نبهان خريشه
الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 15:11
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
قبل قرنٍ ونصف فقط، لم تكن العبرية التي نسمعها اليوم في شوارع تل أبيب أو في نشرات الأخبار الإسرائيلية موجودة كما نعرفها. كانت العبرية القديمة – أو العبرية التوراتية – لغة ميتة تقريبًا، تُقرأ ولا تُتحدث، تُستخدم في المعابد والنصوص الدينية فحسب، بينما كانت ألسنة اليهود في العالم تنطق بلغات أخرى: اليديشية في أوروبا الشرقية، واللادينو في حوض المتوسط، والعربية في بلاد المشرق والمغرب العربيين.
ولألفي عام تقريبًا، ظلت العبرية حبيسة الكتب، لغةً مقدسةً لا يُسمح بتدنيسها بالاستعمال اليومي. حتى النصوص الدينية نفسها لم تُكتب كلها بالعبرية، فكثير منها كُتب بالآرامية، اللغة التي كانت أوسع انتشارًا وأقرب إلى التداول الشعبي في المشرق القديم¹. ومع مرور القرون، بدت العبرية أقرب إلى اللاتينية في أوروبا القرون الوسطى: لغة طقوس، لا حياة فيها خارج الكنائس والمدارس الدينية.
لكن التاريخ لا يخلو من مفارقات. ففي أواخر القرن التاسع عشر، ظهر يهودي صهيوني من أصل روسي اسمه إليعازر بن يهودا، غيّر المجرى اللغوي والديني لليهودية الحديثة. كان شابًا مولعًا بفكرة غريبة في زمنه: أن يُعيد الحياة إلى لغة ميتة. لم يكن وحده بالطبع، بل كانت الصهيونية تقف حلف مشروعه، التي رفعت شعار بأن «شعبًا بلا لغة هو شعب بلا روح» ².
وُلد بن يهودا في بيئة تتحدث اليديشية، اللغة الهجينة التي كانت تجمع بين الألمانية والعبرية واللغات السلافية. لكنه آمن بأن إحياء ما يسمى بـ"الأمة" اليهودية لا يمكن أن يتم إلا بإحياء لغتها القديمة، فبدأ مشروعًا طموحًا: إعادة بناء العبرية لتصبح لغة محكية، لا طقسية فحسب. أخذ النطق السفاردي (وهو أقرب إلى النطق الشرقي)، وخلطه بنطق أوروبي متأثر باليديشية والروسية والبولندية والألمانية³. والنتيجة كانت لغة هجينة جديدة: العبرية الحديثة.
وهكذا وُلدت لغة جديدة في المختبر وليس بالتطور التاريخي. لغة تُكتب بالحروف القديمة، لكنها تُنطق بأصوات حديثة، وتفكر بعقل أوروبي. هذا المزيج جعل العبرية الحديثة تختلف جذريًا عن العربية، رغم الأصل السامي المشترك بينهما. فقد اختفت الأصوات الحلقية مثل الحاء والعين، فصارت كلمة «عبرية» مثلا تُنطق «إيفريت»، و«שלום» (شالوم) تُقال بلسان لا يعرف حرف العين ولا يميز بين الخاء والحاء. لهذا تبدو العبرية الحديثة مسطحة النغمة مقارنة بإيقاعات العربية الغنية بالأصوات والنغمات الموسيقية.
لكن مشروع بن يهودا لم يكن لغويًا فحسب؛ كان سياسيًا استعماريًا بامتياز. فقد جاءت فكرته في زمن تصاعدت فيه الحركة الصهيونية، التي رأت أن بناء وطن قومي لليهود يحتاج إلى أكثر من أرض: يحتاج إلى هوية، إلى ثقافة موحدة، إلى لغة تجمع يهود الشتات المتناثرين بين بولندا والمغرب واليمن وروسيا. وهكذا أصبحت العبرية الحديثة مشروعًا "قوميًا" استعماريا أكثر من كونها مشروعًا لغويًا⁴.
لم يكن الطريق سهلًا. فقد واجه بن يهودا رفضًا قاطعًا من اليهود الأرثوذكس، الذين رأوا في فكرته تجديفًا على قدسية اللغة. بالنسبة لهم، كانت العبرية لغة الله، لغة التوراة، لا يجوز استخدامها في الأسواق أو المقاهي أو الشوارع. لكن الجيل الجديد من اليهود العلمانيين، المتأثرين بالفكر القومي الأوروبي، رأى في العبرية رمزًا للنهضة والتحرر من التشتت. ومع مرور الوقت، تغلبت السياسة على الدين، والعصرية على القداسة.
وفي عام 1922، حين كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، قررت بريطانيا الاعتراف بالعبرية الحديثة كلغة رسمية إلى جانب العربية والإنجليزية⁵. لم يكن ذلك القرار لغويًا بريئًا، بل كان خطوة نحو تثبيت حضور المشروع الصهيوني، عبر منح لغته الرسمية اعترافًا إداريًا وسياسيًا. ومنذ تلك اللحظة، بدأت العبرية تخرج من اسفار التلمود والتوراة والمشناه والجمراه كتب لتنطقها الألسن.
في المدارس الأولى في تل أبيب، كان الأطفال اليهود يتعلمون العبرية قبل أن يتقنوها، لأنهم لم يسمعوا بها من قبل. كانت المعلمات يضربن التلاميذ إذا تحدثوا باليديشية، لأن المطلوب أن يتكلموا "لغة الأمة الجديدة". ومع الزمن، وُضعت المعاجم، وابتُكرت آلاف المفردات الحديثة لمواكبة الحياة الصناعية والعلمية. بن يهودا نفسه وضع أول معجم عبري حديث، واخترع كلمات من لا شيء أحيانًا، استوحاها من الجذور القديمة أو من نظيراتها العربية⁶.
وهكذا تحولت العبرية من لغة ميتة إلى لغة الدولة الصهيونية. اليوم، يتحدث بها أكثر من تسعة ملايين شخص، وتُدرّس في الجامعات وتُستخدم في العلوم والتكنولوجيا والسينما⁷. بل أصبحت إسرائيل تفتخر بأنها الدولة الوحيدة في التاريخ الحديث التي أحيت لغة ميتة وجعلتها لغة وطنية.
لكن هذه القصة ليست مجرد إنجاز لغوي. إنها أيضًا قصة سلطة وهيمنة. فالعبرية الحديثة، كما تُستخدم في إسرائيل، كانت أداة في بناء هوية قومية جديدة، لكنها أيضًا وسيلة في محو هويات أخرى. فحين أصبحت العبرية اللغة الرسمية الوحيدة للدولة، تراجعت العربية التي كانت لغة السكان الأصليين في فلسطين، وأصبحت لغة أقلية. ومع كل جيل، اتسعت الهوة بين اللغة والذاكرة، بين ما تتحدثه السلطة وما يحتفظ به التاريخ.
إلا أن المفارقة الكبرى أن هذه “الهوية اللغوية الموحدة” لم تنجح فعلاً في توحيد المجتمع الإسرائيلي. فبعد أكثر من 75 عامًا على قيام الدولة، فشلت الصهيونية في صهر اليهود المهاجرين في قومية واحدة، رغم أنهم جميعًا يتحدثون العبرية. إذ ما تزال الفوارق العرقية والثقافية والطبقية عميقة بين اليهود الشرقيين (السفاردييم) والغربيين (الأشكناز)، وبين الروس والإثيوبيين والمغاربة وغيرهم. فاليهود الشرقيون يشعرون بالتمييز الاجتماعي والاقتصادي، بينما يحتفظ الروس بهويتهم الخاصة، ويُعامل الإثيوبيون كمواطنين من درجة أدنى⁸.
إن اللغة وحدها لم تكفِ لبناء قومية اسرائيلية موحدة. فالعبرية الحديثة، التي وُلدت لتكون جسرًا بين يهود الشتات، تحولت إلى شاهد على التمزقات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، وإلى أداة تُستخدم لتعزيز هوية استعمارية أكثر من كونها هوية ثقافية جامعة. لقد أرادت الصهيونية أن تبني "شعبًا يهوديًا واحدًا"، لكن ما تحقق هو مجتمع متنافر المكونات، يجمعه لسان واحد وتفرقه ذاكرات وثقافات متعددة⁹.
وربما ما يجعل العبرية حالة فريدة هو أنها لم تعد إلى الحياة كما كانت، بل وُلدت من جديد في شكل آخر. إنها لغة قديمة بجسد حديث، تتكلم بلسانٍ أوروبي لكن تحمل في أعماقها جذورًا سامية مشتركة مع العربية. ومن المفارقات أن العربي يستطيع، إذا أصغى جيدًا، أن يسمع في العبرية صدى لغته الأم القديمة — صدى الأسماء والأنغام والأحرف التي كانت يومًا ما لغة من عاشوا على ضفاف التاريخ نفسه. ومع ذلك، تبقى العبرية الحديثة تذكيرًا بأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل مشروعا للإستعمار.
________________________________________
الهوامش والمراجع
¹ Harshav, Benjamin. Language in Time of Revolution. University of California Press, 1993.
² Fellman, Jack. The Revival of a Classical Tongue: Eliezer Ben Yehuda and the Modern Hebrew Language. W-alter-de Gruyter, 1973.
³ Wexler, Paul. The Schizoid Nature of Modern Hebrew: A Slavic Language in Search of a Semitic Past. Oxford University Press, 1990.
⁴ Kuzar, Ron. Hebrew and Zionism: A Discourse Analytic Cultural Study. Mouton de Gruyter, 2001.
⁵ British Government, Palestine Order in Council, 1922, Article 82 – Official Languages.
⁶ Glinert, Lewis. The Story of Hebrew. Princeton University Press, 2017.
⁷ Israel Central Bureau of Statistics, Statistical Abstract of Israel 2023, Table 8.1 – Languages Spoken in Israel.
⁸ Shohat, Ella. “Sephardim in Israel: Zionism from the Standpoint of Its Jewish Victims.” Social Text, No. 19/20, 1988.
⁹ Smooha, Sammy. “The Model of Ethnic Democracy: Israel as a Jewish and Democratic State.” Nations and Nationalism, vol. 8, no. 4, 2002.
#نبهان_خريشه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟