عبد الستار الجميلي
الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 21:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أ.د عبد الستار الجميلي
كثيرا ما يتم توصيف ترامب بأنه رجل أعمال أدخل إلى ميدان السياسة ثقافة وسلوك عقد الصفقات التجارية وفق ميزان الربح والخسارة، خصوصا في سياساته وعلاقاته الدولية سواء مع الخصوم أو الحلفاء.. والوصف يحمل بين طياته الإتهام والتشكيك من منطلقات تتوشح بأخلاقيات قيمية تزعم النأي بالسياسة عن لغة وآليات ودوافع وأهداف الربح والخسارة.. ومع أن مسألة العلاقة بين الأخلاق والسياسة مسألة شائكة وموضع خلاف بين إتجاهين رئيسين ومتناقضين في العلاقات الدولية؛ الواقعية والمثالية. إلا أنَّ تحليلاً مكثفاً لسياسات الدول الخارجية، ودون الدخول في تفاصيل النوايا والأطماع والبيئات والمحددات والثوابت، يبين أن ميزان الربح والخسارة ثابت أساسي في أهداف وإجراءات وعلاقات الدول لتعظيم مصالحها وأرباحها المادية والمعنوية وتقليل التكاليف وتجنب الخسائر. ومن أجل هذا الهدف المزدوج خاضت وتخوض الدول الحروب الباهظة الأثمان والضحايا على أمل أن تنتصر ربحاً وتتجنب الهزيمة خسارة.. ورغم أن الأفكار المثالية التي تُغلّب القانون والحق والعدالة وقواعد القانون الدولي، في حفظ حياة الدول وشعوبها ووجودها ونموها وتقدمها ودفاعها المشروع عن النفس (وكلها جوانب تقوم على ثنائية الربح والخسارة ويتم توصيفها أخلاقيا بثنائية الخير والشر وغيرها من التوصيفات القيمية) تُمثل أملا وحلماً ودعوات مستمرة لم تنقطع لدى الشعوب والكثير من المفكرين والفلاسفة والتيارات الفكرية المتعددة، إلاّ أنّ الواقعية السياسية المتجهمة في العلاقات الدولية، علاقات المصالح والقوة التي تحميها، مازالت هي النمط السائد والمتكرر بين الدول على الرغم من التقدم الذي حصل في التنظيم الدولي الذي أفرز منظمتين دوليتين(عصبة الأمم والأمم المتحدة) ومحاولة أنسنة العلاقات الدولية عبر العهود والمواثيق الدولية والمبادئ والمقاصد التي تضمنتها وفي مقدمتها منع إستخدام القوم في العلاقات الدولية والمساواة في السيادة وغيرها من الأفكار التي تحاول الخروج بالمجتمع الدولي من همجية "حرب الكل ضد الكل" إلى رحاب الأمن والسلم والتعاون الدولي من أجل الرخاء المشترك للبشرية جمعاء.. لكنّما قدر السياسة ربما، على المستويين الداخلي والدولي وفي منحاها الواقعي خصوصاً، ألاّ يكون السياسي صادقاً على طول الخط وإلاّ خسر فرصته في تحقيق أهدافه، إنه يكذب ويغش ويُقسم بكل المقدسات ويُقدم سيل الوعود وبعضها متناقضة، ويُسمي ذلك تكتيكاً أو مناورة أو أحكام الضرورة، حتى يتملص من محكمة الأخلاق الاجتماعية والمثالية.. وقد إختار ترامب التعبير الحر عن أفكاره وأهدافه السياسية واضعا إياها مباشرة في قالب الربح والخسارة بمنطق التجارة وبدون اللجوء إلى المواربة والغطاءات والشعارات الأخلاقية، وعلى أرضية "أمريكا أولا" و"أمريكا العظيمة من جديد"، فهو يريد السيطرة على كندا وغرينلاند وقناة بنما وإيقاف الحرب في أوكرانيا والعدوان في غزة، حتى يحقق ربحا مادياً وأمنياً في نفس الوقت لتعظيم مصالح "أمريكا أولا" وإن تبرّع بهامش حصة من الربح لبعض الحلفاء خصوصا الكيان الصهيوني عبر الإحتلال والتهجير وتوسيع دائرة الإحتلال في الدول العربية الأخرى، وهي أرباح ميزانها حسابيا وليس إنسانيا، ومن جهة أخرى أطلق موجة من الرسوم الحمائية على الحلفاء والخصوم معا، الإتحاد الأوربي وكندا والصين وبعض الدول الأمريكية اللاتينية والآسيوية والأفريقية، بهدف ضمان وارد نقدي بمئات المليارات من الدولارات من أجل أن تكون "أمريكا عظيمة من جديد".. ومن أجل كبح أي تطور أو نجاح محتمل للملف النووي الايراني وما سيتركه ذلك من خسائر متوقعة للمصالح الأمريكية وفق المعلن من التصريحات والدراسات والتقارير، إستأنف من جديد جولة التفاوض مع النظام الايراني لتفكيك مشروعه النووي وأسلحته البالستية ووضع حدّ لتهديده ومحوره في الوطن العربي والمنطقة بشكل عام.. وعملياً بدأ ترامب جولة في بعض دول الخليج العربي لتحقيق أهداف سياسية وإقتصادية وأمنية تندرج في إطار ما سماه شراكة إقتصادية وإستراتيجية قد تصل إلى أكثر من ترليون دولار، والترويج لتوسيع دائرة التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت مظلة ما يُسمّى تزييفاً بـ((الاتفاقية الإبراهيمية للسلام)).. وميزان الربح المادي والأمني والسياسي واضح في هذه الجولة لصالح أمريكا العظيمة أولا والكيان الصهيوني معاً بإعتبار هذا الكيان إحدى أهم المستوطنات المتقدمة لمصالح هذه العظمة وضمان بقاء الوطن العربي ممزقاً في حالة إستنفار ودفاع سياسي وعسكري وأمني وإقتصادي وإجتماعي وشعبي وصراعات بينية وتعثر في التنمية والتقدم العلمي والتكنلوجي.. وفي مواجهة كلّ هذا الحراك الخارجي الطائر لترامب يختصره الرأي الدارج بأنه صفقات تجارية يقوم بها رجل أعمال وليس رجل دولة، ويمكن فهم لجوء خصوم ترامب في الداخل الأمريكي وأوربا على هذا التوصيف لأنه هدّد بشكل مباشر مصالحهم وتجبرهم وإصرارهم على إدامة الحروب والنزاعات والعقوبات خصوصا في أوكرانيا، لكن لا يمكن فهم تكرار هذا التوصيف في الإعلام والرأي العام العربي، إلا بكونه إما تلقياً سلبياً لما يروج له الإعلام الأمريكي الأوربي المعادي لظاهرة ترامب، الذي كشف حقيقة الحضارة الغربية التي خُدعنا بها طويلا لنكتشف بعد طول معاناة إنسانية وفكرية وضحايا بالملايين، إنها مجرد كذبة قائمة على الكراهية للآخر والتعصب ضده وعدم إحترام كرامته وإنسانيته وحقوقه وخصوصياته الثقافية والحضارية وإستغلال ثرواته ومردود شعوبه، وأنها تُمثل بقايا ما هو الأسوأ من مخلّفات العصر الحجري والقرون الوسطى.. أو أن العقل العربي والإسلامي مازال يعيش في دائرة العلاقة الملتبسة بين السياسة كتعامل محسوس مع متغير يومي ومصالح دولية متعارضة وقوة حامية لها، وبين الأخلاق كمنظومة قيمية قد تلتقي مع السياسة في بعض الجوانب وتحيّدها في جوانب كثيرة تحت ضغط منطق الدول وضروراتها وحاجاتها وثابت الربح والمكاسب والخسارة والتكاليف.. لذلك فإن مفهوم الربح والخسارة في السياسة لا يقدح من ترامب، والسياسي (أي سياسي) بشكل عام إذا كانت أهدافه موضوعية لصالح أن تكون مصالح وطنه وأمته ومواطنيه أولا، وأن يكونوا عظماء، لكن بشرط ألاّ تكون الأولوية والعظمة على حساب أمم وشعوب أخرى وفيهما إستغلال وإقصاء مادي أو معنوي لها، وإلاّ فإنّ الأمر سيكون خسارة على الجانبين وإن تحقق الربح لصاحب الأولوية والعظمة.. فهل فيما نقول مدحا أو إنحيازاً لترامب؟ قطعاً لا.. فترامب يبقى في النهاية جزءاً من السياسة الأمريكية ومنحاها للهيمنة التي عانينا منها الأمرين في العراق والوطن العربي بشكل عام، من إحتلال وإرهاب وإبادة ونهب للثروات وتدمير للحواضر والعواصم العربية، لكن كان هدفنا فقط تفكيك العلاقة الملتبسة بين السياسة والأخلاق إرتباطا بميزان الربح والخسارة، بإختيار ترامب نموذجا لمن يعمل لبلده أولا حتى يكون عظيما بغض النظر عن الموقف ضده أو معه وعلى الرغم من انّه يُمثّل دولة معادية للوطن العربي على مدى العلاقات العربية الأمريكية التي لم تخرج وماتزال من دائرة العداء المتبادل إن بأدوات أمريكا الصلبة أو الناعمة، وذلك بهدف الخروج من دائرة البطولات والإنتصارات الزائفة والثقافة السياسية الشعاراتية وسلوكها العدمي وحالات الإنكار المؤدلجة، عبر المغامرة بأرواح المواطنين ومصائرهم ومستقبلهم، دون التبصّر العقلاني بوقائع ومعطيات ومدخلات ومخرجات ميزان الربح وتكاليف الخسارة من منظور الإنسان العربي والوطن العربي وحدهما اللذان يستحقان أن يكونا عظيمين أولا وأخيراً.
بغداد في 16/ أيار- مايو/ 2025
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟