نبهان خريشه
الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 22:18
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في الذاكرة الجمعية الإنسانية، تتكررحكاية الطوفان العظيم، لا كحادثة عابرة، بل كفصل تأسيسي في تاريخ البشر، يروي لحظة غضب كوني أو إلهي جرفت معها حضارات، وأعادت تشكيل الجغرافيا والوعي. من سومر إلى جبل أرارات، ومن جبال الأنديز إلى أساطير الصين، لا يكاد يخلو تراث بشري قديم من قصة فيضان عظيم أغرق العالم، ونجا منه إنسان واحد أو قلة مختارة لتعيد إعمار الأرض. ولعل أشهر هذه الروايات هي تلك التي وردت في سفر التكوين في التوراة، لكن جذورها أقدم من ذلك بكثير، وتمتد إلى حضارات بلاد ما بين النهرين وشرق آسيا وأميركا الجنوبية، ولها أيضًا تفسيرات جيولوجية تدعم بعض جوانبها.
الطوفان في سفر التكوين
يروي سفر التكوين (الإصحاحات 6 إلى 9) كيف قرر الإله (يهوه) أن يمحو البشرية بسبب شرّها، لكنه اختار نوحًا، الرجل الصالح الوحيد في جيله، وطلب منه بناء فلك ضخم يأويه وعائلته وكل صنف من المخلوقات، اثنين اثنين، كي ينجو من طوفان كوني يغمر الأرض كلها. استمر المطر أربعين يومًا وأربعين ليلة، وغرقت كل اليابسة، حتى استقرت السفينة أخيرًا على جبل أرارات بعد 150 يومًا من الطوفان. وتظهر القصة في الكتاب المقدس كعلامة على الدينونة والرحمة في آن واحد، مع تجديد العهد بين الله والإنسان عبر قوس قزح.
جلجامش وزيوسودرا: أقدم من نوح
لكن قبل نوح، كان هناك زيوسودرا، الملك السومري، وبطل الطوفان في ألواح سومر وأكاد، ثم أوتنابشتيم، الشخصية المقابلة له في ملحمة جلجامش، التي تعتبر أقدم ملحمة أدبية معروفة (تعود للألفية الثالثة قبل الميلاد).
يروي اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجامش كيف قرر مجمع الآلهة إغراق العالم، لكن الإله إنكي (أو إيا) نبّه أوتنابشتيم إلى الكارثة الوشيكة، فأمره ببناء سفينة ضخمة بأبعاد محددة، ليحمل فيها عائلته وبذور الحياة. استمر الطوفان سبعة أيام وسبع ليالٍ، ثم توقفت الأمطار واستقرت السفينة على جبل "نصير" (أو "نيشير"). استخدم أوتنابشتيم طائرًا، مثل الغراب والمامة، ليستدل على تراجع المياه، وهي تفاصيل تشابه ما ورد لاحقًا في قصة نوح، ما يجعل من قصة جلجامش مصدرًا محتملًا للرواية التوراتية.
الطوفان العظيم بين سفر التكوين وأساطير بلاد ما بين النهرين: مقاربة تحليلية
رغم التباين الظاهر في تفاصيل قصة الطوفان بين سفر التكوين واساطير بلاد ما بين النهرين ، إلا أن النُسخ الثلاث تشترك في البنية العامة: قرارإلهي/إلهي بإهلاك البشر، وبناء سفينة ضخمة بأوامر عليا، وإنقاذ رجل صالح يحمل معه بذور الحياة الجديدة، يعقبها رسو السفينة على جبل، وتقديم قربان احتفالي، ثم عهد بعدم تكرار العقوبة.
في سفر التكوين، يسود الخطاب التوحيدي الأخلاقي، حيث يُقدِّم النص سبب الطوفان بوضوح: "ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض... فحزن الرب أنه عمل الإنسان على الأرض." (تكوين 6:5-6). بهذا، فإن الطوفان في النص العبري هو نتيجة مباشرة للفساد الأخلاقي البشري، ووسيلة تطهير إلهية تعيد التوازن الأخلاقي إلى الخليقة.
أما في ملحمة جلجامش، فإن الأمر يختلف جذريًا. الآلهة، الكثيرة والمتقلبة، تقرر إفناء البشر بسبب "صخبهم وضجيجهم" الذي أزعج كبير الآلهة "إنليل". لا يبدو القرار مرتبطًا بخطيئة أو فساد، بل بردة فعل شبه اعتباطية، وهو ما يكشف تصوّرًا أسطوريا للآلهة أشبه بالبشر في نزواتهم وتقلباتهم. الناجي هنا هو "أوتنابشتيم"، الذي يُنقَذ عبر وحي من الإله "إيا"، ويُؤمر ببناء سفينة ضخمة، يملؤها بالكائنات الحية، لينجو من العاصفة التي دامت "ستة أيام وسبع ليالٍ".
وفي أسطورة زيوسودرا، وهي النسخة السومرية الأقدم (حوالي 2100 ق.م.)، نرى العناصر الأولى للنص الطوفاني، وإن كانت بعض أجزائها مفقودة. الآلهة تقرر الطوفان دون ذكر دافع واضح، ثم يُحذَّر زيوسودرا من قبل إله الحكمة "إنكي"، فيبني سفينة ويُنجى، ويرسو لاحقًا على جبل. وبعد تقديمه القربان، تمنحه الآلهة الحياة الأبدية وتنقله إلى "دلمون"، الجنة السومرية.
المقارنة بين الروايات الثلاث تكشف تشابهات لافتة: رجل صالح يُنقذ، تعليمات ببناء سفينة، جمع الكائنات، طوفان شامل، رسو على جبل، إرسال طيور لتقصي اليابسة، وتقديم قربان. لكن الخلافات أكثر عمقًا في التفسير والدلالات. فبينما تُصوَّر الآلهة في جلجامش وزيوسودرا على نحو مجزأ ومضطرب، يحمل سفر التكوين رؤية لإله واحد عادل صارم لكنه أيضًا نادم ورحيم، يضع قوس قزح علامة للعهد بعدم تكرار الطوفان.
المدة الزمنية للطوفان تختلف كذلك: في التكوين يستمر المطر 40 يومًا والمياه تغمر الأرض 150 يومًا؛ في جلجامش، العاصفة لا تتجاوز أسبوعًا؛ وفي زيوسودرا سبعة أيام. أيضًا، موقف الآلهة بعد الطوفان يختلف جذريًا: في التكوين، هناك عهد واضح بعدم تكراره. أما في جلجامش، فإن إنليل يشعر بالندم ويُوبَّخ من بقية الآلهة، ثم يُمنح أوتنابشتيم وزوجته الخلود، وهي سمة لا نجدها في سفر التكوين.
هذه الفوارق تكشف اختلاف الرؤية الفلسفية والدينية في كل حضارة. ففي الميثولوجيا السومرية والبابلية، تتصرف الآلهة أحيانًا بعبثية، ويبدو الإنسان ضحية قوة كونية لا تفسر نفسها. أما في النصوص العبرية، فإن الله يضع نظامًا أخلاقيًا واضحًا يحاسب البشر على أساسه، ويُقدِّم بعد العقاب فرصة للبدء من جديد.
وقد ذهب عدد من الباحثين إلى أن قصة نوح في التوراة تأثرت بشكل مباشر بالتراث الرافديني، خاصة خلال فترة السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، حين اختلطت الثقافة اليهودية بالآداب والثقافة البابلية. لكن إعادة صياغتها في سفر التكوين تعبّر عن نقلة من الميثولوجيا نحو الأخلاق، ومن التعدد إلى التوحيد، ومن عبثية العقوبة إلى عدالة إلهية مدروسة.
في المحصلة، تشكل قصة الطوفان في تجلياتها المختلفة مرآة لفهم الإنسان لعلاقته بالمقدس، وبالطبيعة، وبالعدالة، وهي وإن اختلفت في الزمان والمكان، إلا أنها تطرح السؤال ذاته الذي ظلّ يراود البشرية منذ فجر التاريخ: لماذا يحدث الشر، وهل يمكن الخلاص منه؟
الطوفان في حضارات عالمية
بعيدًا عن الشرق الأدنى، تتردد نفس القصة، بتفاصيل مذهلة الشبه، في حضارات أخرى لا علاقة ظاهرة بينها:
في حضارة الإنكا، وردت قصة الطوفان ضمن الأساطير التي تداولتها الشعوب الأنديزية قبل وبعد تأسيس إمبراطورية الإنكا، وتحديدًا في أسطورة الإله فيراكوچا (Viracocha)، الخالق الأعظم في الميثولوجيا الإنكية. بحسب الرواية: خلق فيراكوچا البشر الأوائل من الحجارة، لكنهم عصوا أوامره وأفسدوا في الأرض. فغضب عليهم وأرسل طوفانًا عظيمًا ليغمر العالم ويمحوهم. لم ينجُ من هذا الطوفان سوى رجل وامرأة، أنقذهما فيراكوچا بأن خبأهما في كهف أو على قمة جبل عالٍ، ليبدآ من جديد عملية إعمار الأرض وتكاثر البشرية.
بعد الطوفان، خرج فيراكوچا من وسط بحيرة تيتيكاكا، وبدأ في خلق الشمس والقمر والنجوم، ومن ثم علّم الناس القوانين والزراعة والحرف، قبل أن يسير نحو الغرب ويختفي في البحر، وسط وعود بالعودة يومًا ما. تُظهر هذه القصة تشابهًا مع غيرها من روايات الطوفان: الفساد، الغضب الإلهي، التطهير بالماء، والنجاة المعجزة لرجل وامرأة يعيدان إعمار الأرض.
وفي أساطير حضارة المايا، وردت قصة الطوفان ضمن سرديات "كتاب بوبول فوه" (Popol Vuh)، وهو النص المقدس لشعب المايا-الكيشيه في مرتفعات غواتيمالا. تقول الأسطورة إن الآلهة حاولت خلق البشر عدة مرات من مواد مختلفة. وعندما صنعوهم من الخشب، كان البشر قساة، بلا عقل أو روح، ولم يكرّموا الآلهة. فغضبت الآلهة وأرسلت طوفانًا عظيمًا اجتاح الأرض، ترافق مع حيوانات مدمّرة وكائنات خارقة التهمت هؤلاء البشر الخشبيين.
لم ينجُ أحد من الطوفان الخشبي، وبقيت الأرض مقفرة حتى صنع الآلهة أخيرًا البشر من عجين الذرة، الذين أصبحوا بشر المايا الحقيقيين، وتكمن قوتهم في ارتباطهم بمادة الذرة المقدسة لديهم. هذه الأسطورة تُظهر الطوفان كأداة تطهير إلهي، وتمهيدًا لخلق الإنسان الحقيقي الذي يُرضي الآلهة، وهي تتقاطع رمزيًا مع أساطير الطوفان الأخرى حول العالم، رغم اختلاف التفاصيل والسياقات الثقافية.
وفي الأساطير الصينية القديمة، تتجلى قصة الطوفان في حكاية الطوفان العظيم الذي غمر الأرض في عهد الإمبراطور الأسطوري ياو (Yao).. تقول الرواية إن الأنهار فاضت بشكل كارثي، فغمرت المياه السهول والجبال، وهددت بفناء البشرية. حاول الإمبراطور ياو التصدي للطوفان، فعيّن كون (Gun)، رجلًا حكيمًا، للسيطرة على المياه. لكن كون فشل رغم محاولاته التي استمرت تسع سنوات، فحُكم عليه بالموت.
بعده جاء ابنه يو العظيم (Yu the Great)، الذي نجح في تصريف مياه الطوفان بفضل خطط مبتكرة اعتمدت على حفر القنوات وتوجيه الأنهار بدلًا من حبسها. استمر يو في عمله لسنوات طويلة دون أن يزور منزله، ونجح في إنقاذ البلاد، فتم تكريمه وأصبح أول إمبراطور لسلالة شيا، أول سلالة أسطورية في الصين. والطوفان في الأسطورة الصينية ليس عقوبة إلهية كما في أساطير أخرى، بل كارثة طبيعية كبرى، والانتصار عليها يعكس قيمة الحكمة والعمل الدؤوب في الفكر الصيني القديم.
الطوفان والعلم: نهاية العصر الجليدي
بعيدًا عن الأسطورة، يرى عدد من علماء الجيولوجيا والآثار أن هناك أساسًا حقيقيًا وكونيًا لأسطورة الطوفان، إذ يشيرون إلى نهاية العصر الجليدي الأخير، قبل حوالي 10,000 إلى 12,000 عام، حيث بدأت درجات حرارة الكرة الأرضية في الارتفاع، ما أدى إلى ذوبان كتل جليدية ضخمة كانت تغطي أجزاء واسعة من شمال الكرة الأرضية. وقد تسبب ذلك في ارتفاع منسوب المياه في محيطات وبحار العالم بأكثر من 100 متر، مما أدى إلى غرق مساحات هائلة من اليابسة.
ومن أبرز الأدلة الجيولوجية على ذلك:
تشكل الخليج العربي، إذ كانت اليابسة في الماضي تمتد لتصل برًا من جنوب العراق حتى سواحل عُمان الحالية، وشكلت واديًا خصبًا لنهر الفرات ونهر دجلة، يُعتقد أنه كان مأهولًا بالبشر. ومع ارتفاع منسوب المياه، غمر البحر هذه المنطقة، وولدت جغرافيا جديدة.
تشكل البحر الأسود كما نعرفه اليوم، والذي تشير دراسات إلى أنه كان سابقًا بحيرة مغلقة مياهها عذبة، ثم اجتاحتها مياه البحر المتوسط، في حادثة كارثية قد تكون خلفت أثرًا حضاريًا كبيرًا. الإضافة الى غرق مناطق شاسعة من السواحل حول العالم، مثل أجزاء من جنوب شرق آسيا، حيث كانت إندونيسيا وماليزيا جزءًا من قارة واحدة، قبل أن تتشكل الجزر المعروفة اليوم.
بين الأسطورة والحقيقة
ما يميز قصة الطوفان أنها تقف عند تقاطع الأسطورة والعلم. فهي تحمل في طياتها تحذيرًا أخلاقيًا وسردًا لعدالة كونية، كما أنها تسجل حدثًا طبيعيًا ضخمًا ربما عاشه البشر الأوائل، وترك في ذاكرتهم أثرًا لا يُنسى. فبقدر ما كان الطوفان مدمرًا، بقدر ما مثّل بداية جديدة للبشرية، سواء في قصص نوح، أو أوتنابشتيم، أو زيوسودرا، أو مانو، أو سكان جبال الأنديز.
وفي ضوء التغيرات المناخية المعاصرة، تبدو تلك الحكايات القديمة أكثر راهنية من أي وقت مضى، لا بوصفها أساطير ماضية، بل كمرآة تحذّر من القادم، حين تعود الطبيعة لتذكّرنا أننا لسنا سوى ضيوف مؤقتين على هذه اليابسة..
#نبهان_خريشه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟