|
|
الوعي والمعنى الفلسفي للموجودات
غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 20:53
المحور:
قضايا ثقافية
تُعد الحاضرية الوجودية الشاملة إطاراً فلسفياً متقدماً، يجمع بين المفاهيم الأنطولوجية والفينومينولوجية الأكثر تعقيداً، ويرتكز بشكل أساسي على محاور الوعي، والماهية، والغيرية. يهدف هذا الإطار إلى تقديم رؤية ديناميكية وروابطية للوجود الإنساني، من خلال تجاوز الأطر الثنائية التقليدية. لا يمكن فهم ماهية الوعي في هذا السياق الشمولي دون نقد جذري لمفهوم الجوهر الثابت والمطلق. إن الغاية الرئيسية من هذا التحليل الأنطولوجي تكمن في الكشف عن العلاقة الجدلية بين الوعي والإطار نفسه. وهذا يقتضي تجاوز "الانغلاق المعرفي" الذي يفرضه الوعي المحدود، إلى استكشاف "فضاء معرفي لا نهائي" يسمح بتحقيق المعنى الكوني. هذا التأسيس يؤكد أن الوعي ليس كياناً باطنياً معزولاً، بل هو فعل أنطولوجي يتم اكتسابه من خلال الانخراط المستمر في العالم.
نقد الكوجيتو ومأزق الوعي المثالي ينطلق التحليل الوجودي والفينومينولوجي للوعي ضمن الحاضرية الشاملة من رفض مبدئي وقطعي للمفهوم الكلاسيكي لـ "الكوجيتو الديكارتي" أو "الوعي الخالص". لقد نظر ديكارت إلى الوعي كفكر مجرد، مفاده "أنا أفكر إذن أنا موجود"، مركّزاً على التفكير المثالي الذي لا يتطلب تموضعاً مادياً أو تعلقاً بالواقع. تعرضت هذه الرؤية المثالية لنقد واسع من قبل مؤسسي الفلسفة الوجودية والظاهراتية، بما في ذلك هوسرل وهايدغر وسارتر. ويتمثل جوهر النقد في أن هذا الوعي الخالص يمثل تفسيراً مثالياً مغلقاً لا يعترف بضرورة تعلق الذات بجدلية الموضوع. بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة، فإن الوعي المجرد هو "وهم" لا يمكن إدراكه كوجود فاعل أو متحقق، بل يبقى وجوداً افتراضياً. يشير هذا النقد إلى تحول مركزي في الإطار الأنطولوجي: بما أن الوعي النقي غير قابل للتحقق كوجود، فإن الوجودية الشاملة تقرر أن الوجود الفعلي (الانخراط) يسبق نقاء الوعي، وهذا الوجود الفعلي هو الذي يمنح الوعي حقيقته.
الوعي الحقيقي كـ "انخراط" يشير هذا الإطار الفلسفي إلى أن ماهية الوعي الحقيقية تكمن في ديناميكية العلاقة والتعلق بالوجود الفعلي. وبما أن الوعي المجرد (النومين) مستحيل إدراكه كوجود فاعل، فإن الوعي الوجودي لا يمكن أن يكون إلا وعياً متعلقاً ومنخرطاً، وهذا الانخراط هو ما يمنحه حقيقته الأنطولوجية. يُفهم الوعي الحقيقي، في هذا المنظور، على أنه النشاط المبدع الفاعل الذي يمنح المعنى للموجودات. هذه الموجودات كانت مجردة وغير ذات قيمة قبل التفاعل البشري معها. بالتالي، فإن الوعي في الحاضرية الشاملة يُنظر إليه كـ "فعل أنطولوجي" وليس كـ "جوهر داخلي"؛ وهو لا يكتسب صدقه وحقيقته إلا من خارج ذاته، عبر انخراطه المباشر والمقصود في العالم. وهذا التعلق يمثل شرطاً لا غنى عنه لتحويل الوعي من مجرد حالة نظرية إلى قوة فاعلة تحقق المعنى.
الماهية كـ "صَيرورة مُتجددة" تستند الحاضرية الوجودية الشاملة إلى الأسس الظاهراتية التي وضعها إدموند هوسرل، حيث تُعتبر فلسفة القصدية أساسية. القصدية هي المبدأ الذي يقلب فكرة الوعي المغلق الديكارتي، مؤكداً أن الوعي دائماً "وعي بشيء". هذا يعني أن الوعي لا يمكن أن يوجد في فراغ أو ككيان مجرد، بل هو فعل "التعلق" بشيء ما، وهذا الفعل هو جزء أساسي من طبيعته الأنطولوجية. إن هذا الفهم للقصدية كـ "ماهية متحركة" ينسجم مع تأكيد هايدغر على أن وعي الذات يجب أن يتسم بالحيوية الديناميكية. القصدية هنا تتجاوز التفكير المجرد لتصبح السعي لتحقيق هدف مُقرر، وهذا السعي هو ما يمنح الوجود معناه الحقيقي. إن هذا التوليف المنهجي يمثل محاولة لتجاوز مأزق الوعي المثالي الديكارتي من خلال الجمع بين حيوية هايدغر الوجودية ووضوح قصدية هوسرل المعرفي.
الروح كمشروع لا كجوهر ثابت في إطار الحاضرية الوجودية الشاملة، يتم نفي الماهية التقليدية كجوهر ثابت ومطلق، لصالح مفهوم "الروح كـ صيرورة متجددة". لا يُنظر إلى الروح هنا ككيان ميتافيزيقي ثابت، بل كمشروع مستمر للوجود الإنساني يتحقق بشكل متواصل من خلال اختيارات الفرد وتصرفاته الحرة. هذا المفهوم للماهية يعكس بوضوح مبدأ التزامن الأنطولوجي الوجودي للمعنى، وهو المبدأ الأساسي في هذه الفلسفة. الوعي هنا يصبح مرتبطاً بشكل وثيق بالحرية الإنسانية والتجربة المعاشة.
مستويات الوعي تفرق الحاضرية الوجودية الشاملة بين مستويين من الوعي لتحقيق التوازن المطلوب: الوعي الوظيفي: وهو الوعي الضروري لأداء المهام اليومية بكفاءة، ولكنه يمثل وعياً محدوداً ومحصوراً في ذاته، يركز على إدراك الذات المحدودة والمحل المكاني والزماني المباشر فقط. إن التوقف عند هذا المستوى من الوعي يُعد "انغلاقاً معرفياً". لا يستطيع الوعي الوظيفي، بطبيعته المقتصرة على الضرورات العملية، أن يشمل ما يتجاوز الإطار العملي الضيق، وبالتالي فإنه يعجز عن إدراك المعنى الوجودي الكوني الكامل.
الوعي كـ "نشاط مبدع" لخلق المعنى الوعي الحقيقي ليس حالة تأمل سلبية، بل هو "نشاط مبدع". هذا النشاط هو الذي يخلق العالم ويمنح المعنى للموجودات التي كانت مجردة قبل التفاعل البشري معها. إن هذا الدور الإبداعي يفرض الالتزام بالفعل والتدخل، ويتطلب مقاومة "الكسل الفلسفي" و"اللامبالاة الوجودية". التفلسف اليومي والفضول يُعتبران محركاً ضرورياً للوعي والبحث عن الحقائق الجوهرية. وهذا يربط الوعي بالمسؤولية، حيث يجب أن يكون الوجود المبدع موجهاً نحو الالتزام الأخلاقي والعمل الكوني.
الموجود الإنساني مقابل الموجودات الأخرى يستند هذا التفريق على التمييز الوجودي الذي قدمه سارتر بين "الوجود لذاته" (الإنساني) و"الوجود في ذاته" (غير الإنساني)، والذي يُعتبر أساسياً لفهم ماهية الإنسان كـ "مشروع" حر ومسؤول.
الموجود الإنساني (الوجود لذاته) يُعرّف الموجود الإنساني بصفته "الوجود لذاته". إن الحرية هي ما يميز الإنسان عن الجماد، وهي مفارقة (الهدية والعبء )في آن واحد، لأنها تفرض المسؤولية الكلية. الإنسان محكوم بالحرية وعليه أن يعيشها قولاً وفعلاً. يتمثل الفرق الجوهري في "النقص". فالإنسان كائن ناقص وغير مكتمل أنطولوجياً؛ هذا النقص هو المسافة الفاصلة بين "ما هو عليه" و "ما يريد أن يكون". هذا الدافع المستمر للتجاوز، والقلق من الغد، هو ما يمنع الإنسان من التحول إلى مجرد وجود في ذاته. إن هذا النقص هو ما يبرر تزامن الماهية التي تُفهم كـ "صيرورة متجددة" ومشروع مستمر.
الموجودات الأخرى وثبات الماهية تندرج الموجودات الأخرى (المادية وغير الإنسانية) ضمن تصنيف "الوجود في ذاته". هذه الموجودات تتميز بالثبات والكمال الداخلي؛ فهي "ما هي عليه". حدها النهائي هو وجودها الفعلي، وماهيتها محددة ومكتملة سلفاً، وهي لا تسعى لتجاوز ذاتها ولا يقلقها الغد. تفتقر هذه الموجودات إلى الوعي القاصد أو الذاتي، وبالتالي فهي غير قادرة على الاختيار أو تحمل المسؤولية. لا يمكنها أن تعي معنى الوجود. وفقاً لهايدغر، غالبًا ما تظهر الموجودات غير الإنسانية كـ "موجودات في متناول اليد" (أدوات)، وتكتسب أهميتها الأنطولوجية من خلال علاقتها بالوجود الإنساني واحتياجه إليها.
الإنسان ككائن مانح للمعنى في سياق الحاضرية الوجودية الشاملة، يكمن التفريق الحاسم في القدرة على منح المعنى. الوعي الإنساني، وهو النشاط المبدع الذي يخلق العالم ويمنح المعنى للموجودات التي كانت مجردة قبل التفاعل البشري معها. الموجودات غير الإنسانية تظل في حالة "وجود مجرد" حتى تقع تحت قصدية الوعي الإنساني. هذا يضع مسؤولية أنطولوجية مضاعفة على الإنسان: فهو ليس مسؤولاً عن بناء ماهيته الذاتية (الصيرورة) فحسب، بل هو مسؤول أيضاً عن "تأنسن" العالم المادي ومنحه قيمة ومعنى. إن هذا التمايز الجذري يفسر لماذا تتحدد الماهية الإنسانية في كونها صيرورة متجددة مرتبطة بالحرية، على عكس ثبات الماهية المادية التقليدية.
المسؤولية الوجودية الكلية والالتزام الأخلاقي في ضوء الوعي، تتحول الحرية، التي هي شرط وجودي وعبء ثقيل في الوجودية، إلى التزام أخلاقي كوني. إن هذا الالتزام يضمن أن يكون الوعي متجهاً نحو الفعل الأخلاقي (القصدية الأخلاقية). يفرض الوعي تحمل المسؤولية الكاملة عن الاختيارات والتصرفات، ويتسع نطاق هذه المسؤولية ليشمل مصير الآخرين و"الوضع الإنساني ككل". هذا الالتزام الوجودي هو ما يمنع الروح كصيرورة متجددة من الانهيار.
مواجهة الوعي المفرط والاغتراب على الرغم من أهميته، إلا أن الوعي العميق الناتج عن التفكير المفرط يكشف تناقضات العالم، مما يسبب شعوراً بالاغتراب والعزلة والقلق الوجودي. العقلانية المفرطة هي حالة مرضية من التفكير والتحليل المبالغ فيه، تضع حاجزاً بين الإنسان ومشاعره وتمنعه من التفاعل بعمق مع التجارب الوجودية، مما يؤدي إلى فقدان المعنى الوجودي نتيجة السعي غير الواقعي للكمال. لهذا السبب، فإن الوعي ليس دعوة للتفكير الزائد، بل هو دعوة لحالة من "السكينة الداخلية المتكاملة" التي تتقبل عدم الكمال الوجودي. لمواجهة هذا، يجب إضافة عنصر "الحكمة أو التوازن الوجودي".
الماهية ووعي الوجود كشرط للمعنى إن ماهية الوعي في هذا الإطار ليست جوهراً ثابتاً، بل هي "القدرة القصدية المتحررة والمسؤولة" التي تتجسد في الوعي. هذا الوعي يمثل نشاطاً مبدعاً يمنح الوجود معناه الحقيقي. إن تحديد الماهية أخلاقياً (الوعي المسؤول والملزم) هو ما يضمن أن يكون المعنى المتحقق كونياً وشاملاً، وليس فردياً ضيقاً. لذا يجب مقاومة الجمود الفكري واللامبالاة الوجودية واستبدالها بالتفلسف اليومي، ليكون الوعي محركاً دائماً للبحث عن الحقائق وجوهرياً للتدخل الإبداعي في العالم. وعلى الفرد أن يطور وعياً شاملاً يسمح له بتحمل المسؤولية الكاملة. -------------------- مراجع سارتر، جان بول. الوجود والعدم: محاولة في الأنطولوجيا الظاهراتية. هايدغر، مارتن. الكينونة والزمان (الوجود والزمان). هوسرل، إدموند. تأملات ديكارتية. ديكارت، رينيه. تأملات في الفلسفة الأولى. ميرلوبونتي، موريس. فينومينولوجيا الإدراك.
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الماهية والوجود: إعادة تعريف منهجي عبر الحاضرية الوجودية الش
...
-
التكلفة اللغوية للتماهي الفلسفي: تشكيل الوعي بين المتخيل وال
...
-
ثلاث قصص سريالية
-
جدلية السلطة النصية: من القدسية إلى النسبية
-
تفكيك العلاقة بين الإبادة المعرفية وتواطؤ النخب
-
صداع على حبل الغسيل -قصة سريالية
-
التسييس والتأنيس في الخطاب الأخلاقي: مقاربة فلسفية
-
الدور الإقصائي للمرجعيات الثقافية الشرق أوسطية
-
الشر الكامل في سياق النيوكولونيالية
-
إخفاقات البراغماتية والفلسفة التجريبية: القاسم البنائي المشت
...
-
آليات الهيمنة الأيديولوجية: دور الوثنية السياسية والطاعة الم
...
-
الكومنتاريا والهيمنة الإمبريالية التكنولوجية
-
جاسم عاصي: الناقد الروائي وبناء سردية الهامش العراقي
-
النشاط الأنطوإبستيمولوجي الكلي
-
الديمقراطية كإشكالية فلسفية
-
التحالف الاستراتيجي بين الرأسمالية الريعية والثيوقراطية
-
التباين الإبستمولوجي بين العلموية والماهيات الوجودية في الفل
...
-
مغالطة الاحتكام إلى التقليد في العقلانية المعاصرة
-
ومغالطة الاحتكام إلى التقليد العقلانية المعاصرة
-
العقلنة، البيروقراطية، والاستلاب الجديد
المزيد.....
-
دريسكول: الجيش الأمريكي مستعد لتحرك عسكري بشأن فنزويلا -إذا
...
-
هويته الحقيقية لم تمنع احتجازه.. شاهد عملاء فيدراليين يعتقلو
...
-
مصر تستضيف مبادرة الاتحاد الأفريقي لإعادة الإعمار بعد النزاع
...
-
قطعان الأغنام تعبر مدن ألمانية نحو مراعي الشتاء
-
حكومة نتنياهو تقرر تشكيل لجنة غير رسمية للتحقيق بأحداث 7 أكت
...
-
أعطوا سوريا فرصة.. الكونغرس الأميركي يراجع عقوبات قانون قيصر
...
-
نتائج 30 سنة من البحث العلمي: العلاقات الناجحة تبدأ من الطفو
...
-
خطاب حرب أم ضغط تفاوضي؟.. نتنياهو وزامير يرفعان نبرة التهديد
...
-
إعلان جبل العرب.. محاولة لكسر الاحتكار السياسي في السويداء
-
حماس تحذر من -وصاية بديلة- وتطالب بقرار أممي لحماية وقف إطلا
...
المزيد.....
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية
/ د. خالد زغريت
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس
/ د. خالد زغريت
-
المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين
...
/ أمين أحمد ثابت
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|