|
|
هل أحيقار الآشوري هو لقمان القرآني؟
نبهان خريشه
الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 11:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عند التأمل المتأني في وصايا لقمان الواردة في سورة لقمان في القرآن الكريم، ومقارنتها بحِكم ووصايا أحيقار الحكيم الآشوري، مستشار الملك سنحاريب، يلفت النظر تشابهٌ عميق يتجاوز حدود الصدفة أو التوازي العابر. فالنصّان، على اختلاف سياقهما الزمني والديني، ينبعان من منبع واحد هو الحكمة الإنسانية التي سعت عبر العصور إلى تهذيب السلوك البشري وبناء شخصية أخلاقية متوازنة. كلاهما يقدّم نصائح موجّهة من حكيم إلى ابنه؛ لقمان يخاطب ابنه مباشرة، وأحيقار يوجّه حكمته إلى ابن أخته "نادان" الذي تبنّاه وربّاه، وفي الحالتين نحن أمام خطاب أبوي تربوي هدفه صناعة إنسان صالح قادر على التمييز بين الخير والشر، وبين التواضع والغرور، وبين الحكمة والطيش.
والجامع المشترك بين وصايا لقمان وحِكم أحيقار يتمثّل في تركيزهما الواضح على الأخلاق العملية لا على التنظير المجرد. فالحكمة هنا ليست فلسفة ذهنية، بل أسلوب حياة. كلا النصين يحذّران من الكِبر والتعالي، ويمدحان التواضع وخفض الصوت وضبط اللسان، ويؤكدان أن كثرة الكلام ليست دليلاً على الحكمة، بل قد تكون مدخلاً للخطأ والهلاك. في وصايا لقمان نجد الدعوة إلى القصد في المشي وخفض الصوت، وفي حِكم أحيقار نجد التحذير من الثرثرة والاندفاع، والتأكيد على أن الصمت باب من أبواب النجاة والعقل. كما يشترك النصّان في إبراز قيمة برّ الوالدين واحترام الكبار، بوصف ذلك أساساً لاستقامة الفرد وتماسك المجتمع.
ويظهر التشابه أيضاً في النظرة إلى الدنيا بوصفها مجال اختبار لا غاية نهائية. فلقمان يوجّه ابنه إلى عدم الاغترار بزخرف الحياة، وإلى الموازنة بين العمل للدنيا والاستعداد للآخرة، بينما يقدّم أحيقار رؤية قريبة من ذلك، وإن بلغة إنسانية غير دينية، حين يحذّر من الطمع والجشع، ويدعو إلى الاعتدال والقناعة، ويُبرز هشاشة السلطة والمال وتقلب الأحوال. في الحالتين، الحكمة ليست في جمع الثروة أو نيل الجاه، بل في سلامة النفس وحسن السيرة.
ومع هذا التشابه الواسع، يبرز الفرق الجوهري بين النصّين في البعد الإيماني الصريح. فوصايا لقمان، كما وردت في القرآن، تتأسس على التوحيد، وتبدأ بالنهي عن الشرك بالله، وتؤكد على إقامة الصلاة والالتزام بالبعد الغيبي والأخروي. أما أحيقار، المنتمي إلى تراث أقدم سابق للأديان التوحيدية بصيغتها المعروفة، فيركّز على الحكمة الأخلاقية بوصفها قيمة إنسانية عامة، لا ترتبط بعقيدة توحيدية محددة، بل بنظام أخلاقي عملي يصلح لتنظيم حياة الفرد والمجتمع في إطار حضاري تعددي الآلهة أو غير محدد لاهوتياً.
في التراث الفقهي والتفسيري الإسلامي، يُقدَّم لقمان كشخصية حكيمة اصطفاها الله بالحكمة لا بالنبوة، وهو ما عليه جمهور المفسرين. فالقرآن حين يقول: ﴿ولقد آتينا لقمان الحكمة﴾ لا يصرّح بنبوته، بل يبرز حكمته العملية والأخلاقية، ما جعل العلماء يختلفون في أصله ونسبه ومكانته الاجتماعية دون أن يختلفوا على جوهره: رجل بلغ منزلة عالية من البصيرة والعقل السديد. فبعض الروايات تصفه بأنه عبد حبشي أو نوبي، أو نجّار أو راعٍ، في تأكيد دلالي مقصود على أن الحكمة ليست حكرًا على نسب أو سلطان، بل ثمرة صفاء العقل واستقامة السلوك.
أما في التوراة، فلا نجد شخصية تُسمّى لقمان صراحة، ولا نصًا يوازي وصاياه بالصيغة نفسها، لكن التراث اليهودي القديم – خارج أسفار العهد القديم القانونية – يعرف شخصية حكيمة قريبة جدًا من صورة لقمان، هي أحيقار (Ahiqar)، الذي يَرِد في نصوص آرامية تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، ويُقدَّم كمستشار حكيم في البلاط الآشوري.. هذا التشابه دفع بعض الباحثين – قديمًا وحديثًا – إلى افتراض وجود جذر حكمي واحد، أو شخصية تاريخية تحولت عبر الثقافات والأديان إلى رموز مختلفة الأسماء والملامح، مع احتفاظها بجوهرالحكمة ذاته.
ومن هنا ينشأ السؤال الإشكالي الذي لا يمكن تجاهله: هل نحن أمام شخصيتين مختلفتين، أم أمام حكيم واحد أعيد إنتاجه بأسماء وسياقات متعددة عبر التاريخ؟ بعيداً عن ثنائية الإيمان والكفر، يمكن النظر إلى فرضية أن أحيقار هو ذاته لقمان من زاوية تاريخية حضارية. فالتاريخ الديني، كما التاريخ الثقافي، لا ينشأ في فراغ، بل يقوم في كثير من الأحيان على إعادة صياغة تراث إنساني سابق، يُعاد تأويله وتكييفه وفق منظومة عقدية جديدة. اليهودية والمسيحية، ومن بعدهما الإسلام، لم تنفصل عن السياق الحضاري للشرق الأدنى القديم، بل تفاعلت معه وأعادت إنتاج رموزه وحكاياته وحكمته بلغة جديدة وروح مختلفة.
أوضح مثال على ذلك قصة الطوفان، التي تُعد نموذجاً صارخاً لاستمرارية السرد الإنساني عبر العصور. فقد وردت قصة الطوفان في الألواح الطينية السومرية التي اكتُشفت في مكتبة آشور بانيبال في نينوى، كما وردت بتفاصيل موسّعة في ملحمة جلجامش، حيث يروي أوتنابشتم قصة النجاة من الطوفان بأمر الآلهة. هذه الروايات تتطابق في خطوطها الكبرى مع قصة الطوفان في سفر التكوين في العهد القديم: فساد البشر، قرار إلهي بإغراق الأرض، اختيار رجل صالح، بناء سفينة، نجاة الإنسان والحيوان، ثم بداية جديدة بعد انحسار المياه. الفارق الأساسي بين الروايتين يتمثّل في الإطار اللاهوتي؛ ففي المرويات السومرية والبابلية نحن أمام تعدد آلهة تتنازع القرار وتتصرف أحياناً بدوافع متناقضة، بينما في العهد القديم – ومن بعده في القرآن – يتحوّل السرد إلى تعبير عن إرادة إله واحد مطلق، أخلاقي، يعاقب ويكافئ ضمن رؤية توحيدية شاملة.
هذا النمط من التحوّل لا يقتصر على قصة الطوفان، بل يتكرر في قصص أخرى وحِكم متعددة انتقلت من حضارات بلاد الرافدين إلى الموروث العبري ثم إلى التراث الإسلامي. فالحكمة، مثلها مثل الأسطورة، لا تُمحى، بل تُهذَّب وتُعاد صياغتها بما ينسجم مع السياق القيمي الجديد. ومن هذا المنظور، يمكن النظر إلى لقمان بوصفه تجسيداً إيمانياً توحيدياً لحكيم أقدم عرفته المنطقة، ربما كان أحيقار أحد أبرز تمثلاته التاريخية.
كما أن التشابه اللافت بين مرويات الطوفان في حضارات متباعدة جغرافياً، في جنوب آسيا وشرقها، يشير إلى أن الذاكرة الإنسانية المشتركة احتفظت بصدمة كونية كبرى، سواء كانت حدثاً تاريخياً فعلياً أو رمزاً عميقاً للفناء والبداية الجديدة. وهذا يعزّز فكرة أن الإنسان، أينما كان، أنتج حكمة متقاربة في جوهرها، حتى وإن اختلفت أطرها الدينية والفلسفية.
إن افتراض وحدة الأصل بين أحيقار ولقمان لا ينتقص من القيمة الدينية لوصايا لقمان في القرآن، بل يفتح أفقاً أوسع لفهمها ضمن سياق تطور الحكمة الإنسانية. فالوحي، في هذه القراءة، لا يأتي ليقطع مع الماضي، بل ليصطفِي منه ما ينسجم مع رؤيته الأخلاقية ويمنحه بعداً إيمانياً أعمق. وهذا ينسجم مع فكرة أن الرسالات السماوية خاطبت الإنسان بلغته وثقافته، واستثمرت ما هو راسخ في وعيه الجمعي من قيم وقصص وحِكم.
في ضوء ذلك، يمكن قراءة وصايا لقمان وحِكم أحيقار بوصفهما حلقتين في سلسلة واحدة من الحكمة البشرية، انتقلت من فضاء حضاري إلى آخر، وتحوّلت من خطاب أخلاقي إنساني عام إلى خطاب ديني توحيدي، دون أن تفقد جوهرها التربوي. إن التركيز على الأخلاق، والتواضع، وضبط السلوك، واحترام الآخر، وبناء شخصية متوازنة، يظل ثابتاً عبر العصور، وكأن الحكمة الحقيقية لا تتبدل، بل تتغيّر لغتها فقط.
الا أن القول بأن أحيقار الآشوري قد يكون هو لقمان القرآني يصطدم بثنائية الكفر والإيمان. هذه الثنائية، حين تُطرح بوصفها فاصلاً حادًا بين “داخل” الحقيقة و“خارجها”، تفترض أن الحكمة لا تُنتج إلا من داخل الدائرة العقائدية، وأن ما سبقها أو جاورها لا يمكن أن يكون إلا ضلالًا أو كفرًا. غير أن شخصية مثل أحيقار، بما تحمله من حكم وأمثال أخلاقية عميقة، تقوّض هذا الافتراض من أساسه. فإذا كانت حِكَم أحيقار تتقاطع بوضوح مع وصايا لقمان في القرآن من حيث المضمون الأخلاقي واللغة الرمزية والرؤية التربوية، فإن ذلك يفتح سؤالًا جوهريًا: هل الإيمان هنا يُقاس بالانتماء العقدي، أم بالقيمة الأخلاقية للحكمة ذاتها؟
القرآن، حين يذكر لقمان، لا يقدّمه كنبي ولا يحدده بهوية دينية صريحة، بل يعرّفه من خلال “الحكمة”. وهذا التفصيل ليس عرضيًا، بل دالّ على أن الحكمة قد تسبق الاصطفاء الديني، وقد تنشأ خارج التصنيفات الصلبة التي تقسم البشر إلى مؤمنين وكافرين. من هنا، يصبح احتمال أن يكون لقمان شخصية تاريخية أقدم – كأحيقار الآشوري – احتمالًا معرفيًا مشروعًا، لا تهديدًا للعقيدة، إلا إذا أُسرت العقيدة داخل ثنائية إقصائية تخشى الاعتراف بتراكم الحكمة الإنسانية.
الخلل في ثنائية الكفر والإيمان يظهر بوضوح حين تُستبعد إمكانية أن يكون “الآخر” حاملًا لقيم أخلاقية عليا، أو مساهمًا في بناء الوعي الإنساني. فالحكمة، في هذا المنظور الثنائي، إما أن تكون “مؤمنة” بالكامل أو “كافرة” بالكامل، وكأن القيم لا تعبر الأزمنة والثقافات، ولا تتناقلها الشعوب خارج الأطر الدينية المغلقة.
إن عدم استبعاد التماهي أو التقاطع بين أحيقار ولقمان لا ينتقص من القرآن، بل يعمّق فهمه، إذ يقدّم الإيمان بوصفه اعترافًا بالحكمة حيثما وُجدت، لا إنكارًا لها لمجرد مصدرها. بذلك يتحرر الإيمان من كونه أداة تصنيف، ويعود إلى جوهره: احتضان القيم الأخلاقية، وتكريم العقل، والاعتراف بأن الحقيقة قد تتجلّى عبر مسارات إنسانية متعددة.
وعليه، فإن تجاوز ثنائية الكفر والإيمان لا يعني نفي الإيمان، بل تحريره من الخوف من التاريخ، ومن وهم القطيعة المطلقة مع الآخر. فالحكمة، سواء نُسبت إلى أحيقار أو لقمان، تظل شاهدًا على أن الإنسان أوسع من التصنيفات، وأن الإيمان الحقيقي لا يخشى جذوره الإنسانية، بل يزداد بها عمقًا واتساعًا.
من هنا، فإن القول بأن أحيقار هو لقمان ليس حكماً تاريخياً قاطعاً، بقدر ما هو قراءة ثقافية ترى في النصوص المقدسة امتداداً لتراكم حضاري طويل، لا قطيعة معه. وهي قراءة تسمح بفهم الدين بوصفه ذروة تطور أخلاقي وإنساني، لا بداية من العدم. وبهذا المعنى، تظل الحكمة، سواء نُسبت إلى لقمان أو أحيقار، ملكاً للإنسانية جمعاء، ودليلاً على أن القيم الكبرى التي تنظّم حياة البشر أقدم من الأديان، لكنها وجدت في الأديان إطارها الأكثر اكتمالاً وتأثيراً.
#نبهان_خريشه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في إشكاليات الفكر العربي
-
بين الدين والأنثروبولوجيا: هل كان آدم أول البشر أم أول بشر ع
...
-
في اللسان العربي المبين واللغه العربية المعاصرة
-
اليهودية نشأت في اليمن: قراءة في أطروحات الباحثين العرب الجد
...
-
اللغة العبرية: من لغة ميتة إلى محكية
-
الطوفان: من جلجامش إلى سفر التكوين الى حضارات امريكا الجنوبي
...
-
ظاهرة الترامبية بمواجهة الليبرالية
-
حضارات العصر الجليدي المندثره أسطورة أم حقيقة ؟
-
هل ساهم -الأنوناكي- في بناء الحضارات القديمة ؟؟
-
-فليكوفسكي- ومحاولة تحويل أساطيرالتوراة لوقائع تاريخية
-
التغيرات المناخية والهجرات من شبه الجزيرة العربية
-
حصاد إسرائيل لحربها على غزة
-
تصدع جدران الصهيونية
-
فشل الإعلام الغربي في تعميم الرواية الإسرائيلية للحرب على غز
...
-
في مواجهة تزوير تاريخ الشرق الأدنى القديم
-
طريق أوسلو: المواقف الامريكية المبكره من منظمة التحرير الفلس
...
-
ماذا يعني ان يكون طالب اللجوء إلى أوروبا ليس أبيض البشره ؟!!
-
غربلة التراث
المزيد.....
-
رئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس يحذر من سعي جماعات يهودي
...
-
-عين الصقر-.. عملية عسكرية أميركية ضد تنظيم الدولة الإسلامية
...
-
مع انقضاء عيد الأنوار اليهودي.. أبرز انتهاكات المستوطنين بال
...
-
المسلمون أيضا يمكنهم الاحتفاء بعيد الميلاد
-
لماذا يشهد يهود بريطانيا أكبر تحول لهم منذ 60 عاماً؟
-
هل يحل تصنيف حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية في السودان
...
-
هجوم سيدني: رئيس الوزراء يعتذر عما مرت به الجالية اليهودية و
...
-
تقرير: مؤسسات أوروبية موّلت منظمات مرتبطة بالإخوان
-
بعد هجوم سيدني.. وزير خارجية إسرائيل يوجه رسالة إلى اليهود
-
917 مستوطنا يقتحمون المسجد الأقصى.. وإبعاد أحد حراسه
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|