نبهان خريشه
الحوار المتمدن-العدد: 8550 - 2025 / 12 / 8 - 22:17
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
منذ أن شهد العالم العربي عصوره الذهبية في الفلسفة، والرياضيات، والطب، والفلك، وحتى علوم اللغة والنحو، كان العقل العربي أحد أعمدة الحضارة الإنسانية؛ غير أن ما نلاحظه اليوم ليس تردّداً في الإمكانات الفكر ثقافية بقدر ما هو هشاشة في الأطر المنهجية، وضعف في البنية المؤسسية، وتبعات ثقافية واجتماعية تقف – في أغلب الأحيان – عائقًا أمام (البناء) المعرفي. إننا اليوم، بعيدًا عن التمجيد التاريخي أو الهدم المفرط، في حاجة إلى قراءة نقدية — لكنها بناءة — لمسارات الفكر العربي: ما عوّق تألقه؟ وما الذي يمكن إصلاحه؟ وما الذي بقي ناجحًا من تراث أو تجربة؟
هيمنة البلاغة والخطابة
لا يغيب عن أحد أن في كثير من المفكرات الأدبية والفكرية العربية — خاصة في دوائر النخبة التقليدية — كان هناك ميل دائم إلى أولويات البلاغة والخطاب على حساب العمق المنهجي والتحليل الموضوعي. فالجمال اللغوي، وفصاحة اللفظ، وإتقان التعبير كانت غالبًا علامة التميّز، بينما كان من المطلوب أقل كثيرًا أن يرافق ذلك بحث منظم، أو منهج تحليل، أو محاولة لفهم الواقع الاجتماعي والسياسي بعين الفكر النقدي. هذا الإصرار على اللون البلاغي – على حساب محتوى عملي أو تحليلي — لم يأت من فراغ، بل هو جزء من إرث ثقافي طويل. وهذا لا يعني أن البلاغة عديمة القيمة — بل هي قيمة تجعل الفكر العربي متمايزًا لغويًا وحضاريًا — لكن حين تصبح الغاية الشكل أكثر من أن تكون الوسيلة، فإن الخطاب يتحول إلى استعراض، أكثر من أن يكون أداة معرفية فعالة.
إن مثل هذا التوجه البلاغي الخطابي ينعكس أيضًا في المدارس التقليدية، وفي مناهج التعليم التي لم تعر الاهتمام الكافي لتطوير مهارات التفكير النقدي، أو إلى بناء أدوات منهجية لتحليل المجتمع أو النص أو التاريخ. حتى في الجامعات، يلاحظ بعض الباحثين أن أول ما يُقدَّر لدى الطالب ليس قدرته على البحث والتدقيق، بل رؤيته الفلسفية أو مدى انسيابية عباراته، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج نصوص فكرية أقل تجريبًا وأكثر تأثّرًا بصيغ تقليدية.
لكن هذا الضعف المنهجي لا يمكن فصله عن بيئة تاريخية وسياسية احتضنت — أو فرضت — تراثًا سلطويًا، سواء في التحكّم السياسي أو النفوذ الديني أو الضغوط الاجتماعية. فسلطة التقليد — سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية — ترسّخت عبر قرون، جعلت من التساؤل والمساءلة أمرًا صعبًا، بل أحيانًا مرفوضًا. في مثل هذه البيئة، يصبح النقد الذاتي أو الفكر المستقل تهديدًا للموروث، وللهوية المجتمعية، وللأمن الثقافي. والنتيجة أن أغلب الأجيال لم تُمنح — عمليًا — فرصة لتطوير عقلانية نقدية ذات استقلالية.
ثنائية التطرف الفكري
عندما ندرس تجارب المفكرين العرب المعاصرين، نلحظ أن أولئك الذين جرّؤوا على مساءلة الذات أو المجتمع دفعوا — في كثير من الحالات — ثمنًا شخصيًا أو مهنيًا. ربما من هؤلاء صادق جلال العظم، الذي عُرف بنقده للظاهرة السلطوية والأداء الديني والاجتماعي، أو محمد عابد الجابري، الذي حاول إعادة قراءة التراث الإسلامي والفكر العربي بمنهج دراسي ـ تحليلي عميق. تلك التجارب أثبتت أن العقل النقدي ممكن ومشرّع على التجديد، لكن بدون بيئة مؤسسية وسياسية مثالية، فإن إسهاماته تبقى محدودة ومشتتة.
ومن هنا يولّد ما يمكن تسميته “ثنائية التطرف الفكري”: إما تبنٍّ كامل وقداسة للتراث — وكأن التراث ملَكَة غير قابلة للنقاش — أو رفضٌ كامل له، وتبني صارم للحداثة الغربية بمعزل عن الواقع العربي. هذه الثنائية ناتجة عن مزيج من الخوف، أو الشعور بالدونية، أو رغبة في الانبهار بالتقدم الغربي، أو رغبة في التحرر من إرث ثقافي مرهَق. والنتيجة أن غالبية الخطابات الفكرية تقع في إطاريْن متطرفيْن: تقديس ماضٍ غارق في المجد، أو انبهار بحداثة مستوردة بلا نقد. النتيجة: إما الحجز في الماضي، أو الانفصال عن الهوية.
لكن أبعاد المشكلة تتعدى الفكر أو الثقافة إلى البنية المؤسسية — وهي من أهم الأسباب التي تجعل العقل العربي لا يُترجم إمكاناته إلى إنتاج معرفي ملموس. على سبيل المثال، وفق بيانات حديثة نقلها اتحاد الجامعات العربية، الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية لا يزال — في مجمله — دون 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي. هذا أدنى بكثير من المتوسط العالمي، الذي بحسب بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) يظهر أن الدول المتقدمة تخصص ما بين 2 3٪ أو أكثر من ناتجها المحلي للبحث والتطوير. حتى في الدول العربية التي تسعى للتطوير، مثل المملكة العربية السعودية، فإن الارتفاع في الإنفاق على البحث والتطوير — رغم أنه إيجابي (ارتفع بنسبة 17.4٪ في 2023) — يبقى ضمن سقف منخفض مقارنة بالتحديات.
تغييب القطاع الخاص
وهكذا، تفتقد أغلب الأنظمة البحثية العربية إلى التمويل الكافي، والاستقلال الفعلي للبحث، والعلاقة الواضحة بين البحث العلمي والتنمية الاقتصادية أو التقنية. غالبًا ما يكون التمويل الحكومي هو المصدر الرئيسي، في حين يظل دور القطاع الخاص محدودًا جدًا أو منعدمًا عمومًا، بعكس ما هو معمول به في دول متقدمة حيث القطاع الخاص هو الداعم الرئيس للبحث والتطوير. نتج عن ذلك ضعف في عدد البحوث المتخصصة، وفي جودة المخرجات، وفي ربط البحث العلمي باحتياجات المجتمع.
هذا الواقع المؤسسي يتقاطع مع واقع تربوي يعود جذوره إلى النظام التقليدي للتعليم الديني – ثم النظام التعليمي الحديث — حيث كانت طريقة التدريس تعتمد إلى حد كبير على الحفظ والتلقين. كتابات غربية تظهر أن العديد من المدارس العربية، حتى في المراحل المتوسطة، لا تُحفز الطلبة على التفكير النقدي أو حل المشكلات؛ بل تربِّيهم على الاستظهار والاستذكار. النتيجة الطبيعية أن الخرج التعليمي — رغم الكم الهائل أحيانًا — ليس موازٍيا لاحتياجات عصر التقدم العلمي أو الاقتصاد القائم على المعرفة.
كما أن النظرة المجتمعية للعمل اليدوي أو التقني — مقارنة بالوظائف الإدارية أو الأكاديمية أو الأدبية — ساهمت أيضًا في تكريس الفجوة بين الفكر النظري والتطبيق العملي. في كثير من المجتمعات العربية، كان ولع الأُسَر بتوجيه أبنائها نحو وظائف “مشرفة” أو “ثقافية” أو إدارية، في حين يُنظر إلى العمل التقني، الصناعي، الحرفي، أو التقني كعمل “دنيوي أو متدنٍّ” من حيث المنزلة الاجتماعية. هذا التحيّز الثقافي يلعب دورًا في توجيه خيارات الشباب، ويريبط باستمرار المجتمع بدائرة الاقتصاد الريعي أو الوظائف الخدمية، بدل أن يكون قاعدة لإطلاق طاقات إنتاجية وحِرفية وتقنية.
المعرفة والإبتكار
الحق أن العقل العربي أثبت — عبر التاريخ — أنه قادر على الإبداع والعطاء حين تتوفر له البيئة المناسبة. من علماء الرياضيات والفلك مثل الخوارزمي، إلى الفلاسفة والمفكرين مثل ابن رشد وابن خلدون، مرورًا بمبدعين في الطب، الكيمياء، اللغة، الفلسفة، والمنطق، كانت الشواهد كثيرة على أن البيئة الحرّة، أو شبه الحرّة، تُنتج عباقرة. لكن ما شهدناه في القرنين الأخيرين — مع صعود الدولة الحديثة، والسيطرة السياسية، وتراجع التمويل، وتجهيل الجيل — هو تقلّص لتلك الإمكانات.
اليوم دخولنا عصر عالمي يرى فيه المعرفة والابتكار ركيزتين للنفوذ والتفوق الحضاري. التكنولوجيا، الاقتصاد القائم على المعرفة، الذكاء الاصطناعي، التحولات البيئية — كل ذلك يتطلب مجتمعات قادرة على البحث، التفكير النقدي، الإبداع، والتطبيق. لذلك، من غير المقبول أن يبقى البحث العلمي في العالم العربي هامشيًا، تحت سقف أقل من 1٪ من الناتج القومي.
والحل لا يكمن فقط في رفع الصرف المالي — رغم أهميته — بل في إعادة بناء ثقافة البحث، وتعزيز استقلالية الجامعات والمعاهد البحثية، وتشجيع الشراكة مع القطاع الخاص، وتحديث المناهج التربوية لتنشئة جيل قادر على التفكير النقدي والإبداع، وليس مجرد الحفظ والاستظهار. كما يتطلب هذا مشروعًا ثقافيًا طويل الأمد: أن نعطي للعمل اليدوي والتقني احترامًا اجتماعيًا يوازِي احترام الفكر النظري. أن نصغي إلى حرفيّينا، لمهندسينا، لفنيّينا، لا أقلّ شأنًا من أستاذنا الجامعي أو أديبنا.
كما يجب أن نحتذي بنماذج عربية معاصرة — مفكرون وباحثون — أعادوا إنتاج الفكر بشكل نقدي ومنهجي. إن أولئك الذين سلكوا طريق النقد الذاتي — غالبًا بمجازفة — هم الأمل الحقيقي في صناعة نهضة فكرية عربية. فالنقد ليس رفضًا للذات أو للتراث، بل إعمالٌ للعقل في فهم نقاط القوة والضعف، وتجاوز القصور، والسعي لبناء نموذج معرفي يتناسب مع واقعنا المعاصر.
من هنا، أتصور أن قراءة الفكر العربي في هذا الزمن ينبغي أن تأخذ ثلاثة أبعاد رئيسية متكاملة: بُعد ثقافي–لغوي، يُحافظ على أصالة التعبير والهوية العربية؛ بُعد منهجي–بحثي، يُعزز من أدوات التحليل والدراسة والتطوير، وبُعد تطبيقي–تنموي، يربط المعرفة بالإنتاج، بالاقتصاد، بالابتكار، بالتقنية، بالحرف. بهذا المزيج يمكن أن يولد عقل عربي جديد — ليس مستهلكًا للتراث فحسب، وليس متقمصًا للحداثة الغربية بلا نقد، بل عقلًا قادرًا على الابتكار، الإنتاج، والمنافسة.
إن هذا المسار لا يتطلب عبقريات خارقة — بل رغبة جماعية في إعادة النظر، وإصلاح مؤسسي، واستثمار في التعليم والبحث، وتقدير للجميع: المفكر، العالم، الحرفي، المهندس، المزارع، العامل. إن النهضة الحقيقية لا تبدأ فقط من قاعات الجامعة أو المعاهد البحثية — بل من مجتمع يتحول إلى فضاء إنتاج، وإلى قيمة احترام عميق للعلم والعمل معًا.
إن الاعتراف بإمكانات العقل العربي — كما كانت سابقًا — ليس تكريسًا للحنين، بل دعوة للعمل. العمل على إعادة بناء بنى تحتية معرفية، ثقافية، تربوية، مؤسساتية، تنتج معرفة عربية مستقلة، قادرة على فهم واقعها، ومواجهة تحدياته، والمساهمة في بناء مستقبل متوازن: بين الأصالة والمعاصرة، بين الفكر والتنفيذ، بين المعرفة والإنتاج. إن المشروع ليس نقيضًا للتراث، وليس تقليدًا للغرب، بل هو مشروع عربي–معاصر: يحقق للتجربة العربية كيانها الذاتي، كرامتها الفكرية، وقدرتها على الابتكار، والإسهام في الحضارة الإنسانية.
مراجع وأدبيات
- UNESCO Institute for Statistics (UIS) بيانات الإنفاق على البحث والتطوير (R&D) كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (GDP): حسب تقرير حديث، تمثل نسبة الإنفاق على البحث والتطوير في منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا أقل من المتوسط العالمي، وغالبية الدول النامية تنفق أقل من 1٪ من ناتجها المحلي على البحث.
- اتحاد الجامعات العربية — تصريحات تشير إلى أن الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية لا يزال دون 1٪ من الناتج المحلي الإجمالي، ما يؤشر إلى الحاجة الملحة لتعزيز السياسات الداعمة للبحث والتطوير.
- من دراسة تحليلية نشرت في 2025 تفيد بأن الإنفاق على البحث والتطوير في الدول العربية — في أغلب الحالات التي تتوفر عنها بيانات — لا يصل إلى ربع ما تنفقه دول متوسطة الدخل من العالم، ويشكل نحو 18٪ من متوسط الإنفاق العالمي.
- تقرير عن وضع البحث والابتكار في دول الخليج (GCC) يُشير إلى أن حتى الدول التي تبذل خطوات في هذا المسار لا تزال تنفق أقل من المتوسط العالمي، وإن دولاً مثل United Arab Emirates تحقق — رغم ذلك — حصّة من الناتج المحلي ما بين 1–1.5٪ على البحث والتطوير، لكنها تبقى ضمن حدود منخفضة مقارنة بمعايير الدول المتقدمة.
- دراسات معاصرة حول “تمويل البحث في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA)” توضح أن غالبية التمويل يأتي من جهات حكومية أو أكاديمية، بينما دور القطاع الخاص ضئيل إلى شبه منعدم في معظم الدول — ما يضعف الربط بين البحث العلمي والتنمية الاقتصادية أو التقنية.
- بحث حول التوزيع الجندري في البحث العلمي في منطقة MENA بين 2008 و 2020، يبيّن وجود فجوة نحو قلة مشاركة النساء في الإنتاج العلمي، تفاوت في الإنتاجية والمشاركة في المؤلفين الرئيسيين مقارنة بالذكور، مما يعكس تحديات إضافية داخل البيئة البحثية.
- تحليل للكتابة الأكاديمية العربية: The Arabic Citation Index (ARCI) — مبادرة لتقييم وإحصاء الإنتاج العلمي العربي — يشير إلى أن معظم المقالات المصنّفة تندرج ضمن الفلسفة، العلوم الإنسانية والاجتماعية، وأن نسبة كبيرة منها بمثابة مراجعات أو مقالات نظرية، مما يعكس بروز حوزهأ معينة مقابل ضعف الإنتاج في العلوم الدقيقة أو التطبيقية.
#نبهان_خريشه (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟