل فقاعات نبيذ احمر انفجرت على الفور، تحمل كل فقاعة جزءًا من كلمة.
عندما سقطت دمعة من عيني عادت الذاكرة اللاإرادية إلى العمل. أدركت أن السيدة ذات القبعة كانت تحاول أن تخبرني بشيء له علاقة بالغضب والنعناع والثواني الضائعة.
ركضت مسرعًا في "ثلاثاء الماضي" محاولًا العثور على الباب الذي دخلت منه، لكن لم يكن هناك باب. كان هناك فقط حائط من ورق حائط منقوش بالورود التي تنمو وتذبل في نفس اللحظة.
توقفت. أغمضت عيني عدت إلى رائحة مسحوق الغسيل الصدئة.
عندما فتحت عينيّ، كنت مجددًا في كرسيي أمام المدفأة. الساعة المصنوعة من الدخان كانت تلتف حول نفسها. المفتاح الصدئ كان على حافة الكوب، يلمع ببريق بسيط. لم يكن في فمي أو على الأرض. بل كان قد ذهب في نزهة مع لوحاتي الهاربة من التوقيع.
لَـوحَـاتُ الـظِـلالِ وَمِـرآةُ الـصَـيَـاحِ
كان مرسم "إيزاك" يقع في سرداب تحت الأرض، حيث لا يصل نور الشمس أبدًا، وحيث الرطوبة العفنة تغازل فرشاته باستمرار. لم تكن هذه رغبته، بل كانت قدره. فمنذ اللحظة التي وضع فيها إيزاك توقيعه على أول لوحة في حياته، اكتشف سرًا مرعبًا: اللوحات تهرب.
نعم، ببساطة، كانت تتدحرج، تزحف، أو حتى تطير من على الحامل، لتختفي في شقوق الجدران، أو تنصهر في الظلال، تاركةً خلفها رائحة زيت الكتان ممزوجة برائحة الخوف البارد.
في إحدى الليالي العاصفة، حيث كانت الرياح تصفع النوافذ الخشبية التي لم تكن موجودة أساسًا في السرداب، كان إيزاك يعمل على تحفته. لوحة عملاقة تصور مرايا لا نهائية تنعكس فيها وجوه مشوهة، نصفها يصرخ صامتًا، والنصف الآخر يبتسم بأسنان حادة. كان كل وجه منها يحمل عينًا فارغة وعينًا مليئة بدموع متجمدة. كان يعتقد أن هذه اللوحة ستكون مختلفة، ربما لأنها كانت مرعبة بما يكفي لتخيف نفسها وتبقى.
كان إيزاك يرتجف، ليس من البرد، بل من الهاجس الذي يطارده: أن اللوحة ستنضم إلى شقيقاتها الضائعات، تاركة إياه وحيدًا مع فراغه.
مدَّ يده المرتعشة، أمسك بقلم الفحم، ورسم توقيعه "إيزاك" في الركن السفلي الأيمن من اللوحة.
في تلك اللحظة، لم تتحرك اللوحة. بل المرايا المرسومة داخل اللوحة هي التي بدأت بالانعكاس. انعكس مرسم إيزاك داخل كل مرآة صغيرة، لكن ليس المرسم الذي كان فيه. بل انعكس مرسمه المستقبلي: مرسم مهجور، مليء بالغبار، وعلى الأرض بقايا فرشاة واحدة متكسرة.
ثم، في أبطأ حركة رآها إيزاك في حياته، بدأت المرايا تنعكس على بعضها البعض بشكل متسلسل، كل مرآة تبتلع انعكاس المرآة التي تليها، حتى أصبح كل شيء داخل اللوحة أسود حالكًا.
لم يدم هذا طويلاً. فجأة، بدأت الوجوه المشوهة داخل اللوحة تظهر مرة أخرى، لكنها لم تكن وجوهًا ثابتة. كانت تتحرك، تتقلب، وكأنها تتنفس. وبدأت الأيادي المرسومة تظهر من الزوايا، تتحسس أطر المرايا، ثم تتحول إلى أذرع طويلة رفيعة تمتد من قماش اللوحة.
ثم سمع إيزاك صوت صرير
لم يكن صوتًا خارجيًا. بل كان صوت القماش نفسه وهو يتمزق ببطء، من داخل اللوحة إلى الخارج. لم يكن هناك تمزق مرئي، لكن الصوت كان مدويًا، وكأنه يمزق طبقات الوجود.
بينما كانت اللوحة "تصرخ" بهذا الصرير، بدأت الأيادي المرسومة تخرج منها. لم تكن أيادي واقعية، بل كانت شفافة، كظلال سميكة، لكنها كانت باردة بشكل مرعب. امتدت الأيادي لتلمس وجه إيزاك، ثم أحاطت برقبته، ليس لتخنقه، بل لتجره بلطف نحو اللوحة.
شعر إيزاك وكأنه ينجذب نحو سائل سميك أسود اللون، نحو ذلك السواد الذي حلَّ محل انعكاسات المرايا. شعر بالزيوت والأصباغ تلتصق بجلده، ورائحة التربنتين تحرق رئتيه.
في اللحظة التي لامست فيها قدمه حافة اللوحة، نظر إيزاك إلى ساعته القديمة التي كان يرتديها دائمًا. لم تكن الساعة تشير إلى أي وقت محدد. بل كانت عقاربها تدور في دوائر لا نهائية، وداخل زجاجها، انعكست صورًا سريعة لجميع اللوحات التي هربت منه من قبل.
ابتسم إيزاك ابتسامة باهتة. لم يكن الأمر هروبًا للوحات بعد كل شيء. بل كان دعوة.
كانت اللوحات تعود إلى مكانها الأصلي، إلى ذلك الفراغ الذي ولدتها منه، وكانت تأخذه معها.
وبمجرد أن اختفى إيزاك تمامًا داخل السواد، انكمشت اللوحة على نفسها. لم تعد عملاقة، بل أصبحت بحجم راحة اليد. تدحرجت بهدوء من على الحامل، وفتحت لنفسها شقًا صغيرًا في الحائط، ثم اختفت.
لم يتبقَ في السرداب سوى رائحة زيت الكتان، ومزيج غريب من الصرير الصامت وصدى ضحكة باهتة. ومنذ ذلك اليوم، كلما مرَّ أحدهم بجانب ذلك السرداب، أقسم أنه سمع أصواتًا قادمة من الجدران: أصوات فرشاة ترسم، وأصوات أيادٍ تخرج من لوحة، وأصوات صرير مستمر، وكأن جدران المكان نفسها قد أصبحت جزءًا من لوحة إيزاك الأخيرة.
الأغبياء الصخريون
في فضاء لا يُدرك، يطفو كوكب هش مصنوع بالكامل من الندم البارد، يعيش عليه كائنات تُدعى "الـمُكْـعَـبْـلُـون". هذه الكائنات تشبه كتل الجيلي المتصلبة، لها ألوان باستيلية باهتة، وتتحرك بسذاجة فائقة، وعقلها محشو بالخِواء الكامل.
لقد حكم عليهم "الشيء الأعظم" بعذاب أبدي يُضاهي عذاب سيزيف، بسبب شيء بسيط وهم أكثر إحباطًا يدعى الغباء المطلق.
في وسط سطح كوكب الندم، توجد صخرة عملاقة، لونها وردي باهت وتفوح منها رائحة الجوارب القديمة. مهمة كل مُكْـعَـبْـل هي دحرجة هذه الصخرة إلى قمة تلة صغيرة طولها لا يتجاوز شبرين.
المُكْـعَـبْــل الأول يبدأ دحرجة الصخرة الوردية بكل جدية، لكنه ينسى دائمًا أن الأرض ليست مستوية تمامًا، أو أنه ينسى لماذا يدحرج الصخرة أصلاً. يصل إلى منتصف التلة، ثم يتوقف ليناقش الصخرة في أمور الطقس، أو يحاول أن يضعها على رأسه كقبعة احتفالية. تتدحرج الصخرة ثانية. يصرخ "يا لها من صخرة خبيثة!" ويعيد الكرة.
المُكْـعَـبْـل الثاني لديه فكرة ذكية. بدلاً من الدحرجة، يحاول أن يقنع الصخرة بأن تصعد لوحدها. يقضي دهورًا وهو يصف للصخرة جمال القمة الخيالي ويعدها بقطعة من كعكة الاسمنت الأبيض غير موجودة. الصخرة، طبعًا، لا تتحرك، لكن المكعبل يظن أنها تفكر في الأمر. يغفو متعبا من الجهد الإقناعي، تتدحرج الصخرة ويستيقظ المكعبل وهو يقول: "يا ليتني لم أمدح القمة أمامها!
المُكْـعَـبْـل الثالث يُعتبر الأكثر "إبداعًا" بين الأغبياء. يحاول اختصار الطريق. يرى بابًا خشبيًا دوارًا في منتصف العدم، لا يقود إلى أي مكان. يقرر أن الحل هو أن يدخل بالصخرة عبر هذا الباب. يعلق المكعبل والصخرة في الباب الدوار الأبدي. يدور هو والصخرة بلا نهاية، ويصرخ بفرح غبي: "ها قد وصلنا إلى القمة!" مع كل دورة، يعود إلى نقطة البداية.
كلما اقترب أحدهم من القمة، تذكّر فجأة أن عليه أن يعدّ كم نملة وهمية سارت على الصخرة، فيتركها ويسقط.
أحدهم يكتشف اختراعًا عبقريًا لنقل الصخرة: أن يحملها بيديه. لكنه ينسى دائمًا أي يد عليه استخدامها أولاً، فيصاب بشلل مؤقت في الاختيار.
يظل المكعبلون في عذاب أبدي ليس بسبب قوة الآلهة، بل بسبب تفضيلهم الغريزي للحل الأكثر سخافة على الإطلاق. يتدحرجون، يتذمرون، ينسون، ويضحكون على أنفسهم كلما سقطت الصخرة، معتقدين أنهم اكتشفوا طريقة جديدة "لتمرين" الصخرة كي تصبح قوية وتصعد وحدها غدًا.
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟