أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الستار الجميلي - الناصرية والماركسية.. جدل الإتفاق والإختلاف















المزيد.....



الناصرية والماركسية.. جدل الإتفاق والإختلاف


عبد الستار الجميلي

الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 00:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



مقدمة
في وطننا العربي تيارات ونظريات سياسية وفكرية متعددة تعكس بنية وأزمة الحركة السياسية العربية المعاصرة منذ سؤال النهضة العربية في القرن التاسع عشر، ومرورا بمرحلة ما بعد الحربين الأولى والثانية وما بينهما وتشكيل الدول العربية الوطنية ومرحلة التحرر الوطني والاستقلال، والى الآن.. وقد عاشت هذه التيارات والنظريات المراحل جميعها إما متكاملة أو متعاونة أو متصادمة فيما بينها، خصوصا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي.. اللتان شهدتا تشكيل كيان صهيوني إستيطاني على أرض فلسطين العربية، وثورات عربية كبرى في مصر والجزائر والعراق واليمن وليبيا والسودان، وحركة تحرر عربية واسعة غطت الوطن العربي بكامله، وتفاعلات عربية نشطة على المستويات الوطنية والقومية والعالمية، في إطار مرحلة شهدت الإستقطاب الدامي للحرب الباردة بين معسكرين، أحدهما قريب من الثورات العربية وحركة التحرر العربية بحكم الهدف المشترك هو الإتحاد السوفييتي، والآخر معادي للوطن العربي وقضاياه المركزية خصوصا فلسطين، هو المعسكر الرأسمالي، وقد إنعكس ذلك كله على العلاقة بين تلك الأفكار والنظريات التي عاشت مرحلة من الإتفاق والتعاون أو الخلاف والتصادم بحسب رؤية وأيديولوجية وإجتهاد كل طرف لطبيعة المرحلة، ومدى تفاعله ومساهمته وحساباته فيها، وعلاقاته الداخلية والخارجية.
ومن أبرز هذه التيارات والنظريات السياسية والفكرية، الناصرية التي كانت في قلب وقيادة الثورة العربية وحركة التحرر العربية التي إنطلقت من مصر بعد تفجير ثورة ٢٣ يوليو تموز في عام ١٩٥٢ بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، الذي بلور من خلال منجزاته المادية والفكرية النضالية، الناصرية التي إستمدت توصيفها المعرفي من إسمه كنظرية سياسية وتيار فكري في إطار نسق تحرري وإشتراكي ووحدوي.. والماركسية التي إستمدت توصيفها المعرفي من إسم كارل ماركس وإن كانت مساهمة صديقه انجلز أساسية في بلورة النظرية، والتي إنطلق نشاطها المؤثر بعد ثورة أكتوبر ١٩١٧ في روسيا بقيادة لينين وبناء الاتحاد السوفييتي، وتجربته الاشتراكية وتبنيه قضايا حركة التحرر العالمية والنضال ضد الاستعمار والامبريالية في إطار النظرية السياسية الماركسية المادّية وتيارها الفكري الاشتراكي.
فما هي الناصرية؟ وماهي الماركسية؟ وما هي حدود الإتفاق وَمحاور الخلاف؟
أولا-الإطار النظري للناصرية والماركسية
من مقتضى وضع توصيف معرفي لكل من النظرية الناصرية والنظرية الماركسية، التعريف بالنظرية السياسية بشكل موجز أولا، بما يخدم موضوعنا:
1 تعريف النظرية السياسية: مفهوم النظرية السياسية من المفاهيم التي تحمل قدرا كبيرا من الإلتباس والإختلاف، حول تعريفها ومضمونها وعناصرها وانواعها، بحسب الزاوية أو المقاربة التي يُنظر من خلالها إلى هذا المفهوم، الذي يتضمن تركيبا بين مفهومين، النظرية/ والسياسة، وهما أيضاً موضع إلتباس وإختلاف كذلك، وبالتالي من الصعب تقديم تعريف جامع مانع للنظرية السياسية. فتعريف النظرية السياسية وفق الرؤية الماركسية يختلف في المنهج والمضمون والعناصر والمعايير والأهداف عن الرؤية الليبرالية، وكلاهما يختلفان عن الرؤية الناصرية في ذات الأبعاد.. ما يعني أنّ البحث عن نظرية سياسية ناصرية وفقا للنموذج الماركسي أو الليبرالي، مضيعة للوقت والجهد ولن يُفضي لحل المشكلات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي يعاني منها الوطن العربي، بدوله منفردة أو مجتمعة.. فالنظرية السياسية هي نتاج البيئة ومشكلاتها التي تفرزها في إطار مكاني وزماني محدد، وإن كان هناك إطار معرفي عام يحدد ويدرس النظرية السياسية كفرع من فروع العلوم السياسية والإجتماعية بشكل عام.، ويصنفها إلى أربعة أنواع رئيسة: النظرية المعيارية التي تهتم بما يجب أن يكون عليه الواقع المُستهدف، وتتناول مفاهيم كالحرية، العدالة، المساواة، الشرعية، وتعتمد منهج التحليل الفلسفي والقيم الأخلاقية. والنظرية الإمبريقية/الواقعية التي تُركز على ما هو موجود فعلاً، أي على تفسير الواقع وليس تغييره، وتعتمد مناهج التحليل السلوكية، كالإحصاء، ودراسات السلطة. والنظرية المؤسسية التي تدرس المؤسسات السياسية كالدولة، السلطات الثلاث، الأحزاب، وتعتمد منهج البحث في القواعد الرسمية وغير الرسمية التي تنظم السلوك السياسي. والنظرية النقدية والاشتراكية، التي تركز على تفكيك القوة والهيمنة ومعايير إنتاج الخطاب السياسي. وإلى جانب هذا التقسيم الأكاديمي، يمكن تصنيف النظريات السياسية بشكل عام إلى صنفين رئيسين: النظرية السياسية الأكاديمية وفق التصنيف السابق، والنظرية السياسية الثورية للتغيير التي ترى أن إصلاح المجتمع أو النظام السياسي لا يمكن أن يتم عبر الإصلاحات التدريجية، وإنّما عبر تغيير جذري وشامل للبنية السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية للنظام القائم، بهدف إسقاطه وإستبداله بنظام جديد يقوم على مفاهيم ومبادئ وقيم وأهداف مختلفة جذريًا.. ودون الدخول في تفاصيل هذه النظريات نُشير إلى أنّ هذه النظريات السياسية بشكل عام تتضمن مجموعة من العناصر التي تُعدّ المكوّنات الأساسية التي يقوم عليها أي بناء نظري لفهم السياسة وتجلياتها ومظاهرها وتحليلها وتفسير ظواهرها، وبالتالي فإنّ النظريات السياسية حتى داخل النوع الواحد تختلف في مضمون هذه العناصر، التي تتمثّل: بالمفاهيم، الفرضيات، المبادئ، القيم، المنهج، التفسيرات، الأهداف، والنموذج العام، مع ملاحظة إن النظرية السياسية الثورية تتضمن عناصر أخرى، من أهمها،: تحليل الأزمة، التركيز على الصراع، رفض التغيير التدريجي، الطابع الجذري للتغيير، دور الشعب والقياد الثورية والحزب الثوري في عملية التغيير، والهدف النهائي بإنشاء نظام سياسي جديد بديلاً للنظام القائم .
وفي إطار ما سبق نُشير إلى أن ما نقصده بالنظرية السياسية في موضوع بحثنا هي النظرية السياسية الثورية التي تنتمي من حيث التصنيف الأكاديمي إلى النظريتين السياسيتين النقدية والمعيارية معاً.. ولذلك ولأغراض موضوع البحث فسنضع تعريفا إطاريا عاماً لمفهوم النظرية السياسية الثورية، ينطلق من تعريف مبدأي لعنصري مفهوم النظرية/ السياسية المركب. فالنظرية ترتبط لغويا بالفعل الثلاثي نظر بمعنى التأمل في الموضوع قيد النظر، وإصطلاحا بالقواعد والمبادئ التي تستخدم لوصف موضوع ما، وهذه القواعد والمبادئ تختلف من مقاربة إلى أخرى وفقا لمنظار المتأمل.. بينما يرتبط مفهوم السياسة بفن وعلم إدارة الدولة والسلطة وتوزيع القوة وغيرها من الجوانب، دون أن يكون هناك مفهوم موحد لكيفية إدارة الدولة والسلطة والقوة، فضلاً عن صعوبة الإتفاق على تعريف موحد للسياسة.. ولذلك وبهدف تحديد التعريف الإطاري، فإنّه عند جمع قواعد ومبادئ التأمل مع إدارة الدولة والسلطة والقوة، تتشكّل لدينا النظرية السياسية التي تتمثل: بمجموعة من المبادئ والمفاهيم والقواعد والمناهج والموضوعات التي ترتبط مع بعضها في منظومة فكرية تتضمن من منظور ثوري منطلقات وأسس للقضية وأهداف شاملة ومحددة يَسعى إليها أصحاب القضية، ووسائل وإمكانيات للحركة، لوضع المنطلقات على أرض الواقع باتجاه تحقيق الأهداف المحددة في إطار زماني ومكاني محدّدين.
2- الناصرية والماركسية، إطار نظري عام:
أ. النظرية السياسية الناصرية: تنتمي النظرية السياسية الناصرية من حيث التوصيف المعرفي إلى النظريات السياسية الثورية للتغيير ببعديها النقدي والمعياري، التي تُمثّل بناءً فكرياً متناماً، يقدم فهما محددا لواقع إجتماعي معين في مرحلة تاريخية محددة بهدف تغيير هذا الواقع، بما يتضمن من تحديد للمشكلة الجوهرية والحل الجذري للمشكلة، والقوى القادرة على التغيير والقوى المضادة، والأداة القادرة على التغيير، إنطلاقا من حدّي النظرية في الزمان والمكان.. وعليه يمكن تعريف النظرية السياسية الناصرية، بأنّها: " منظومة نسق فكري وفلسفي وعقيدي نهضوي، قومي عربي وإنساني شامل ومفتوح، تُمثل الخلاصة الثورية المتنامية لتجربة جمال عبد الناصر السياسية والفكرية والفلسفية والنضالية والتنظيمية، بما تتضمنه من منطلقات وأهداف ووسائل، تنطلق من وحدة الوجود القومي للأمة العربية بإتجاه الإنتقال من التجزئة والتخلف والهيمنة الخارجية إلى التقدم السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي، في إطار دولة عربية واحدة إشتراكية وديمقراطية وعالم قائم على القانون والعدالة والمساواة بين البشر، عبر مجموعة من الوسائل الثورية أو السياسية أو الدبلوماسية بحسب طبيعة كلّ مرحلة".
وإنطلاقاً من هذا التعريف الإطاري، يُمكن تحديد مفردات النظرية الناصرية، كما يأتي:
أولا- المنطلق، وحدة الوجود القومي للأمة العربية: نقطة إنطلاق الناصرية تتمثّل بتقدم رؤية وفهم محدد للواقع العربي، بهدف تغييره.. والواقع العربي يؤكد، إننا ننتمي إلى مجتمع واحد تكوَّن تاريخيا هو (الأمة العربية) وهي أمة مكتملة التكوين من الناحية التاريخية (وحدة التاريخ) والإجتماعية (وحدة اللغة والحضارة) والنفسية (الشعور بالإنتماء القومي) .. هذا المنطلق يتضمن حدين:
1-حد المكان أو الإطار المجتمعي: الأمة العربية بعنصريها الأرض والشعب، الوطن العربي والشعب العربي على إمتداد هذا الوطن، مع الأخذ بنظر الإعتبار المواطنية المتساوية، لسكان الوطن العربي من غير العرب.
2-حد الزمان أو الإطار التاريخي: الأمة العربية في القرن العشرين وصعوداً إلى القرن الواحد والعشرين.
ثانياً- تحديد المشكلات الرئيسة للمجتمع العربي: حتى يُمكن تغيير الواقع العربي يجب تحديد المشكلات الرئيسة، التي تستدعي التغيير والعمل من أجله، وأهمّها:
1-الاستعمار والصهيونية والدكتاتورية والقمع والتمييز بكل أشكاله.
2-التخلف بكل مظاهره السياسية والإجتماعية والإقتصادية والعلمية والثقافية.
3 -التجزئة والإقليمية.
4-تحديات العلم والتكنولوجيا.
ثالثاً- تحديد القوى الإجتماعية القادرة على التغيير والقوى المضادة:
1-قوى التغيير: قوى الشعب العامل، الفلاحين والعمال والجنود والمثقفين الثوريين والرأسمالية الوطنية غير المستغِلة..
2- القوى المضادة: الإستعمار والصهيونية والإقطاع والرأسمالية والإقليمية والدكتاتورية والطائفية والعنصرية وجميع القوى التي لها مصلحة في بقاء التجزئة.
رابعاً- تحديد أداة التغيير: التنظيم السياسي لقوى الشعب العامل بشقيه الشعبي والطليعي، وصولاً إلى الحركة العربية الواحدة، والتحالف الواسع للقوى الوطنية والقومية التي تؤمن بوحدة الأمة العربية وحقها في تقرير المصير القومي في إطار دولة عربية واحدة.
خامساً- أسلوب التغيير: الثورة العربية الواحدة الشاملة التي يمكن تحقيقها وفق الأساليب الثورية، أو الديمقراطية المتاحة التي تطرحها خصوصية كل ساحة عربية.
سادساً- تحديد الحل الجذري للمشكلات: والحل يُمثّل أهداف النظرية السياسية الناصرية، المحددة في الميثاق الناصري: الحرية والإشتراكية والوحدة، وفق التفصيل الاتي:
1-الحرية والتحرر والديمقراطية في مواجهة الإستعمار والصهيونية والدكتاتورية والقمع والتمييز بكل إشكاله: حرية الوطن وحرية المواطن بكافة صورهما السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وكفالة إحترام الحقوق والحريات العامة والخاصة، وما يترتب على ذلك من إلتزام في تحرير الأراضي العربية المحتلة في فلسطين والأحواز والجزر العربية الثلاث والإسكندرون وسبتة ومليلية.
2-الإشتراكية والعدالة الإجتماعية، في مواجهة التخلف وأبعاده: إقامة مجتمع الكفاية والعدل، الكفاية في الإنتاج والعدالة في التوزيع.
3-الوحدة في مواجهة التجزئة والإقليمية: عودة الأمر الطبيعي لأمة واحدة، من خلال الدعوة الجماهيرية والعمل السلمي ثم الإجماع الشعبي تتويجا للدعوة والعمل.. أي بناء دولة الوحدة الإشتراكية الديمقراطية.
4- التحديث في مواجهة تحديات العلم والتكنلوجيا: التنمية البشرية والمادية والعلمية والتكنولوجية.
سابعاً- البعد الإنساني: العمل من أجل السلام والتعاون الدولي، ورفض كلّ أشكال الإستعمار والهيمنة والتمييز، ودعم حق الأمم والشعوب في تقرير المصير القومي وإختيار النظام السياسي والإقتصادي والإجتماعي الذي يتلائم مع خصوصيتها.
وفي إطار تعريف الناصرية الذي قدّمناه وبيان مفرداتها يتبين لنا، أنّها نظرية ثورية ذات طابع قومي وإجتماعي وإنساني، بأبعاد ثلاثة: نظرية نقدية للإستعمار والرأسمالية والهيمنة الأجنبية على المستوى الدولي والتجزئة والتخلف والتبعية على المستوى الوطني والعربي، ونظرية معيارية قيمية حيث تطرح نموذجا للعدالة الإجتماعية والسياسية والمساواة على الصعد الوطنية والقومية والدولية، ونظرية قومية تركز على الهوية والوحدة العربية في إطار دولة عربية واحدة إشتراكية وديمقراطية.. ومن مواصفات الناصرية التي يجب التركيز عليها، إنّها ليست نظرية أيديولوجية جامدة، بل هي نظرية ثورية لتغيير الواقع العربي وطنيا وقوميا، والواقع بحكم قوانينه الموضوعية متغير، لذلك فإنها لا يمكن أن تكون قوالب فكرية جامدة، وإنما هي فكر مفتوح يستجيب للظروف المتغيرة التي يجابهها النضال العربي يأخذ منها ويُعطيها، وقابل للتطور وفق ضابط الثوابت والمتغيرات، خصوصا ما تعلّق بالمتغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم مع الالفية الثالثة التي تتطلب الإلتزام والصلابة في المنطلقات والمبادئ والأهداف، والمرونة في الوسائل والتكتيك والخطاب عبر إيجاد الأساليب المسايرة لإتجاه التطور العام والمتلائمة مع طبيعة العالم المتغيرة دون الإلتزام بأية قوانين جرت صياغتها في القرون السابقة كما يؤكد الميثاق الناصري.
ب- النظرية السياسية الماركسية: على غرار النظرية السياسية الناصرية، تنتمي النظرية السياسية الماركسية في التصنيف المعرفي إلى النظريات الثورية ببعديها النقدي والمعياري ، حيث تقدم فهماً ونقداً لواقع محدد وتطرح بديلاً شاملاً له، وفي هذا الإطار يمكن وضع تعريف إطاري للنظرية الماركسية، بأنّها: نظرية سياسية مادية ذات أبعاد فلسفية وسياسية وإقتصادية وإجتماعية وضع أسسها كارل ماركس وفريدريك إنجلز، ترى أن التغيير الإجتماعي والتاريخي هو نتاج الصراع الطبقي بين الطبقة البرجوازية الرأسمالية وطبقة العمال (البروليتاريا) بهدف الوصول إلى مجتمع شيوعي تنتفي فيه الدولة والملكية الخاصة والطبقات".. ومن خلال تفكيك هذا التعريف إلى عتاصره الأساسية، يتبين أنّه يتضمّن ثلاثة أبعاد مترابطة تُشكِّل أسس النظرية الماركسية لفهم الواقع ونقده، وهي:
1. المادية الفلسفية: تُمثّل الأساس الفلسفي العام للماركسية، وتنطلق من أنّ الوجود المادي يسبق الفكر، والفكر هو انعكاس للوجود المادي، أيّ أن المادة هي الأصل بينما الوعي والفكر هما نتاج الظروف المادية، ولا وجود لواقع روحي مستقل عن المادة، لذلك فإنّ العالم موضوعي ولا يمكن إدراكه إلاّ من خلال العلم والتجربة،
2. المادية الجدلية: طريقة لفهم حركة الواقع وتطوره، ترى أنّ كل الظواهر مترابطة ومتغيرة، وأنّ الواقع(العالم) في حالة حركة وصراع دائم ويتطور عبر صراعات وتناقضات داخلية تحكمها قوانين مادية الواقع، وهذه التناقضات هي القوة الدافعة للتغيير (مثل تناقض العمال ورأس المال)، لكنّ التغيير لا يحدث تدريجيًا فقط، بل عبر قفزات نوعية نتيجة تراكم كمي.
3. المادية التاريخية: هي تطبيق للمادية الجدلية على المجتمع والتاريخ، إذ تؤكد بأنّ تطور المجتمعات تحكمه البنية الإقتصادية وصراع الطبقات، حيث تُحدّد القوى المادية (وسائل الإنتاج + علاقات الإنتاج) شكل المجتمع، لذلك فإنّ تطور التاريخ يمرّ عبر صراع الطبقات الناتج عن التناقضات الإقتصادية في كل مرحلة تاريخية وهي التي تُنتج البنية الإجتماعية والفكرية والثقافية بما يتناسب مع مصالح الطبقة المسيطرة، وعندما يتحقق تناقض القوى المنتجة مع علاقات الإنتاج يحدث التحول الثوري.
ويتبين من هذا التعريف للماركسية أن أسسها مترابطة، فالمادية الفلسفية ترى أن الواقع مادي، وتتولى المادية الجدلية بيان كيف يتحرك ويتطور هذا الواقع المادي عبر التناقض في داخله، فيما تُطبق المادية التاريخية هذه الحركة الجدلية على تطور المجتمعات وصراع الطبقات عبر مراحلها التي تمرّ بها: نمط المجتمع المشاعي البدائي، النمط العبودي، النمط الإقطاعي، النمط البرجوازي الرأسمالي، النمط الإشتراكي، وأخيراً النمط الشيوعي.

ثانيًا: حدود الاتفاق بين الناصرية والماركسية
هناك نقاط وأرضية مشركة بين الناصرية والماركسية من خلال عدد من الموضوعات الرئيسة، وأهمها:
1 من حيث التصنيف والإلتزام الاجتماعي: كلا النظريتين ينتميان إلى الفضاء اليساري، بما يعني الإيمان بالتغيير والتقدم والإنحياز إلى الطبقات الفقيرة والكادحة التي تمثل الغالبية المحركة والمنتجة، وإلى جانب الأمم والشعوب التي تعاني من الإستعمار والهيمنة.
2 ومن حيث التصنيف المعرفي: ينتمي كلّ من النظرية السياسة الناصرية والنظرية الماركسية، إلى النظريات الثورية، بجانبيها النقدية الإشتراكية والمعيارية القيمية، حيث يقدم كل منهما نقداً للواقع الذي يتحركان من خلاله ويطرحان بديلا سياسيا قيميا لهذا الواقع، الواقع العربي بمظاهر التجزئة والتخلف والتبعية الإستعمارية التي تعاني منها الأمة العربية، وبديله الدولة العربية الإشتراكية الديمقراطية الواحدة بالنسبة للناصرية، والواقع العالمي الرأسمالي الغربي وإمبرياليته الإستغلالية المهيمنة وبديله الدولة الإشتراكية وصولا إلى الشيوعية بالنسبة للماركسية. فكلاهما ينصب نقدهما بشكل أساس على الإستعمار والرأسمالية ويطرحان الدولة الإشتراكية بديلا، لكنها يختلفان بعد ذلك في مضمون وحدود ومعايير هذه الدولة، كما تتبين عند تناول الإختلاف بين النظريتين.
3 معاداة الرأسمالية الغربية ودعم حركات التحرر الوطني: النظريتان الناصرية والماركسية تعتبران النظم الرأسمالية الغربية مشاريعاً إستعمارية للنهب والإستغلال والسيطرة والهيمنة، ويقدّمان نقداً شبه مشترك لمنظومة السوق الحر التي تنتج التفاوت الإجتماعي والاستغلال. وما يترتب على ذلك من مسؤولية سياسية وأخلاقية وإنسانية تتمثّل بضرورة دعم حركات التحرر الوطني العالمية، خصوصاً في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ودعم الحركات الشعبية في الدول الغربية التي تناهض الإستعمار والهيمنة.
4 الدعوة والعمل من أجل العدالة الاجتماعية: نقد الواقع الإستغلالي عربيا وعالميا المتمثل بسوء توزيع الثروة، قاد النظرية السياسية الناصرية والنظرية الماركسية إلى الدعوة والعمل من أجل تطبيق العدالة الاجتماعية بما يؤمن توزيعاً أكثر عدالة للثروة لصالح الطبقات الفقيرة والكادحة خصوصا الفلاحين والعمال، ومن أبرز تطبيقات العدالة الاجتماعية في النظريتين، هو التأميم لمفاصل الهيمنة والإستغلال كأداة لتحرير الاقتصاد والمواطنين معا، مع الفارق بين حدود الرؤيتين الناصرية والماركسية لهذا التأميم.
5 دور الدولة: كلا النظريتين ترفضان مفهوم الدولة الحارسة في النظرية الليبرالية الرأسمالية، ويعطيان الدولة دوراً رئيسا في عملية التغيير السياسي والإجتماعي والإقتصادي، من خلال القطاع العام وخطط التنمية الإقتصادية والبشرية.
ثالثاً- محاور الإختلاف بين الناصرية والماركسية
على الرغم من أنّ النظرية السياسية الناصرية والنظرية السياسية الماركسية، يلتقيان في حدود نقاط مشتركة من حيث الإطار العام، إلاّ أنّ الإختلاف الفكري والمنهجي بينهما كان جوهرياً في المحاور العقدية والفلسفية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، ومن أهمها:
1- مصادر النظريتين الناصرية والماركسية
تختلف النظريتان من حيث المصادر التي إستقتا منها مضمونهما الفكري والحركي، وكما يأتي:
أ‌. مصادر النظرية السياسية الناصرية:
تستند النظرية السياسية الناصرية إلى مجموعة من المصادر الفكرية والتجارب العملية التي تفاعلت مع الواقع المصري والعربي في منتصف القرن العشرين. ويمكن تلخيص أهمّها وفق المحاور التالية:
1 التنشئة الإجتماعية والسياسية والعسكرية لجمال عبد الناصر: ينتمي جمال عبد الناصر الى قبيلة عربية هي بني مر وأسرة عربية مصرية من الطبقة المتوسطة الصغيرة، وهو أمر يؤكد أن هذا الإنتماء قد زوّده بالأصالة والقيم العربية مبكراً. وكانت قراءاته السياسية والعسكرية للكتب والتفاعلات السياسية في مصر والأمة العربية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وبينهما، ونشاطه السياسي المبكر منذ عام 1933 الذي شهد أول صدام له مع السلطة الملكية، والتظاهرات التي إشترك فيها خصوصاً ضد وعد بلفور، كرّسا ملامح وعيه المبكر بالترابط القومي الإستراتيجي للوطن العربي الذي أكّدته تجربته العسكرية ومرارة نكبة 1948 العربية في فلسطين. هذا الإنتماء العربي الأصيل والتجربة المعرفية والسياسية والعسكرية، هي الأرضية التي إستخلص منها عبد الناصر النواة الأولى للنظرية السياسية الناصرية.
2 الإسلام الحنيف: مثّل الإسلام الحنيف في النظرية السياسية الناصرية إيمانا ومرجعية روحية وحضارية وثقافية تتكامل مع أهداف التنمية والعدالة الإجتماعية، وإستخدام التاريخ الإسلامي ورموزه التاريخية لتعزيز الوحدة الوطنية والروحية والأخلاقية. كما مثّل الإسلام مكونًا أساسيًا من مكونات هوية الأمة العربية، من خلال التأكيد على القيم الإسلامية مثل العدل، المساواة، والتكافل. ورفض التطرف الديني وإستغلال الدين في السياسة، وإحترام الإيمان كعنصر روحي مهم في تشكيل الضمير الفردي والجماعي. ولم تر النظرية السياسية الناصرية أي تعارض بين العلم والدين في إطار رؤية عقلانية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، حيث عرّف عبد الناصر، المعاصرة بأنها التجديد في الأصالة. وقد أكد الميثاق الناصري أن رسالات السماء في جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الانسان وسعادته، ولا تتصادم مع حقائق الحياة وحق الإنسان في الحياة، وإنما ينتج الصادم أحياناً من محاولات الرجعية ان تستغل الدين ضد طبيعته وروحه لعرقلة التقدم بإفتعال تفسيرات وتأويلات تتصادم مع حكمته الإلهية السامية، وان الدين الإسلامي هو ضد الظلم الاجتماعي وضد الإستعمار والهيمنة، لذلك كان الإسلام أول ثورة إشتراكية طبقت مبادئ العدالة والمساواة.
3 التجربة الوطنية المصرية: كانت التجربة الوطنية المصرية أحد الروافد الأساسية للنظرية السياسية الناصرية، التي رسّخت مفاهيم الإستقلال الوطني والسيادة الشعبية، والنضال ضد الإحتلال البريطاني والملكية، مضافاً إليها خبرة حركة الضباط الأحرار (1952) التي حقّقت إنحيازاً مبكراً للجيش إلى جانب الشعب في مواجهة تحالف الإستعمار والملكية والإقطاع والرأسمالية. وقد تأثر عبد الناصر بالتراث الثقافي والتاريخي لمصر، خاصة فترات القوة والاستقلال، التي كانت مصدر فخر وطني وساعد في بناء الهوية الوطنية المرتبطة بتاريخ مصر العريق وهويتها العربية وثورات عرابي 1882 وثورة 1919 بإيجابياتها وسلبياتها. رسخت هذه التجربة في رؤية عبد الناصر والناصرية بعد ذلك، الإستقلال الوطني، والهوية العربية لمصر، والإنحياز الاجتماعي المبكر للفلاحين والعمال الذين رأى وأحس بالظلم الإجتماعي الواقع عليهم من الإقطاع والرأسمالية، وكذلك الظلم السياسي من الملكية وأحزابها التقليدية.
4 الفكر القومي العربي: كان الفكر القومي العربي من أهم المصادر التي إستقى منها عبد الناصر رؤيته السياسية، بل إن القومية العربية كانت نقطة إنطلاق البناء الفكري للنظرية السياسية الناصرية، حيث بدأ الوعي العربي عنده مبكراً وهو يشترك في مظاهرات الطلبة سنوياً في ذكرى وعد بلفور حتى قبل تشكيل الكيان الصهيوني، وعند تدريسه الإستراتيجية في الكلية الحربية حيث ترسخت لديه القناعة بأن الوطن العربي وحدة إستراتيجية واحدة، أرضا وشعباً ومصيراً، ثم كانت نكبة فلسطين في عام 1948 التي عمّقت هذا الوعي العربي، مضافاً إلى ذلك تأثره بحركات التحرر العربية والرغبة في توحيد الأمة العربية لمواجهة الاستعمار والهيمنة الأجنبية ولتحقيق القوة السياسية والاقتصادية للعرب. كلّ ذلك إنعكس في إيمان عبد الناصر بوحدة الأمة العربية لغةً وتاريخاً ومصيراً، ورفض الإنقسامات الطائفية والقبلية، وما يترتب على ذلك من السعي الحثيث بإتجاه الوحدة العربية كشرط رئيس للتحرر والقوة والتنمية والتقدم الذي لا يمكن بناءه على التجزئة.. وكان تأثير العسكريين والمفكرين القوميين المصريين والعرب، أمثال عزيز علي المصري وساطع الحصري وقسطنطين زريق اساسياً في تعميق الوعي القومي العربي عند عبد الناصر. لذلك أكد عبد الناصر في فلسفة الثورة في معرض تحديد دوائر الهوية والإنتماء، على أن الدائرة العربية هي أهم الدوائر وأوثقها إرتباطاً بنا وإمتزاجاً معنا في التاريخ والمحن والأزمات والروابط القومية والمادية والروحية، وتأكيداً لذلك بلور الميثاق الناصري هذا الإنتماء في تأكيد أن الأمة العربية لم تعد بحاجة لإثبات حقيقة الوحدة بين شعوبها، فيكفي الأمة العربية أنها تملك وحدة اللغة التي تصنع وحدة الفكر والعقل، ووحدة التاريخ التي تصنع وحدة الضمير والوجدان، ووحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل والمصير.. وكانت تجربة إقامة الجمهورية العربية المتحدة (1958) تجسيدًا عمليًا لفكرة الوحدة القومية كما آمن بها جمال عبد الناصر، وكان فشلها مدعاة لوضع أسس وخطوات عملية لتحقيق الوحدة العربية، في الميثاق الناصري، من خلال ثلاثية الدعوة الجماهيرية للوحدة، والعمل السلمي من اجل تقريبها، ثم الإجماع الشعبي على قبولها تتويجاُ للدعوة والعمل معا. ولذلك كله كانت وحدة الوجود القومي للأمة العربية منطلق النظرية السياسية الناصرية في تحديد غاياتها ووسائلها وأساليبها.
5 الخيار الإشتراكي: إن تحليل عبد الناصر للواقع المصري والعربي خصوصاً ما تعلق بمعاناة غالبيته الساحقة من العمال والفلاحين وقضايا الإستعمار والتخلف، وفهمه للمشكلات والحلول الموضوعية لها، دفع عبد الناصر إلى تبنى مبادئ الاشتراكية كأداة ونظام إقتصادي وإجتماعي لتحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بشكل أكثر عدالة وإنصافاً لتقليل الفوارق بين الطبقات، متأثراً بالفكر الإشتراكي العالمي بما يتناسب مع خصوصية الواقع المصري والعربي، وإرتباطاً بالهوية والقيم العربية الإجتماعية والروحية، ورفض الرأسمالية والاستغلال الطبقي. مؤكداً في الميثاق الناصري بأن الحل الإشتراكي لمشكلة التخلف الاقتصادي والإجتماعي وصولا ثورياً إلى التقدم لم يكن إفتراضاً قائما على الإنتقاء الإختياري وإنما حتمية تاريخية فرضها الواقع، وفرضتها الآمال العريضة للجماهير، كما فرضتها الظروف المتغيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، ومحددا الإشتراكية بالكفاية في الإنتاج من خلال تجميع المدخرات الوطنية ووضع خبرات العلم الحديث في خدم إستثمارها ووضع تخطيط شامل لعملية الإنتاج، وفي جانب العدالة في التوزيع من خلال وضع برامج شاملة للعمل الاجتماعي تعود بخيراته للجموع الشعبية العاملة وتصنع لها مجتمع الرفاهية الذي تتطلع إليه. لذلك كانت الإشتراكية في صلب النظرية السياسية الناصرية كهدف إستراتيجي رئيسي وطنياً وقومياً، ووسيلة لمغالبة التخلف وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.
6 . الثورات والتحرر الوطني العالمية: كانت حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وحركة عدم الإنحياز أحد مصادر النظرية السياسية الناصرية، حيث استلهم عبد الناصر من تجارب هذه الحركات القدرة على التحرر من الإستعمار والبناء الوطني، وضرورة دعم حركات التحرر، معتبراً هذه الثورات والحركات نموذجًا يحتذى به في بناء دولة حديثة ذات سيادة. وكانت أبرز تجليات هذا الاستلهام تأسيس حركة عدم الإنحياز التي كان عبد الناصر أحد مؤسسيها إلى جانب نهرو وتيتو.
7 الواقع الدولي في ظل الحرب الباردة: عاش جمال عبد الناصر فترة الحرب الباردة كاملة، وحاول الإستفادة من التوازن الدولي بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، متبنياً سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والتعاون مع المعسكر الاشتراكي دون التفريط بالسيادة الوطنية والقرار السياسي المستقل. وقد تبنى نسبياً الواقعية السياسية وفق مقاربة عملية تجمع بين القومية والإشتراكية وبين المبادئ الثورية والضرورات السياسية والدبلوماسية، والتحدّي والمرونة، لتحقيق الأهداف الوطنية والقومية، والتعامل مع القضايا العربية الكبرى، كالحرب والسلام، وفق المصالح العربية دون إفراط وتفريط، مع مراعاة الظروف المحلية والدولية. وقد أسست النظرية السياسية الناصرية رؤيتها للواقع الدولي على المتغيرات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، التي حدّدها الميثاق الناصري: بتعاظم قوة الحركات الوطنية في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، وظهور المعسكر الشيوعي، والتقدم العلمي الهائل في وسائل الإنتاج وأسلحة الحرب ومخاطرها ووسائل المواصلات، وزيادة تأثير القوى المعنوية في العالم وفي مقدمتها الأمم المتحدة والدول غير المنحازة والراي العام العالمي، ولجوء الإستعمار إلى وسائل العمل غير المباشرة عن طريق غزو الشعوب والسيطرة عليها من الداخل، وفي ضوء ذلك وضع الميثاق الناصري ثلاثة خطوط عميقة في السياسة الخارجية: الحرب ضد الإستعمار والسيطرة، والعمل من أجل السلام، والتعاون الدولي من أجل الرخاء المشترك للأمم و الشعوب كافة.
8 الخطاب الناصري وتجربته الثورية: جميع المصادر الأساسية أعلاه، تجسّدـت في خطابات عبد الناصر وندواته ومقابلاته ومؤتمراته، وإسهاماته الفكرية الأساسية المتمثلة بوثائق: فلسفة الثورة، والميثاق الوطني (1962)، وبيان 30 مارس، التي تُعد المرجع الأساسي للنظرية الناصرية وخلاصة التجربة الثورية الناصرية التي جمعت بين الفكر والممارسة، مضافاً إليها مساهمات المفكرين الناصريين والتنظيمات الناصرية على إمتداد الوطن العربي.
يتبين مما سبق أن النظرية السياسية الناصرية ليست نظرية مجردة، وإنّما هي نظرية سياسية ثورية عملية تشكّلت من مصادر وروافد محددة، جمعت بين التحرر والاستقلال الوطني والقومية العربية والعدالة الاجتماعية والإسلام والتجربة الثورية والواقع الدولي.
ب‌. مصادر النظرية السياسية الماركسية :
تعود إلى عدة منابع فكرية وتاريخية رئيسية، ويمكن تلخيصها في المحاور الآتية:
1- الفلسفة الألمانية: استمد ماركس من هيغل الالماني المنهج الجدلي (الديالكتيك)، لكنه حوّله من مثالي إلى مادي، كما تأثر بفلسفة فيورباخ ونقده المادي للدين ، وهو ما أفرز المادية الجدلية.
2- الاقتصاد السياسي الإنكليزي: خاصة أعمال آدم سميث وديفيد ريكاردو، حيث إستفاد ماركس من نظرية القيمة والعمل وتحليل آليات السوق والرأسمالية ثم طوّرها بنقد جذري أدى إلى مفاهيم مثل: فائض القيمة والاستغلال الطبقي
3- الإشتراكية الفرنسية إستفاد ماركس من نقد سان سيمون وفورييه وروبرت أوين للأوضاع الاجتماعية الرأسمالية، ودعوتهم إلى العدالة والمساواة، وفي ذات الوقت إنتقد ما سمّاه إفتقارهم للأساس العلمي لفهم الصراع الطبقي ودوره التاريخي في تطور المجتمعات.
4- الواقع التاريخي والإجتماعي للقرن التاسع عشر: فقد شهد هذا القرن الثورة الصناعية وصعود الطبقة العاملة (البروليتاريا)، بموازاة بؤس العمال في أوروبا. وقد شكّل هذا الواقع الأساس العملي لنظريته حول: الصراع الطبقي كمحرك للتغيير الثوري.
5- التجربة السياسية لماركس وإنجلز: كان النشاط الحزبي والعمل في الصحافة الثورية والاحتكاك بالحركات العمالية، دوره الأساس في صياغة النظرية الماركسية، التي كان أبرز نتائجها كتاب رأس المال لماركس والبيان الشيوعي (1848).
يظهر مما سبق أن النظرية السياسية الماركسية هي حصيلة تفاعل بين الفلسفة الألمانية الجدلية والاقتصاد السياسي الإنكليزي والاشتراكية الفرنسية والواقع التاريخي في القرن التاسع عشر.
2- السياق الثقافي والحضاري والتاريخي
نشأت الناصرية في سياق بيئة وطنية وقومية عربية وإسلامية وعالمية، تعاني من آثار ونتائج إستعمار وإحتلال سابق وواقع، من الاحتلال العثماني التركي وإلى الاحتلال الأوربي الغربي، وما تركاه من تخلف وإستغلال وتجزئة سياسية وبنى إجتماعية وإقتصادية تقليدية كانت تعاني منه مصر والأمة العربية، وبيئة دولية كانت تشهد حركات تحرر وطني في مواجهة إستعمار قديم وجديد، وعلاقات دولية صراعية كانت الحرب الباردة أبرز تجلياتها ، ما فرض على النظرية السياسية الناصرية أن تكون إنعكاساً لهذا الواقع وأن تتداخل فيها المنطلقات والأهداف والوسائل السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية.. بينما نشأت الماركسية في سياق بيئة حضارية وثقافية أوربية صناعية، وما تركه من صراع طبقي وإستغلال واضح، بين الرأسمالية والطبقات المُستغَلة وفي مقدمتها العمال، وبالتالي كانت النظرية السياسية الماركسية إنعكاساً لهذه البيئة في تحليلها للواقع وأهدافها ورؤيتها المادية الجدلية للتاريخ وتطور المجتمعات.
3- الموقف العقدي والفلسفي:
يُمكن بيان الإختلاف في الموقف العقدي والفلسفي بين الناصرية والماركسية، من خلال المحاور الأساسية الآتية:
أ‌. الموقف من الدين: تؤمن الناصرية بالله سبحانه وتعالى والأديان السماوية وفي مقدمتها الإسلام والبعد الغيبي للوجود، وأن الله عزّ وجل هو الخالق ومصدر كل شيء، والإيمان بقصة الخلق كما وردت في القرآن الكريم والكتب السماوية، حيث كانت بداية البشرية مع الخلق الإلهي لآدم وحواء، ومنهما تفرّعت الإنسانية. هذا الموقف الإيماني مؤسس على رفض الإلحاد جملةً وتفصيلاً، والإعتقاد بالوحي السماوي، إطاراً روحيًا ومعنويًا وحضارياً وثقافياً للوجود. وبذلك فإنّ الناصرية قد تبنّت تصورًا روحانيًا واقعيًا للوجود: الله هو الخالق للإنسان، والإنسان خليفته في الأرض الذي وكرّمه بإعمارها، والتاريخ هو ساحة فعل للإنسان لممارسة حريته ومسؤوليته. ويظهر ذلك واضحا في الخطابات المتكررة لجمال عبد الناصر الذي أكّد فيها أنّ الإسلام مصدر أساسي للهوية والقيم الروحية والأخلاقية، وانّه أول ثورة إشتراكية في تطبيق العدالة والمساواة بين البشر، مستخدماً القيم الإسلامية لتعزيز الوحدة الوطنية، وتأكيد الهوية المصرية العربية، والتوفيق بين الدين والتحديث. وتأكيداً لهذا الموقف تضمّنت المادة الأولى من شروط العضوية في الاتحاد الإشتراكي العربي على أن يكون العضو مؤمنا بالله وملائكته ورسله وفي مقدمتها الإسلام، كما أكّد الميثاق على أنّ من ضمانات العمل الشعبي إيمان لا يتزعزع بالله وبرسله ورسالاته القدسية التي بعثها بالحق والهدى إلى الإنسان في كل زمان ومكان".. أمّا الماركسية فقد تبنّت موقفا نقدياً من الدين على أساس أنّه ظاهرة اجتماعية نتاج للإستغلال والقمع وأداة لتكريس الهيمنة الطبقية البرجوازية، وأنّه "أفيون الشعوب" الذي يخفي التناقضات الطبقية ويخدر العمال ويقدم لهم عزاءً وهمياً في الحياة الآخرة بديلاً عن مواجهة ظروفهم المادية القاسية، ولا تفضل الماركسية محاربة الدين بالقوة، بل القضاء على الظروف الإقتصادية والإجتماعية التي تنتجه، وتحويل "نقد السماء" إلى "نقد الأرض"، مع ضرورة الصراع الأيديولوجي ضد ما تُسميه الأوهام الدينية وتدعو الناس إلى التخلي عنها والإنخراط في نضال عملي لتحقيق السعادة والحرية المادية على الأرض.
ب‌. الموقف من العلمانية: موضوع العلمانية كان وما يزال موضع خلاف وإتهام بين التيارات السياسية، وفي هذا لإطار فإنّ الناصرية تؤمن بأنّه لا يمكن الفصل المطلق بين الدين والدولة، لأن الدين جزء من النسيج والهوية والقيم الروحية والأخلاقية للأمة العربية، وبالتالي ترفض العلمانية بمفهومها الغربي التي تفصل الدين عن الدولة وتقصيه عن الحياة العامة، ولكنها في نفس الوقت تسعى لحل يتجاوز الثيوقراطية أي حكم رجال الدين، مع التأكيد على أهمية الإسلام كدين للدولة متضمناً مبادئ الشورى والعدل والمساواة في إطار تفسير إشتراكي للإسلام، وترى أن العلمانية الحقيقية هي فصل رجال الدين عن الدولة في إطار واجبهم الروحي، لأن تدخلهم في السياسة سيُفضي إلى تشوية الدين بربطه بقواعد السياسة القائمة على المصالح والمواقف المتغيرة، وتشويه السياسة بربطها بالمقدس وبالتالي تعطيل لمصالح الناس.. بينما ترى الماركسية أنّ العلمانية ضرورة لتحرير الإنسان من أغلال الدين، الذي يُستخدم أداة للسيطرة الطبقية، لذلك تتبنى علمانية جذرية تؤكد على ضرورة فصل الدين عن الدولة، لتصبح العلاقة بينهما شأناً شخصياً، مع ضمان حرية ممارسة الدين أو عدم ممارسته، وترى في العلمانية الحقيقية هي تحرير للعقل من الغيبيات والقيود الخارجية، عبر تغيير الواقع الاجتماعي.
ت‌. الموقف من سؤال الفلسفة الأساسي: أيّهما الأسبق الفكر أم المادة؟ هذا هو سؤال الفلسفة الأساسي الذي قسّم الفلاسفة معرفياً إلى، مثاليين يقدّمون الفكر وتجلياته المتمثلة بالوعي والعقل والروح وغير ذلك، وماديين يقدّمون المادة وتجسيداتها المتمثلة بالواقع المادي والطبيعة والجسد وغيرها. في مواجهة هذا السؤال الفلسفي، تبنّت الناصرية موقفاً فلسفياً رافضاً لهذا الإستقطاب الثنائي المتعسف، في تأكيدها أن الإنسان وحدة متكاملة من المادة والفكر أو الذكاء، لا يمكن الفصل بينهما أو تغليب أحدهما على الآخر، معتبرة الإنسان هو الأساس والمحرّك الفعلي للتاريخ، بوعيه وممارسته، وليس الفكر أو المادة وحدهما، لذلك فهي ترفض أن ترى في الأفكار المجرّدة وحدها محركاً للتاريخ كما عند المثاليين ومثالهم الأبرز(الليبرالية)، بنفس رفضها للمادة وحدها محركاً للتاريخ كما عند الماديين(ومثالها الماركسية)، وترى أن الإنسان ليس مجرد تابع للظروف، بل هو فاعل تاريخي حر، ومسؤول عن صنع مصيره شرط أن يدرك قوانين الواقع الموضوعية، كما ترفض الحتمية في التاريخ وتؤكد أنّه قابل للتغيير بالفعل الإنساني الواعي، حيث تُشكل المادة الظروف المحيطة بالإنسان، والفكر يمنحه القدرة على الوعي والتفاعل مع هذه الظروف. هذه العلاقة الجدلية تجعل الإنسان لا يقف موقف المتلقي فقط، بل هو فاعل ومنتج للتاريخ. وفي إطار هذا الموقف يؤكد جمال عبد الناصر: " إن النصر حركة، والحركة عمل، والعمل فكر، والفكر فهم وإيمان، وهكذا كل شيء يبدأ بالإنسان"، لذلك ركزت الناصرية على الإصلاح الزراعي، التعليم، والتنمية الصناعية بهدف تحسين الظروف المادية للإنسان، وفي الوقت نفسه تعزيز وعيه السياسي والإجتماعي. ما يعني أنّ الناصرية تعتبر أن بناء الإنسان هو بناء للوطن، والإنسان الواعي هو من يغير الواقع ويقود التاريخ.. أما الماركسية فلا تعترف للإنسان بأي دور في قيادة التطور في نطاق تأثيره وتأثره بالواقع المادي، بل ترى أسبقية المادة (الطبيعة، الوجود المادي، الظروف الاقتصادية والاجتماعية) هي الأصل الأول للوجود، وليست الفكرة أو الوعي. وما الفكر والوعي إلا انعكاس للظروف المادية التي يعيشها الإنسان، فقد أكّد ماركس على أنّه: "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم". وقد قدّمت الماركسية نقداً للفلسفة المثالية التي ترى أن الفكرة أو الروح هي الأساس، وتؤكد أن هذا الموقف يقلب العلاقة الصحيحة بين الوعي والوجود، وإستخدمت المادية الجدلية والتاريخية لتفسير تطور التاريخ، بتأكيدها على أنّ صراع الطبقات القائم على علاقات الإنتاج المادية هو المحرك الأساسي للتغيير، وأن تطور المادة، كالتقنية والاقتصاد، هو ما يقود التطور الإجتماعي.
ث‌. الفلسفة السياسية: في رؤية الدولة والمجتمع لا تؤمن الناصرية بالدولة الحارسة كما هي لدى الليبرالية، كما لا تؤمن بأن الدولة سينتفي وجودها عند تحقق المجتمع الشيوعي كما تعتقد الماركسية، وإنّما تؤمن بالدولة الفاعلة في خدمة العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة والتنمية، وترى أن الحرية هي حرية الوطن والمواطن معاً، وأنهما مرتبطان بالعدالة السياسية والإجتماعية، أي الديمقراطية التي تعني الحرية السياسية والإشتراكية التي تعني الحرية الاجتماعية ولا يمكن الفصل بينهما فهما جناحا الحرية الحقيقية، كما يؤكد على هذا الميثاق الناصري، لذلك تسعى الناصرية إلى إقامة توازن بين حرية الفرد وحقوق المجتمع، فوفقاً للميثاق الناصري: "ان الإنسان الحر هو أساس المجتمع الحر"، وترى في الإستعمار والهيمنة الرأسمالية تهديدًا وجوديًا واقعاً، لذلك تدعو إلى تحرر سياسي وثقافي واقتصادي كامل للأمة العربية.. أمّا موقف الفلسفة السياسية الماركسية فإنّها تفسر السياسة والنظام السياسي من خلال البنية الاقتصادية والصراع الطبقي بين مالكي وسائل الإنتاج والعمال، معتبرة الدولة مجرد أداة بيد الطبقة البرجوازية الحاكمة لحماية مصالحها الاقتصادية، وأنّ الفرد جزء من طبقة إجتماعية، وسلوكه تحدده البنية الإقتصادية للمجتمع، لذلك ترتبط الحرية بالعدالة الإقتصادية؛ أي تحرير الإنسان من الإستغلال عبر إعادة توزيع الثروة وإلغاء الطبقات الاجتماعية، وتعتقد أن الدولة ستتلاشى مع تحقق المجتمع الشيوعي.
4- الموقف من الإشتراكية
تبنّت النظرية السياسية الناصرية موقفا محدّدا من الإشتراكية في إطار وطني وقومي عربي، أي قومية إشتراكية ترفض إستغلال الإنسان للإنسان، ووضع نظرية متكاملة في الميثاق الناصري حول مفهوم ومضمون الإشتراكية المتمثلة بإقامة مجتمع الكفاية في الإنتاج والعدالة في التوزيع، مجتمع العمل وتكافؤ الفرص، مجتمع الإنتاج والخدمات. وقد ربط عبد الناصر الاشتراكية بالتحرر الوطني، واعتبرها وسيلة لإنهاء الإستغلال الإقتصادي عبر تأميم الموارد الطبيعية والصناعات الكبرى، والإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي الزراعية وتأميم شركات كبرى مثل قناة السويس، والإصلاح الزراعي لتوزيع الأراضي على الفلاحين، ودور الدولة القيادي في الإقتصاد. وقد رفضت النظرية الناصرية الاشتراكية الماركسية التي تركز على الصراع الطبقي الحاد، ورفضت في نفس الوقت ان تكون الإشتراكية مجرد تطبيق مرحلي، كما رفضت الشيوعية معتبرة أنها مجرد يوتوبيا خيالية، وتمثل تجاهلاً متعسفاً للصراع والجدلية والتغير في الحياة البشرية ودور الإنسان الفاعل في التاريخ، ودور الأديان السماوية وفي مقدمتها الإسلام في رسم ملامح الحضارة الروحية والإنسانية والقيمية للبشر.. بينما ترى الماركسية أنّ الاشتراكية مرحلة إنتقالية حتمية بعد الرأسمالية وليست نهاية المطاف، حيث تُسيطر الطبقة العاملة على وسائل الإنتاج، التي تصبح ملكية جماعية عبر الدولة أو التعاونيات بدلاً من الملكية الخاصة، وتُوجه الإنتاج للإستخدام وإشباع الحاجات لا الربح مع إلغاء قانون القيمة السوقي، وتوزيع الموارد كل حسب عمله، قبل الانتقال إلى الشيوعية الكاملة بلا طبقات أو دولة. وتؤكد الماركسية على ضرورة الثورة البروليتارية لتحقيق الإشتراكية عبر الإستيلاء الثوري على السلطة من قبل البروليتاريا والإطاحة بالدولة البرجوازية وإقامة "ديكتاتورية البروليتاريا" المؤقتة لإدارة الانتقال إلى المرحلة النهائية، مجتمع بلا دولة وطبقات، وتكون الملكية جماعية بشكل كامل، وتوزيع الموارد "من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته" في إطار المجتمع الشيوعي. ويتبين من الموقفين أنّ الناصرية تتبنى الإشتراكية إستراتيجيا في إطار وطني وقوميً، أمّا الماركسية فتتبنى الإشتراكية تكتيكياً مرحلياً في إطار السعي إلى مجتمع شيوعي.
5- الموقف من الصراع الطبقي
أقرّت الناصرية بوجود ظاهرة الصراع الطبقي في المجتمع المصري والعربي بشكل عام بسبب التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وبين من يملكون ولا يملكون، وبين الطبقة المُستغَلة والطبقة المُسيطرة، لكنها في نفس الوقت لا تعتبر هذا الصراع محرّكاً وحيداً للتاريخ، وسّعت إلى حلّه سلميا عن طريق تذويب الفوارق بين الطبقات وتحالف قوى الشعب العامل في إطار الإتحاد الإشتراكي العربي وتنظيمه الطليعي القائد، وتأكيد دور الدولة في ضمان تحقيق العدالة الاجتماعية.. بينما ترى الماركسية أنّه لا يمكن حلّ الصراع الطبقي سلمياً إلاّ بالثورة الطبقية الحتمية لإسقاط الرأسمالية، وتفكيك الدولة التي ليست سوى أداة بيد الطبقة البرجوازية المسيطرة، مفسرة التاريخ بأنه صراع طبقات مستمر بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج (البرجوازية) والطبقة العاملة (البروليتاريا)، وأنّ هذا الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي للتاريخ، حيث تسعى كل طبقة لتحقيق مصالحها، مما يخلق صراعاً حتمياً مع الطبقات الأخرى حول الموارد، ويؤدي إلى الإستغلال ويُحرك التغيير الاجتماعي، وصولاً إلى ثورة هي النتيجة النهائية للصراع، حيث تطيح البروليتاريا بالبرجوازية وتؤسس مجتمعاً شيوعياً تسود فيه الملكية الجماعية بلا طبقات، يكون فيه العمال هم السلطة الحاكمة بعد الإستيلاء على السلطة السياسية.
6- الموقف من القومية
الناصرية في منطلقاتها وغاياتها هي نظرية قومية عربية، ونقطة إنطلاقها هي القومية العربية مؤكدة بأن الأمة العربية جوهر ووجود تُمثّل أمة واحدة تجمعها وحدة اللغة والتاريخ والأمل والمصير المشترك، وتسعى لتحقيق الوحدة العربية الشاملة. وتعتبر القومية العربية أساس للتحرر من الاستعمار وبناء دولة عربية قوية، لذلك تسعى لتحقيق الوحدة العربية ورفض التجزئة. ومن جهة أخرى ومع أن الناصرية نظرية قومية إلاّ أنها في ذات الوقت نظرية تحررية وإنسانية ترتبط بالإستقلال الوطني ومقاومة الإستعمار والهيمنة الخارجية والصهيونية، وترفض الطائفية والعنصرية. وقد أكّدت الناصرية أن القومية ليست مجرد مرحلة سياسية عابرة بل حقيقة تاريخية ولغوية وثقافية واحدة في إطار وعي الأمة لذاتها كأمة. ومع ان القومية العربية كانت موجودة قبل جمال عبد الناصر لكنه أعطاها بعدا ثوريا واجتماعيا من خلال تطوير مفهوم عربي علمي للإشتراكية كأداة لتحقيق العدالة الإجتماعية داخل الإطار القومي، حيث ربطت الناصرية بين القومية كوعي وإنتماء وإطار والإشتراكية كمضمون إجتماعي وإقتصادي.. بينما تنطلق الماركسية في موقفها من القومية من منظور أممي وطبقي، حيث ترى أن "العمال لا وطن لهم"، وتعتبر القومية نتاجًا تاريخيًا مؤقتًا مرتبطًا بمرحلة الرأسمالية، قد تستخدمها الطبقة البرجوازية لتضليل الطبقة العاملة وإخفاء وتشتيت صراعها الطبقي لصالح مصالح قومية ضيقة، مؤكدة أن الولاء يجب أن يكون للطبقة العمالية وليس للأمة أو الجنس. وفي سياق حركات التحرر الوطني ومع أنها تدعم حق الشعوب في تقرير المصير، فقد إعتبرت الماركسية القومية مجرد "مرحلة تحرر وطني" ضد الإستعمار، لكنها لم تجعل القومية هدفًا لها، متمسكة بهدفها النهائي المتمثل بالثورة الأممية، ما يعني أن القومية في النظرية الماركسية مجرد وسيلة تكتيكية أو عائق أيديولوجي يجب تجاوزه للوصول إلى الوحدة الأممية للعمال في إطار مجتمع شيوعي مفترض بلا طبقات وبلا دولة.
7- الموقف من الملكية الخاصة والإرث الشرعي المترتب عليها
تبنت الناصرية موقفاً واقعياً ومتميزاً تجاه المُلكية، حيث رفضت إلغاء الملكية الخاصة بالكامل (كما في الماركسية) ورفضت أيضاً هيمنتها المطلقة وتراكمها في يد فئة قليلة (كما في الرأسمالية). إذ تعتبر الناصرية أن ملكية الشعب لوسائل الإنتاج التي يُجسدها القطاع العام هي الركيزة الأساسية للتنمية، وما يترتب على ذلك من وجوب سيطرة الدولة، نيابة عن الشعب، على الموارد الإستراتيجية والمصانع الكبرى والبنوك وشركات التأمين لضمان توجيه الدخل القومي للمصلحة العامة. وفي ذات الوقت لا ترفض الناصرية الملكية الخاصة وحق الإرث الشرعي المترتب عليها، كما يؤكد ذلك الميثاق الناصري، وتؤكد على دورها في الإقتصاد، شريطة أن تكون ملكية غير مستغلة وتحت رقابة الشعب، ففي الزراعة مثلاً تم وضع سقف أعلى لملكية الأراضي الزراعية بموجب قوانين الإصلاح الزراعي، بهدف تفتيت الملكيات الكبيرة للإقطاع وتوزيعها على صغار الفلاحين، كما سُمح للنشاط الخاص في الصناعة والتجارة للعمل في مجالات محددة، لكن تحت إشراف وتخطيط الدولة لضمان عدم تحولها إلى قوة مستغلة. وأكّدت الناصرية على وجوب أن تظل الملكية الفردية قائمة لتوفير الحافز للعمل والإبداع، لكنها ترفض "سيطرة رأس المال على الحكم كما جاء في أهداف الثورة الستة، لذلك إعتمدت سياسة التأميم لتحويل الملكيات الكبيرة والمحتكرة إلى ملكية عامة تخدم أهداف التحول الاشتراكي. ما يعني أنّ الناصرية إعتبرت المُلكية وظيفة اجتماعية وليست حقاً مطلقاً، وحماية الدولة للملكية الخاصة مشروطة بخدمة الاقتصاد الوطني، وإذا ما تحولت وسيلة للاحتكار أو الاستغلال الطبقي، فإن تدخل الدولة يصبح حتمياً لنقلها للملكية الشعبية العامة من خلال التأميم، وما يتعلق بالإرث فإن الناصرية قد نظّمته بما يخدم العدالة الإجتماعية دون مساس جذري به، مؤكّدة حق الإرث الشرعي المترتب على الملكية الخاصة، وذلك إحتراماً للقيم الدينية والإجتماعية السائدة، لكنّها في نفس الوقت فرضت الضرائب التصاعدية للحد من التراكم الرأسمالي.. أمّا الماركسية فترى أن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (المصانع، الأراضي، إلخ) هي أساس الإستغلال والصراع الطبقي، وتدعو لإلغائها وإستبدالها بـالملكية العامة أو الجماعية، وتنتقد الإرث باعتباره وسيلة لترسيخ وتمرير الثروة والسلطة وبالتالي إعادة إنتاج الطبقات، ما يُعّزز الإنقسام الطبقي، ويُرسخ التفاوت، وهو يصبح بلا معنى في مجتمع لا وجود فيه لطبقة تملك وطبقة تعمل، حيث تُلغى الملكية الخاصة ويتم تأميم وسائل الإنتاج لتحقيق المساواة وتلبية الحاجات للمجتمع كلّه بدلاً من الربح. ويتبين مما سبق أنّ الناصرية تُبقي على بعض الملكية الخاصة مع رقابة الدولة، أمّا الماركسية فتدعو إلى إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بالكامل.
8- المفردات الأساسية للناصرية والماركسية في ضوء عناصر النظريات السياسية الأكاديمية
لما كانت النظريات السياسية الأكاديمية، والنظريات السياسية الثورية تتضمن مجموعة من العناصر، فسيتم تحديد مفردات الناصرية والماركسية، في ضوء عناصر هاتين النظريتين، وبداية في ضوء النظريات السياسية الأكاديمية:
أ‌. مفردات النظرية السياسية الناصرية:
1- المفاهيم الأساسية: تقوم الناصرية على مجموعة مفاهيم مركزية تُشكّل بنيتها الفكرية، أهمها: الحرية: حرية الوطن والمواطن، على المستويين الوطني والقومي من الإستعمار والهيمنة.. العدالة الإجتماعية على أساس تذويب الفوارق بين الطبقات وتمكين الفقراء وتدخل الدولة في التوزيع ورفض عدالة السوق.. الوحدة العربية كمفهوم قومي أساسي في النظرية، وشرطاً للقوة والتنمية.. الدور القيادي للدولة بإعتبارها المحرّك الأساسي للتغيير، وليست جهازاً محايداً أو أداة طبقية.. الإشتراكية كنظام إقتصادي وإجتماعي يقوم على الملكية العامة للقطاعات الكبرى، مع وجود قطاع خاص محدود.
2- الفرضيات: تحدّد الفرضيات رؤية الناصرية للواقع وطبيعة الصراع، وتُشكّل إطاراً تفسيرياً، منها: وحدة الوجود القومي للأمة العربية: العرب أمة واحدة ذات مصير مشترك.. الإستعمار هو الأساس في تخلّف الوطن العربي.. مصر تشكل القاعدة الإقليم لتحقيق الوحدة العربية وقيادة النهضة العربية.. التنمية لا تتم إلا بدور مركزي للدولة.. العدالة الاجتماعية شرطٌ للإستقرار السياسي.. الوحدة العربية تقوّي الدولة ضد السيطرة الخارجية فالتقدم العربي لا يمكن بناءه على التجزئة.
3- المبادئ الأساسية: المبادئ هنا قواعد موجِّهة للعمل السياسي الناصري وهي: مبدأ التحرر الوطني.. مبدأ العدالة الاجتماعية.. مبدأ سيادة القرار الوطني.. مبدأ الوحدة العربية.. مبدأ التنمية المستقلة.. مبدأ الإشتراكية كطريق ثالث بين الرأسمالية والماركسية.
4- القيم: تُظهر هذه القيم الجانب المعياري في النظرية السياسية الناصرية، والتي تحدد "ما ينبغي" لا "ما هو كائن"، وأهمها: قيمة الكرامة الوطنية.. قيمة المساواة الإجتماعية.. قيمة التضامن الإجتماعي.. قيمة المصلحة العامة.. قيمة الإنتماء القومي.. قيمة العمل والإنتاج.. قيمة العدل بصفته جوهر النظرية السياسية.
5-المنهج: تستخدم الناصرية مزيجاً من المناهج: المنهج الواقعي العملي من خلال قراءة الواقع كما هو، وإتخاذ قرارات عملية حسب الظروف.. المنهج التعبوي الجماهيري الذي يرى أن الجماهير هي القوة الحقيقية للتغيير، لذلك تعتمد الناصرية على، الخطاب السياسي، الحشد وغيرها.. منهج نقد الإستعمار والتبعية.. المنهج التاريخي القومي عبر قراءة التاريخ العربي كوحدة حضارية وسياسية.. المنهج الجدلي الإنساني كما حدّده الدكتور عصمت سيف الدولة وهو إجتهاد إستنئائي مازال قيد المناقشة، وصيغته: "1- في الكل الشامل للطبيعة والإنسان.2- كل شيء مؤثر بغيره متأثر به.3-كل شيء في حركة دائمة.4- كل شيء في تغير مستمر.ز5- في إطار هذه القوانين الثلاثة يتحول كل شيء طبقاً لقانونه النوعي.6- وينفرد الإنسان بالجدل قانوناً لتطوره. 7- في الانسان نفسه يتناقض الماضي والمستقبل.8- ويتولى الإنسان نفسه حلّ التناقض بالعمل. 9- إضافة فيها من الماضي والمستقبل.10- ولكن تتجاوزها إلى خلق جديد.
6- التفسيرات: قدمت الناصرية تفسيرات حول: سبب التخلّف، أسباب خارجية ممثلة بالإستعمار والسيطرة الأجنبية، وداخلية ممثلة بالإقطاع والرأسمالية.. وتفسير طبيعة الدولة العربية في الناصرية ليست أداة طبقية أو محايدة، بل أداة للتحديث ومحرك للتنمية وقيادة للنهضة.. تفسير التفاوت الاجتماعي بأنّه ناتج عن الإقطاع والرأسمالية والإستغلال وتهميش الفقراء.. وتفسير الصراع العالمي بانّه صراع بين قوى التحرر الوطني، وقوى الإستعمار والتبعية الرأسمالية.
7- الأهداف: الأهداف في النظرية السياسية الناصرية إستراتيجية وثورية: حرية الوطن وحرية المواطن وطنياً وقومياً وتحرير فلسطين والأراضي العربية الأخرى في الأحواز والإسكندرون وسبتة ومليلية.. إقامة مجتمع الإشتراكية والعدالة الإجتماعية.. تحقيق التنمية الوطنية المستقلة.. تمكين الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين والفقراء.. الوحدة العربية وبناء دولة قوية عربية حديثة.. دعم حركات التحرر.. القضاء على الإستعمار والهيمنة.
8- النموذج العام للنظرية: الناصرية تقدم نموذجاً عاماً للدولة والمجتمع، من خلال: دولة تنموية قوية تقود الصناعات، وتخطط الاقتصاد، وتوفر الخدمات الأساسية.. إقتصاد مختلط وملكية عامة في القطاعات الكبرى، وقطاع خاص منظم، وتوزيع عادل للثروة.. مجتمع متضامن، وتعليم مجاني، ورفع مستوى الفئات الفقيرة إقتصادياً وإجتماعياً.. أمة عربية موحدة، وتكامل إقتصادي، وسوق عربية مشتركة.. وعلاقة تعبويّة ثلاثية من الشعب والجيش والدولة، تقود التنمية والتحرر.
ب- مفردات النظرية السياسية الماركسية:
1- المفاهيم الأساسية: الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي للتاريخ والمجتمع والسياسة.. الطبقة العاملة المنتجة التي يستغلها النظام الرأسمالي هي القوة التاريخية للثورة. 3. رأس المال يُمثّل العلاقة الإجتماعية التي تقوم على ملكية وسائل الإنتاج وإستغلال العمل.. وسائل الإنتاج تُشكّل البنية التي تُحدد شكل النظام الإقتصادي والإجتماعي.. الدولة تُمثّل أداة طبقية بيد الطبقة البرجوازية.. الإشتراكية والشيوعية مرحلتان تاريخيتان، الأولى إنتقالية والثانية مجتمع بلا طبقات.
2- الفرضيات الأساسية: التاريخ تحركه التناقضات والصراعات الطبقية وليس القيم أو الإرادات الفردية.. البنية التحتية الإقتصادية تحدد البنية الفوقية كالدولة والثقافة والفكر.. الرأسمالية تحمل بذور فنائها الداخلي بسبب تناقضاتها.. الطبقة العاملة قادرة على قيادة الثورة لأنها الأكثر تعرضاً للإستغلال.. التحول الاشتراكي أمر حتمي تاريخياً وليس إختياراً.
3- المبادئ: مبدأ إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.. مبدأ دكتاتورية البروليتاريا كمرحلة إنتقالية لفرض سلطة العمال.. مبدأ الصراع الطبقي كتحليل رئيسي لكل الظواهر السياسية.. مبدأ الأممية عبر التضامن بين العمال على مستوى العالم.. مبدأ المركزية الديمقراطية في التنظيم الحزبي والسياسي.. مبدأ النفي الديالكتيكي في تطور التاريخ.
4- القيم: المساواة الإقتصادية والإجتماعية الكاملة.. التضامن الطبقي بين العمال.. تحرير الإنسان من الاستغلال.. إزالة الإغتراب في العمل والمجتمع.. العدالة الثورية بوصفها وسيلة لتحقيق عالم بلا طبقات.
5- المنهج: المنهج المادي الجدلي الذي يؤكد بأنّ الظواهر الإجتماعية تتطور عبر التناقضات، حيث يتم التغيير عبر صراع نوعي كيفي يؤدي إلى قفزات تاريخية.. المنهج المادي التاريخي الذي يُفسر التاريخ بناءً على علاقات الإنتاج، عبر تحديد المراحل التاريخية (مشاعية، عبودية، إقطاع، رأسمالية، إشتراكية).. المنهج النقدي للرأسمالية من خلال تحليل آليات الإستغلال خصوصاً فائض القيمة، وفهم تراكم رأس المال وأزمات النظام.
6- التفسيرات :السياسة يتم تفسيرها ماركسياً بأنّها إنعكاس للصراع الطبقي وتوازنات القوى الإقتصادية.. الدولة ليست محايدة، بل أداة قمع في يد الطبقة الحاكمة (البرجوازية).. التاريخ تحركه علاقات الإنتاج والتناقضات بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج.. الفقر وعدم المساواة هما نتيجة حتمية للإستغلال الرأسمالي وفائض القيمة.. الثورة هي نتيجة لنضج التناقضات بين البرجوازية والبروليتاريا.
7- الأهداف: إسقاط النظام الرأسمالي عبر الثورة.. إقامة دكتاتورية البروليتاريا لإلغاء الملكية الخاصة.. تحقيق الإشتراكية كمجتمع إنتقالي.. بالوصول إلى الشيوعية تكون المساواة كاملة بزوال الدولة والطبقات.. تحرير الإنسان من الإغتراب والإستغلال.. الأممية وتحقيق وحدة الطبقة العاملة العالمية.
8- النموذج العام للنظرية: الدولة أداة طبقية للعمال عبر مرحلة انتقالية قصيرة نسبياً.. الإقتصاد ملكية جماعية لوسائل الإنتاج والتخطيط المركزي وإلغاء السوق الحرة.. المجتمع طبقة البروليتاريا واحدة ومساواة كاملة بتلاشي الطبقات تدريجياً.. حزب عمالي يقود الثورة، ومركزية ديمقراطية (قيادة مركزية ودور جماهيري.. العلاقة بالعالم تُحدّدها أممية العمال ودعم الثورات الإشتراكية العالمية ومواجهة الإمبريالية والرأسمالية.
يتبين مما سبق، وفي ضوء عناصر النظرية السياسية أنّ الناصرية هي نظرية ثورية قومية وإجتماعية تمتزج فيها، المفاهيم القومية والإجتماعية بالفرضيات التحررية والمبادئ الاشتراكية العربية والقيم الوطنية والقومية وقيم العدالة ومنهج عملي نقدي وتفسيرات مضادة للإستعمار وأهداف تحررية وتنموية وحدوية ونموذج عام لدولة تنموية قومية.. بينما النظرية السياسية الماركسية هي نظرية ثورية مادية عالمية تقوم على مفاهيم الصراع الطبقي والبروليتاريا وفرضيات مادية تاريخية، ومبادئ إلغاء الملكية الخاصة والصراع، وقيم التحرر من الاستغلال، ومنهج مادي جدلي تاريخي وتفسيرات بنيوية للرأسمالية والدولة، وأهداف تحررية أممية، ونموذج دولة إشتراكية إنتقالية ثم مجتمع شيوعي لا طبقي تنتفي فيه الملكية الخاصة والدولة.
9- المفردات الأساسية للناصرية والماركسية في ضوء عناصر النظرية السياسية الثورية
إنّ المقارنة بين النظرية السياسية الناصرية والنظرية السياسية الماركسية الناصرية في ضوء عناصر النظرية السياسية الثورية، تُظهر لنا أبرز نقاط الإتفاق ومحاور الإختلاف الجوهرية بينهما، وكما يأتي:
1- تحليل جذور الأزمة: ترى الناصرية أن جذور الأزمة تكمن في الهيمنة الإستعمارية وتخلف البنية الاقتصادية والإجتماعية، وتحالف الإقطاع مع الرأسمالية المرتبطة بالخارج، ما يمنع التنمية المستقلة وبناء الدولة الوطنية ودولة الوحدة العربية. أمّا الماركسية فتحيل جذور الأزمة إلى طبيعة النظام الرأسمالي نفسه، القائم على إستغلال الطبقة العاملة، وتناقضات نمط الإنتاج، وليس فقط إلى عوامل خارجية.
2- التركيز على الصراع: تؤكد الناصرية بأن الصراع وطني وقومي بالدرجة الأولى، مع بعد إجتماعي، لكنه لا يصل إلى مفهوم الصراع الطبقي الحتمي. بينما ترى الماركسية أنّ الصراع الطبقي شامل وحتمي بين العمال والبرجوازية بوصفه المحرك للتاريخ.
3- الطابع الجذري للتغيير: رفضت الناصرية الإصلاح التدريجي لأنه يُبقي بنية التخلف، وتبنّت الثورة والتغيير الجذري الشامل بهدف إعادة تشكيل الدولة والمجتمع في إطار تبني الإشتراكية والتنمية المستقلة والعدالة الإجتماعية دون إلغاء الملكية الخاصة كلياً، وذلك من خلال تبني عدداً من الإجراءات الثورية كالإصلاح الزراعي والتأميم. أمّا الماركسية فقد تبنّت الثورة العنيفة لتحطيم الدولة البرجوازية، والتغيير الجذري لأسس البنية الإقتصادية والإجتماعية، التي تتعلق بنمط الإنتاج وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج للوصول إلى ديكتاتورية البروليتاريا والمجتمع اللاطبقي.
4- دور الجماهير: رأت الناصرية دور الجماهير وتعبئتها من خلال تحالف قوى الشعب العامل: العمال والفلاحين والمثقفين والجنود والرأسمالية الوطنية غير المستغلة. أمّا الماركسية فقد رأت أن دور الجماهير يتمثّل بالطبقة العاملة ووعيها الطبقي كقوة ثورية حاسمة في صناعة التاريخ.
5-: دور القيادة الثورية والحزب الثوري: رأت الناصرية إنّ القيادة التاريخية والجماعية، والتنظيم السياسي لتحالف قوى الشعب العامل في إطار الإتحاد الإشتراكي العربي والتنظيم الطليعي الذي يقوده، كأداة تحالف وتعبئة وطنية لا أداة للصراع الطبقي. أمّا الماركسية فقد أكّدت أنّ الحزب الثوري هو العقل المنظم للطبقة العاملة، ووسيلة تحويل الوعي إلى فعل ثوري.
6- الهدف النهائي: تبنّت الناصرية إقامة دولة مستقلة وطنياً وقومياً، ذات طابع إجتماعي وإشتراكي، دون إلغاء الدولة أو الطبقات كلياً. بينما تبنّت الماركسية، إقامة مجتمع شيوعي بلا طبقات ولا دولة في مرحلته النهائية أمّا الإشتراكية فهي مجرد مرحلة تمهيدية للوصول إلى الشيوعية.
الخاتمة
بعد إستكمال مناقشة جدل الاتفاق والخلاف بين النظرية السياسية الناصرية والنظرية الماركسية، هناك نتائج وملاحظات تتطلب بيانها، وكما يأتي:
1. إذا إستخدمنا المصطلحات الفقهية، فإن الإتفاق بين الناصرية والماركسية إنما يقع في حدود الفروع، أمّا الإختلاف فهو جوهري ومنهجي في محاور الأصول التي تتعلق بالسياق الفلسفي والعقدي والسياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي والقيمي.. ما يعني أنّ كلاً من النظرية السياسية الناصرية والنظرية السياسية الماركسية، لها ذاتيتها الخاصة، في المنطلقات والغايات والأسلوب، وفي الفلسفة والأسس، والنطاق والمضمون، والمبادئ والقواعد وبالتالي لا يمكن الخلط بينهما بداعي التقريب والذوبان تحت عنوان وحدة اليسار أو مركسة التيار القومي العربي، أو توطين الماركسية وتنصيرها لتتلاءم مع الواقع العربي، أو بداعي التشكيك والإتهام من قبل التيارات المعادية للناصرية خصوصاً.
2. لكنّ ذلك الإختلاف الجوهري لا يمنع من القبول المتبادل، والمساحة المشتركة للتحالفات المرحلية في إطار مكاني وزماني محدّدين، خصوصاً في العراق والوطن العربي بشكل عام، في مواجهة متغيرات العالم المتسارعة والتحديات الداخلية والمخاطر الخارجية.
3. إعتمدت الورقة على المصادر والوثائق والكتب الرئيسة ذات المصداقية العلمية، التي تناولت الناصرية والماركسية، كفلسفة الثورة وميثاق العمل الوطني والخطاب الناصري والكتب الفكرية العلمية التي تناولت الناصرية، والبيان الشيوعي ورأس المال ومؤلفات لينين والكتب الفكرية العلمية التي تناولت الماركسية.. وسيُصار إلى ذكر هذا المصادر عند تحويل هذه الورقة إلى بحث علمي متكامل أو كتاب.
4. إنّ تناول الناصرية والماركسية في هذه الورقة، كان من زاوية نظرية بحتة دون الإشارة إلى الممارسات والعلاقات والتطورات التي صاحبت تطور النظريتين الناصرية والماركسية والعلاقة بين تجربتيهما وتنظيماتهما وممارساتهما السياسية.
5. سيتم في ورقة قادمة تناول جدل الاتفاق والإختلاف بين النظرية السياسية الناصرية والنظرية السياسية الليبرالية من أجل بيان موقع النظرية السياسية الناصرية معرفياً بين النظريات السياسية المعاصرة.

بغداد 21/12/ 2025



#عبد_الستار_الجميلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشرقاط 67 - قصة قصيرة
- أزمنة بغداد المدَّورة- مسرحية قصيرة
- حتى لا ننسى.. الأحواز والجزر الثلاث والإسكندرون وسبتة ومليلي ...
- العرب وخيار التوحيد.. او التفتيت
- درس التاريخ الأساسي.. ثنائية السلطة والدم
- دَوار العالم.. وتراجع إدارة السلام
- معضلة الديمقراطية في العراق
- الكيان الصهيوني والنظام الإيراني.. مواجهات الإخوة الأعداء.. ...
- ما التغيير المطلوب؟
- ترامب.. بين السياسة والتجارة


المزيد.....




- بيونسيه وكيتي بيري.. نجوم ومشاهير أمريكيون واجهوا لحظات حرجة ...
- بيان من الجيش المصري بشأن ما أثارته وثائق منسوبة له حول منح ...
- تفاؤل في ميامي .. تقييمات إيجابية لمحادثات السلام بشأن أوكرا ...
-  *”في خندق جمهوريّة فنزويلا البوليفاريّة في مواجهة العدوان ا ...
- نيجيريا: السلطات تعلن تحرير 130 تلميذا اختطفهم مسلحون من مدر ...
- السودان: مقتل 10 أشخاص بضربة طائرة مسيرة استهدفت سوقا مزدحمة ...
- الناشر المصري إبراهيم المعلّم: مؤسسات عربية تحتفي بالمزورين ...
- السودان.. نزوح أكثر من 107 آلاف شخص من الفاشر
- 3 سيناريوهات وراء إعلان الاحتلال إنهاء -التمشيط- خلف الخط ال ...
- العليمي يحذر مسؤولين يمنيين من استغلال المناصب لمكاسب سياسية ...


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الستار الجميلي - الناصرية والماركسية.. جدل الإتفاق والإختلاف