غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 21:59
المحور:
قضايا ثقافية
تأطير الإشكالية المعرفية للوعي والوجود
يُعدّ المثقف الإنساني، وفق التصورات النقدية والوجودية المتقدمة، كياناً أنطولوجياً وإبستمولوجياً متطوراً. تتحدد ماهيته من خلال امتلاكه وعياً ترانسندالياً يدرك حدوده ويتخذ موقفاً نقدياً ضد أوهام الميتافيزيقيا. المثقف بهذا المعنى ليس مجرد متعلم أو أكاديمي، بل هو شخصية ملتزمة تتبنى موقفاً وجودياً متجاوزاً، ينفي اليقينيات المطلقة التي تسعى إلى طمأنينة زائفة.
يرتكز تحليل هذا المفهوم على تحديد التناقض الأساسي للوجود البشري. يكمن هذا التناقض في الصدام المستمر بين الدافع الغريزي القوي والساحق للاستمرار في الحياة، وبين الوعي المعرفي اليقيني والمفاجئ بحتمية الفناء الذاتي، وهو ما نُطلق عليه "مبدأ الفناء المتناقض". هذا الصدام يُولِّد "الإرهاب الوجودي" الكامن في صميم التجربة البشرية، وهو مصدر القلق الذي يجب إدارته. إن كيفية إدارة هذا الإرهاب هي ما يفرّق بين الوعي المقموع والوعي الترانسندالي.
يتطلب بناء مفهوم "الوعي الترانسندالي" مقاربة تركيبية؛ حيث يجب تجاوز الأطر الثنائية التقليدية ونقد الوعي الخالص، وربطه بإدراك الفناء كبنية أساسية للوجود (على غرار هايدغر). هذا الإدراك الأنطولوجي لحتمية الموت هو الشرط الأساسي الذي يحرر المثقف من الحاجة إلى الماهيات المسبقة واليقينيات الميتافيزيقية، مما يؤهله لمقاومة البنى الاجتماعية التي تُستخدم كآليات دفاع ضد هذا القلق.
الوعي الترانسندالي: قفزة الوعي
يُعرَّف هذا التطور المعرفي البشري، أو ما يُسمى بـ "القفزة المعرفية"، بأنه تجاوز نوعي في القدرات العقلية مكَّن من العمليات المعرفية العليا كالتفكير المجرد واللغة. هذه القفزة شكّلت قوة مزدوجة؛ فبينما قدمت آليات متقدمة للتحرر والاستدلال، أنتجت في الوقت ذاته شروط العبودية الوجودية.
إن هذه القفزة المعرفية هي التي تُنتج ما يُسمَّى "الوعي القاتل". يُسمَّى الوعي بذلك لأنه يُمكّن قدرة التنبؤ والتفكير في المستقبل البعيد، وهي قدرة تنمو مع تطور آليات التفكير المجرد والاستنباط التي تظهر في مرحلة المراهقة النضيجة. هذا الإدراك المعرفي يسمح للوعي ببناء تمثّلات تشمل المعارف والاعتقادات، ولكنه يحمل معه إدراكاً لا مفر منه لحتمية الفناء الذاتي. يُعدّ هذا الوعي بالفناء، كظاهرة وجودية وليست بيولوجية بحتة، هو اللبنة الأساسية التي يتشكل عليها الوعي الترانسندالي.
نقد الوعي الخالص: الانخراط الفينومينولوجي
يرفض الوعي الترانسندالي المفهوم الكلاسيكي لـ "الكوجيتو الديكارتي" أو "الوعي الخالص". فالتفكير المجرد، كما تصوره ديكارت، يعتبر وهماً مثالياً لأنه لا يعترف بضرورة تعلق الذات بجدلية الموضوع والواقع. هذا الوعي النقي غير قابل للتحقق كوجود فاعل، بل يبقى وجوداً افتراضياً لا يُدرك.
لهذا، لا يُنظر إلى الوعي الترانسندالي على أنه نقاء باطني معزول، بل هو "فعل أنطولوجي" يتم اكتسابه من خلال "الانخراط المستمر في العالم". الوجود الفعلي (الانخراط) يسبق نقاء الوعي ويمنحه حقيقته الأنطولوجية. الوعي الحقيقي يكمن في ديناميكية العلاقة والتعلق بالوجود الفعلي.
تتحقق الحرية في هذا السياق كـ "انكشاف" للوجود، يتجاوز حدود العقل المقنَّن والمروّض. الوعي الترانسندالي هو القدرة على التحرر من الحاجة إلى السيطرة التي يفرضها العقل المثالي، وقبول "الصيرورة المفتوحة" والوجود كـ "مغامرة مستمرة". في هذا التجرد، يصبح المثقف واعياً بمسؤوليته عن اختياراته، متجاوزاً اليقينات الثابتة.
الميتافيزيقا: حدود المعرفة غير المشروعة
عملت الفلسفة النقدية، بدءاً من كانط، على إدراك حدود المعرفة الميتافيزيقية. اعتبر كانط الميتافيزيقا الكلاسيكية محاولة "غير مشروعة" لإنتاج معرفة يقينية تتجاوز حدود التجربة الممكنة. المثقف الإنساني يتخلى عن هذا الوهم من خلال إدراك الحدود المعرفية التي تحدد إمكانية إنتاج المعرفة الحقيقية.
وفي سياق موازٍ، اعتبر الفكر الماركسي أن الانشغال باللاهوت والميتافيزيقا هو "ضرب من العبث"، مؤكداً أن هذا الانشغال لن يقدم حلولاً لمشكلات الواقع. تركز الماركسية على أن المادة موجودة بشكل مستقل عن وعي الإنسان، وأن الوعي الاجتماعي يتغير بتغير عناصر الوجود الاجتماعي، مما يشدد على أهمية الوجود المادي في توليد الوعي وتشكيله. المثقف الإنساني يستوعب هذا النقد لإعلاء أهمية الواقع المنخرط.
انحلال المفهوم في الفلسفة المعاصرة
في الفكر الفلسفي المعاصر، واجه مفهوم الميتافيزيقا تحولاً كبيراً، حيث أصبح "مفهوماً هلامياً" يصعب الإمساك به. بل تحول في بعض الأحيان إلى وصف قدحي، أو "شتيمة في الفلسفة"، تُلقى في وجه الخصم الفلسفي، كما حدث في المناقشات بين نيتشه وهايدغر ودريدا.
كما انتقل المصطلح إلى سياقات ثقافية وأدبية واسعة، حيث صار يُستخدم لوصف كل أمر "عميق مبهم" المثقف الإنساني يرفض هذا الاستخدام التبسيطي الذي يفرغ المفهوم من حمولته النقدية الفلسفية، ويتمسك بضرورة التعامل مع الميتافيزيقا كـ "بنية فلسفية" تخضع للنقد، لا كظاهرة أدبية غامضة.
النزعة السلطوية وبيع "الغياب المنظم للقلق"
تستغل الأنظمة السلطوية الإرهاب الوجودي ببراعة كآلية دفاع وجودي. فالنزعة السلطوية لا توفّر القوة فحسب، بل "تبيع الغياب المنظَّم للقلق" عبر إعادة الفرد إلى حالة "الغفلة والتسطّح" (ما قبل الوعي) ضمن إطار اجتماعي مقبول.
يتم قمع الوعي الفردي لأنه "أقرب للصدق" ويولّد القلق الوجودي الذي تسعى الأيديولوجيا لإدارته. يغذّي قلق الموت هذا الصراع الفرويدي بين إيروس وثاناتوس، حيث يتم توجيه طاقة ثاناتوس (التي تسعى للتدمير الذاتي والرجوع إلى حالة العدم) نحو الخارج في شكل عدوان ودفاع قسري عن الحدود الثقافية، وهي الأرضية النفسية التي تتأسس عليها النزعة السلطوية.
الجمعنة كآلية دفاع ضد الوعي الفردي
تُستخدم "الجمعنة" لفرض التجانس الثقافي كآلية دفاع وجودي منظمة. يتم طمس معالم الشخصية الفردية لصالح "الأنا الجمعي المجبول على فرض التجانس". هذا التحول ضروري للسلطة لأن الوعي الجمعي يدمج الفرد في بنية "خلود رمزي" أكبر منه (الدولة، الأمة، الأيديولوجيا).
إن الوعي الترانسندالي يمنح المثقف "المنظار الكاشف" لمواجهة "عقلانية المجتمع الصناعي المتقدم" التي تنتهج التنميط وتصادر كل حظوظ التغيير. هذا التنميط هو التعبير العملي عن النزعة الميتافيزيقية التي تسعى لفرض جوهر ثابت على الوجود المتحول، والمثقف الإنساني يرفض هذه المصادرة على الحرية والتحول.
الوعي الترانسندالي كقوة للمقاومة الأنطولوجية
تتبني الفلسفة الوجودية الحرية كـ "انكشاف للوجود"، حيث يتجاوز الإنسان حدود العقل المقنَّن. الوعي الترانسندالي هو رفض للحرية "المقنّنة" أو "المروضة" التي توفرها البنى الاجتماعية والمنطق والتوقع. إنه يمثل وعياً عميقاً بالمسؤولية الكاملة عن الاختيارات في غياب القيود الخارجية واليقينات الميتافيزيقية. هذا الموقف يجعل من وجود المثقف نفسه فعلاً مستمراً من اللقاء والتجديد، ويضعه في تناقض جوهري مع أي نظام سلطوي يسعى لفرض الثبات واليقين.
المثقف كـ "فيلسوف وجودي عامل"
يُستنتج أن المثقف الإنساني هو تجسيد للموقف الوجودي النقدي في المجال الاجتماعي. يتمركز تحققه حول قدرته على دمج الحقيقة الأنطولوجية للفناء في ممارسته اليومية، مما يمنحه حصانة لا تتزعزع ضد إغراءات اليقين والسيطرة. هذا الدمج بين الوعي الترانسندالي والتحرر الإبستمولوجي يضمن للمثقف استقلالاً مطلقاً، حيث لا يمكن استقطابه لأنه لا يبحث عن مصادر خارجية لإنهاء قلقه الوجودي.
التحديات المعاصرة
يواجه المثقف الإنساني تحدي الاندماج وبالتالي، التحول إلى خبير أو متعلم معزول، بدلاً من أن يكون صاحب موقف نقدي ملتزم، وعليه مواجهة مقاومة تنميط العقلانية التي تسعى لمصادرة الوعي. لذا إن الوعي الترانسندالي يدعو المثقف إلى الالتزام بالصدق في مواجهة القلق، والتحذير من الانخراط في الجدل الميتافيزيقي الهلامي الذي يفرغ المفهوم من محتواه النقدي، أو يبسّط الوعي المتقدم إلى مجرد وصف لكل ما هو عميق ومبهم.
تتمثل مهمة المثقف الإنساني في تحرير الوعي الإنساني عبر توظيف الوعي الترانسندالي والتحرر الإبستمولوجي. هذه العملية المزدوجة هي "شرط لإنتاج المعرفة الحقيقية التي تشبع نهم الوجود في كليته". ان قبول اللايقين الأنطولوجي والتخلي عن أوهام اليقين الميتافيزيقي، يبقي المثقف منخرطاً في صيرورة الوجود المفتوحة، ومؤسساً لمقاومة فكرية مستدامة ضد كافة أشكال القمع والعبودية الوجودية.
------------------------------------
المراجع
al-kateb.com
الوجودية والعقل والحرية: تجسيد الحرية في صيرورة الوجود - آزادي بوست
Full text of "lisanarb_sa31" - Internet Archive
الميتافيزيقا بوصفها ما وراء الطبيعية: الدلالة والمعنى – Khitab Delta
قراءة في كتاب إدوارد سعيد المثقَّف والسلطة - maaber.org
اإلنسـان والوعـي في فلسفـة ھربـرت ماركـــوز - depot.umc.edu.dz
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟