أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار الجميلي - الشرقاط 67 - قصة قصيرة















المزيد.....

الشرقاط 67 - قصة قصيرة


عبد الستار الجميلي

الحوار المتمدن-العدد: 8556 - 2025 / 12 / 14 - 22:37
المحور: الادب والفن
    


الشــرقــاط ٦٧
قصة قصيرة
الشرقاط في العام 1967، مركز مدينة يسمى القصبة.. يضم الوحدات الادارية والمدرسة الثانوية القديمة وعدد من المدارس الإبتدائية.. مُحاط بعدد من البيوت والقرى المترابطة وإن كانت متناثرة.. تسكنها قبائل عربية متداخلة في الأصلاب والأرحام والتعصب القبلي الساكن أغلب الوقت والغاضب في أحيانٍ أخرى.. قبائل مأخوذة برائحة القهوة والهيل والأعراف والحكايات والمرويات والمواويل الشعبية التي تمتد إلى عمق التاريخ والجزيرة العربية.. يبعد الشرقاط عن الموصل بحدود (100) كم وعن بغداد (300)كم أو أكثر قليلا.. كان طريق بغداد الموصل القديم يمر على طول إمتداد الشرقاط قبل أن يهجره منتقلاً إلى الطريق الجديد في الشرق المفتوح إلى سكة القطار المُعمّر بصيحاته كلّ يوم، والجزيرة ورائحة الحنطة والشعير.. وما تبقى من بيوت بدوية تجوب الأرض بحثاً عن الماء والكلأ.. كان إمتداد الشرقاط على ساحلي نهر دجلة الأيمن والأيسر، لكن الإسم كان أكثر إرتباطا ورمزية بالساحل الأيمن من الساحل الأيسر، الريفي في موقعه وسكانه، رغم إشتراكهما في جمالية المكان والمنظر.. كان الساحل الأيمن هو المركز الإداري والتربوي والإقتصادي.. وكان السوق الرئيسي الوحيد يمتد من الوحدات الإدارية بإتجاه المنطقة المفتوحة التي تتكون من أرض زراعية شبه خالية بعد أن أجبر الفيضان البيوت القريبة من دجلة على النزوح بإتجاه التلال.. دجلة التي كانت تسمى باللهجة العامية الدارجة(الفراه)، دون أن يكون القصد بذلك الفرات النهر الآخر الذي يجري ويمتد غرب العراق.
لم يكن الشرقاط مجرد دلالة على إسم ومكان.. ودجلة لم تكن مجرد نهر ومياه جارية تهدأ أو تعصف بحسب المواسم.. كان النهر هبة الشرقاط كما كان النيل هبة مصر.. كانت العلاقة بدجلة علاقة حياة ووجد وإنتماء، للناس والحيوانات والمواويل والقصص والأشعار.. والأشجار التي كانت تغطي مساحات واسعة من داخل القصبة وغربها، حيث بستان الشيوخ الذي كان مقصداً للجميع خصوصا الأطفال والطيور التي كانت تحت رحمة الصيد والمتعة، الى جانب الثمار وأبرزها التوت.. كان ولوج الشرقاط في رحم التاريخ وجيناته المتفردة عميقاً ممتدّاً إلى (3000) سنة قبل الميلاد.. فجمع في أعماق تربته وتضاريسه المتنوعة سحر الماضي وأسراره بوهج الحاضر وحكاياته المتصلة.. وتوشح بجمالية القرية والمدينة معا.. وهو يُسامر الليل ويستقبل نسائم الإشراق متوحداً بساحلي نهر دجلة ومياهه الفضية المتلألئة ببريق حمائم وأمواج هادئة تضرب جرفي النهر بلمسات خفيفة وحنو جعلها مقصدا لأنواع الطيور ونبات السعد.. وأقدام الأطفال الحافية وهي تجوسُ الشاطئ بخوف وحذر سرعان ما يختفيان عند التوحد مع الأمواج والأسماك في لعبة التجديف بالأيدي والأرجل، التي يتنافس فيها الأطفال على من يحوز قصبَ التميّز والسبق في السرعة والنجاح وصولاً إلى الشاطئ الآخر.. وتجنب الزَّور وسط النهر الذي تحكي الجّدات أنّه مسكون بالسّعالى والجِنيات والخنازير المتوحشة، وربما بجنون الدراويش.. أو العودة قافلين من وسط النهر لمن لا يتمكن من مواصلة السباحة، ليشارك الآخرين بعد ذلك فرحة الإنتصار الجماعي على أمواج النهر بالوصول إلى الضفة الأخرى .. ضفة الساحل الأيسر.
في العام 1967 لم يشأ التاريخ أن يترك الشرقاط مدفوناً في القلعة.. التي يؤرخ ما تبقى من آثارها زمان ومكان أول عاصمة آشورية حطّت في هذا المكان على مقربة من ضفاف دجلة ومياهها الهادرة العابرة للجبال والسهول والوديان والمدن والقرى من بلاد الروم إلى بلاد العرب.. قبل أن تَجرح ضرعها المدرار السدود والويلات وإستبداد الولاة القدماء والجُدد.. حتى إسم الشرقاط نفسه كُتبَ بقلم وخطوط التاريخ أيضاً.. فهو مأخوذ من إسم أحد الملوك الآشوريين (شرو- كات) أي (الملك – كات) أو(بوابة آشور) أو (مدينة الذئاب) على خلاف في الرأي، وذلك وفق اللغة الآشورية القديمة.. لكن مع تكرار الإستعمال والتصحيف تحول الإسم الى الشرقاط، أو "الشركاط" باللهجة العامية الدارجة.
هذا التاريخ الموغل بالقدِم والفرادة.. كان على موعد مع الشرقاط مرّة أخرى في العام 1967.. تاريخاً متميزاً وحافلاً.. كان التاريخ متوطناً في الشرقاط ويأبى أن يبرحه.. أو أن الشرقاط نفسه هو التاريخ متجسداً بعلاقة تصوف غامضة مع دجلة التي كان غضبها موسميا قبل بناء السدود، لتطهر نفسها مما علق بها من دنس الإنسان ومخلّفات علاقاته غير المتوازنة مع البيئة، وعدوانه المستمر عليها.. وكان العقل في الشرقاط منتجاً لأجيال من السياسيين والمثقفين والأدباء والمهنيين وحكماء المجالس والسَّمر في الدواوين وعلى ضوء القمر الساطع الذي لم تدهمه وتغيبه أضواء الكهرباء بعد.. كان القمر هو مصباحنا نحن الأطفال الذين كانت القرى والمساحات تضج بصدى أصوات ألعابنا المختلفة، حتى آخر الليل بلا وجل أو خوف مما يحمله الليل من مفاجآت قد تَتسلل خِفية من طيّات "خراريف" الأمهات والجِدّات.. كان التاريخ يعيش ناشطاً في أعماق الشرقاط، بين مرحلة وأخرى.. حتى بين أطفاله الذين كان قدرهم أن يولدون كباراً في خضم يوميات المكان والزمان المثقل بصعوبات وأسى الأرض العربية التي كانت على الدوام هدفاً للغزاة، وبيئة صانعة للملاحم والمعجزات التي لم يكتبها المؤرخون ويخوضوا في غمار فصولها إلى الآن.. كان الوعي والإنتماء للقضايا العربية الكبيرة الصفة الأهم في يوميات هذه المدينة- القرية.. كانت عصباً حساساً نابضاً بالعذاب والأمل والأماني الكبيرة، في تلك المرحلة من مراحل جينات رحم التاريخ الذي كان قدره أن يشهد على الدوام عُسراً تراجيدياً في الولادة عند كلّ مرّة.
كانت جميع التيارات السياسية تمورُ وتنشط في الشرقاط في العام ١٩٦٧.. إلاّ أنّ الغالب عليها كان جمال عبد الناصر الصوت والشخصية والفكرة.. كان عبد الناصر والناصرية جزءاً لا يتجزأ من يوميات الغالبية الساحقة من البيوت والأُسر.. صورهٌ تزين الجدران، وصوتاً متميّزاً يصدح من صوت العرب وإذاعة بغداد وأغلب إن لم يكن جميع الإذاعات العربية والأجنبية.. كان جمال عبد الناصر رمزاً للقضايا العربية الكبيرة التي كانت عنواناً كبيرا لمرحلة من أزهى العصور العربية التي تجمّعت في شخص واحد: الحرية والتحرر، الوحدة العربية، فلسطين، الإشتراكية، التصنيع، التنمية وغيرها الكثير.. كان الزمن العربي في الشرقاط وعلى إمتداد الوطن العربي ناصرياً بالمعنى المباشر للكلمة، كأنّ الكل بات متوحدّاً في شخص واحد، والواحد في الكل، فناءً صوفياً وجدانياً وعقلاً جمعياً في ذاتٍ عربية واحدة، لم تشهد هذا التوحد من قبل.. نزعت من جلدها سياط الحدود ومُخلّفات الغزاة والولاة والسلاطين.
كان جيلنا الذي أنتمي إليه قد وُلد سياسياً مع جمال عبد الناصر الذي ملأ وشَغل وأشعل مخيلتنا بإلتزام مُعاش أو مكتوب في أوراقنا السّرية والمعلنة، فيما بيننا ومع حياة الناس اليومية.. كان صوت" أحمد جنداري" الجَهْوَري، الذي كان قريب الشبه من جمال عبد الناصر وجهاً وسمرة، والشيب الذي ينتشر ببياضه المُميّز على الّصدغين، هو من يُحرك فينا طاقة مضافة من الوعي الناصري المبكر، حيث كان هو الخطيب الأشهر في التظاهرات والندوات والتجمعات، الى جانب أصوات أخرى أحمد عبود السلمان وموسى الصلبي وقيس الريفي وبهاء العمر وغيرهم الكثير.. وكنتُ أنا ولما أتجاوز (14) سنة أعيش جمال عبد الناصر فكرة وقضية وشخصا كأنه الأب الذي حُرمتُ منه مبكراً.. كان عبد الناصر أباً وسنداً للجميع.. وكانت علاقتي به مُبكرة وربما قبل أقراني، إذ كان خالي حسن الخشان دائم الزيارة لبيتنا بين فترةٍ وأخرى قبل عام ١٩٥٨ ليطلب منّي دائماً الصعود على منضدة الفراش، وأبدأ بالهتاف المتكرر، عاش جمال عبد الناصر وتسقط الملكية ويسقط نوري السعيد.. وبعد سقوط الملكية كنتُ دائب الحركة على توزيع منشورات التنظيمات الناصرية ومن بينها حركة القوميين العرب التي كانت أحد العناوين الناصرية البارزة قبل أن تنشق وتأخذ الأقدار جناحها الآخر إلى خيارات أخرى.. كما كنتُ وأقراني نعيش السياسة في المدرسة والألعاب والإهتمام بالقضايا العربية في حدود وعينا المبكر.. ونُردد بتكرارية يومية: " الوحدة بَدْها رجال.. ناصر عارف والسّلال.. وأحمد بن بيلا والأبطال".
لكنَّ أيام حزيران عام 1967 وقبله بأيام، كانت رتيبة ولم تكن متواصة بلياليها وأحداثها كالمعتاد.. ثمة إهتمام وقلق وتساؤلات بدأت تسود يومياتنا في الشرقاط وعموم الوطن العربي.. وفي قريتنا الصغيرة "الصُّبلاي" على التلال الغربية التي آوتنا بعد الفيضان.. وكان بيتنا هو الأكثر علوا على التلال المرتفعة، وخلفنا وجنبنا يسكن ابناء عمومتنا الأقرب، إذ كنّا جميعاً من صلب جدّ واحد تقريبا إتفق العرف على تسميتنا "الحجلات" على إسم جدتنا الحجلة التي تزعم المرويات الشفاهية المتكرّرة بأنها وُلدت بحِجلٍ مطبوع فوق قدّميها وأنّها كانت تُقلب الطعام في القدر بيديها كونها تنتسب إلى صلب السادة ذو الكرامة والأسرار، كما يقول ما تبقى من الرواة المُسنين.
كان مصدر الإهتمام والقلق، هو الأخبار التي بدأت تتوارد متسارعةً، بأن ثمة توتر متصاعد بين الدول العربية والعدو الصهيوني على جبهة مصر والاردن وسورية خصوصاً، وأن الحرب وشيكة الإندلاع في أيّة لحظة.. فبدأ الأمل يُدغدغ متهادياً الآمال المنتظرة، بأن معركة تحرير فلسطين قد بدأت.. فلسطين التي كانت جميع الأجيال مأخوذة بها عقلياً ووجدانياً وعاطفياً، وإلتزاماً يطبع الصحف والبيانات والأحزاب والجماعات والحكومات بطابع قضية القضايا، صُدقاً أو إدّعاءً .. وويلٌ لمن يَشذُّ عنها، حاكماً كان أو محكوماً، حتى ولو في المنام.
وحين بدأت أولى صباحات الحرب وساعاتها الثقيلة وآمالها المُنتظرة.. كان التفاؤل يقيناً قد إستقرّ في النفوس.. والأمنيات إستحالت أفراحاً وأهازيج.. كنا نحن الأطفال أول من أطلقها ونحن نتابع صوت العرب وأحمد سعيد الذي تعودنا على صوته النادر المتميز وهو ينقل أخبار الحرب بحماسة وتعبئة منقطعة النظير.. لكن ثمّة أخبار بدأت تنقلها الإذاعات الأجنبية المغرضة، في تلك المرحلة من الإستقطاب الواضح للعدو من الصديق، خصوصاً الـ " بي بي سي" الإنكليزية التي تعوّد الشيوخ الكبار على متابعة أخبارها اليومية.. أخبار أصابتنا بالقلق وجرحت مشاعرنا وحماستنا، وألقت بنا في غيابةِ القلق ممّا يحمله قادم الأيام من ضربات في صميم وعينا وآمالنا وأحلامنا الواسعة.
وبعد ستة أيام من العدوان الصهيوني وإنتظار حقائق الموقف على جمر التساؤلات المتوجسة، أخذت الأخبار المُحزنة تقضُّ مضاجعنا وتُصيبنا بالإحباط والهلع.. حتى فوجئنا بصوت جمال عبد الناصر يخرج إلينا جريحاً منكسراً تخرج الكلمات من احشائه نازفة وهو يُغالب الدموع التي يأبى الرجال إطلاقها إلاّ مع تمزق شغاف القلب وأنينها الصامت.. كان صوته مُثقلاً بالحزن والأسى العميقين.. بدأ ذلك الصوت الذي عشناه صادحاً واثقاً متحدياً، بدأ بحشرجة صوت مبحوح.. "أيها الإخوة".. فوصل الصوت إلى أعماق النفس العربية وعقلها الجمعي الذي ملأه الرجل كما لو لم يملأه أحد من قبله.. كان الصوت يأتينا عبرَ المذياع.. لكنّما أحاسيسنا ومشاعرنا متجسدة عياناً كما لو أننا نرى وجهه مُتعباً متغضن بالأخاديد وقد كَبر عشرات السنين.. وفي لحظة حادّة لمستُ شيئاً ما في روحي بدأ يتمزق، وهو يضيف.." لقد تعودنا معاً في أوقات النصر وفى أوقات المحنة.. في الساعات الحلوة وفي الساعات المرة؛ أن نجلس معاً، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق..... مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافتاً".. كانت الإشارة واضحة مخيفة أنّ ثمة في أفق التوقعات ما هو أقسى من الكلمات، التي كانت ترتسم قبل الكلمات على ملامح الرجل الذي عرفناه قريبا منّا رغم ترامي المسافات.. وهو يضيف بأسى .." ولا نستطيع أن نخفى على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة".. كان وقع الصدمة شديداً على الجميع ماتت على صداها الحروف والكلمات.. وكنتُ من الذين تابعوا الخطاب مَشدوها مُستفزّاً لم تطرق سمعي باقي الكلمات كأني أصبحت أصمّاً لا أقوى على السّماع.. حتى صحوت ُكالملدوغ على صوت عبد الناصر وهو يعلن بألم بدا للسامع كأنّه نزف يخترق ترددات المذياع والمسافات.. يُعلن الصدمة الكبرى التي كانت أشدّ من النكسة نفسها.. صدمة عطّلت الحياة من الشرقاط وعلى طول الوطن العربي.. حين صمت الزعيم قليلا ليعلن بصوت خافت لكنه كان فيضاً هادراً في الأعماق، إنّه:" ... على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأي مواطن آخر".. كان الإعلان طلقة أصابت الجميع بالوجوم والصرخات المكتومة، فاندفع الكثيرون قبل أن ينتظروا نهاية الخطاب.. حالة ذهول وإلتحام داهمت الجميع في الشرقاط وعلى إمتداد الأرض العربية.. رفضا لإستقالة جمال عبد الناصر والإصرار على مواصلة القتال معه وحده، وليس غيره، مهما كان الثمن.. كانت الشرقاط في 9 حزيران 1967 موجة عاتية من المشاعر والهلع في النفوس وبين الجدران والشوارع، إحتجاجاً على ترجل الفارس الذي عاشت معه سنوات الكرامة والإنتصارات ومواجهة شتى الظروف والعدوان، وآن لها أن تكون معه في كبوة الإنكسارات.
وكنت واحدا من هؤلاء الذين خرجوا إلى الشارع بدون وعي وشعور وأنا أسارع الخطى كالمخطوف وأجمع أقراني في تظاهرة راكضة كانت تتوسع بين حين وآخر، نهتف بحياة جمال عبد الناصر ونُردّد الشعار الكبير الذي كان يتعالى في جنبات المدن والقرى العربية.. " من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر لبيك عبد الناصر".. وفي حُمّى الركض والهتاف والتدافع الذي بالكاد نجد فيه موطئ وحيّز لأقدامنا المُهتزَّة، سَقطتُ على وجهي مُتداعياً بقوة، فنبتت ركبتي في منتصف صدري مباشرة كالسكين، فشعرتُ بدوارٍ وألم مُخيف لم أشهده من قبل حتى شَعرت بأن الموت يدنو مني عن قُرب، وأنا بالكاد أسحبُ النفس متقطعاً بين شهيق وزفير.. وفي حمّى الضجيج والدوار وإنقطاع النفس، شعرتُ بأنّ ثمة قوة قد داخلتني كأنها من عالم آخر، فتحاملتُ على الألم ونهضت مُلتاعاً، وأنا أردد مع الجميع بصوت بدأ خافتا لكنّه تَجهْوَر من أعماق صدري صارخاً: " من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر لبيك عبد الناصر".. وما إن قطعنا مسافة بين التلال والدروب ومطبات الطريق، قابلنا عمي "عباس الحويجة" مهرولاً، كان رجلاً كبير السّن ولم يدخل مدرسة أو يهتم بالسياسة المباشرة في حياته، كان يحمل المجرفة على كتفه، معلناً لنّا بحزمٍ أنه ذاهب إلى حقله قرب نهر دجلة، وقد قرّرَ إنّه لن يعود إلى البيت أبداً، إلا اذا جئتم وبلغتموني بأن جمال عبد الناصر قد عدل عن إستقالته، وهو يذرف دموعا صادقة صامتة، شاركته فيه أغلب البيوت التي كانت في حداد غير مُعلن، ولكنّه كان يسري على الوجوه وبين الحروف والكلمات.
وكأن موجة الرفض لإستقالة جمال عبد الناصر أصبحت فيضاً من البشر إمتدت من الشرقاط والى كلّ مساحات الوطن العربي.. وقد تحطمت الحدود والقضبان وإستحالت إلى مجرد رمل متداعي أمام هذا الزحف الشعبي العربي العام، حتى ممن إختلفوا مع عبد الناصر.. كان زمناً ناصرياً مُستعاداً وقد تَجدَّد شعبياً هذه المرّة بإرادة الشعوب وحدها، ليفرض على الزعيم أمراً بالعدول عن الإستقالة فوراً.. وما إن تلقينا بيان عبد الناصر بعدوله عن الإستقالة والإستمرار في القيادة والعمل من أجل إزالة آثار العدوان وبناء الإرادة والقوة من جديد، حتى عَلت صيحات الفرح وهلاهل النساء واصواتنا نحن الأطفال بهتافات مدوية متوجهين، الى عمي عباس الحويجة لنخبره بعدول جمال عبد الناصر عن الإستقالة، فتهللت اساريره من الفرح كأنه طفل صغير متشاركاً معنا العودة، والفرحة تغمر الجميع.. فرحة أحسسناها تنطلق عاليا من الشرقاط وقرية "الصُّبلاي" حتى مشارف الوطن العربي في الغرب والشرق والشمال والجنوب.
وفي أحد بيوت الشرقاط، التي إستقت جدرانها من رحم الأرض الطينية، وصُلب الحليب القروي الصافي.. وهَدْهدات الوجد والروح العربية.. المسكونة بالتاريخ ومرويات جمر الآلام والآمال.. وأمواج دجلة التي تتبادل والشمس والقمر حمائم وأسماك الشروق والضياء.. كانت هناك ثمة إمرأة تأخر حملها على غير العادة حتى صارت حديثاً تتناقله المرويات صبحاً ومساء، من المشرق العربي إلى المغرب العربي.. جاءها الطلق مسرعا يوم 9 و10 حزيران(يونيو) 1967 فوضعت مولوداً.. ناطقاً باللغة العربية الفصحى.. إتفق الجميع على تسميته.. "جمال".



#عبد_الستار_الجميلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أزمنة بغداد المدَّورة- مسرحية قصيرة
- حتى لا ننسى.. الأحواز والجزر الثلاث والإسكندرون وسبتة ومليلي ...
- العرب وخيار التوحيد.. او التفتيت
- درس التاريخ الأساسي.. ثنائية السلطة والدم
- دَوار العالم.. وتراجع إدارة السلام
- معضلة الديمقراطية في العراق
- الكيان الصهيوني والنظام الإيراني.. مواجهات الإخوة الأعداء.. ...
- ما التغيير المطلوب؟
- ترامب.. بين السياسة والتجارة


المزيد.....




- قصة قصيرة: ما بعد الحادية عشرة ليلا
- لم يتراجع شغفه بالكوميديا والأداء.. الممثل ديك فان دايك أتمّ ...
- سوريا تنعى وزير ثقافتها الأسبق رياض نعسان آغا
- -إعلان باكو- يعزز الصناعات الإبداعية في العالم الإسلامي
- -بين الطين والماء-.. معرض تركي بالقدس عن القرى الفلسطينية ال ...
- هل حُلت أزمة صلاح وليفربول بعد فيديو الفنان أحمد السقا؟
- من الديناصورات للتماسيح: حُماة العظام في النيجر يحافظون على ...
- انطلاق الدورة الـ36 من أيام قرطاج السينمائية بفيلم فلسطيني
- أيام قرطاج السينمائية تنطلق بعرض فيلم -فلسطين 36-
- بعد تجربة تمثيلية فاشلة بإسرائيل.. رونالدو يتأهب للمشاركة في ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار الجميلي - الشرقاط 67 - قصة قصيرة