أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار الجميلي - أزمنة بغداد المدَّورة- مسرحية قصيرة















المزيد.....



أزمنة بغداد المدَّورة- مسرحية قصيرة


عبد الستار الجميلي

الحوار المتمدن-العدد: 8553 - 2025 / 12 / 11 - 12:32
المحور: الادب والفن
    


أزمنة بغـــــــــداد المُدّورة
مسرحية قصيرة
د. عبد الستار الجميلي

الزمان: كل الأزمنة
المكان: بغداد المدورة وأبوابها الشمالية والشرقية والجنوبية والغربية
الشخوص: غير محددة تظهر مع المشاهد، لكن الشعب بمواطنيه هم الفاعل وسيّد الحوار.

المشهد الأول
(يظهر حراس البوابات الأربع مجتمعين حول مائدة غير ظاهرة وسيوفهم ملقاة بغير نظام على الأرض.. وثمة شخص قادم من بعيد يقترب شيئاً فشيئا.. ينتبه الحراس بوجل، وما إن يقترب حتى ينتفضون معا ويصرخون بالسؤال ؟) .
حراس البوابات مجتمعون: من هذا القادم في عتمةِ هذا الليل الموحش؟ أَأُنسي أنت تطلب حاجةً.. وقد عَزَّت علينا الحاجات.؟. أم جِنّي جاء يسرقُ من أهدابِنا سكونَ الليل.. ويُلقينا في جُبّ الخوفِ والمفاجآت؟
القادم: أنا الشاهد القادم من نواحي ومسافات بغداد الأربعة.. أحمل مكسوراً أخباراً مُحزنةً مُروعة.
حراس البواب المجتمعون: يا نذرَ الشؤم ما أنت به قادم؟ ألم تستطعْ إدخارَ أخبارك حتى الصباح.. حتى نتمتع بسلطانِ النوم وأحلام البهجة، بدلاً من وخزٍ الأجفان ودبيب الغَصّة.
القادم: ما أثقل ما أحمله من أخبارٍ نائَت بها كتفاي المُجهدة.. وأحنت سنابكها ظهري المثقل بالسياط والشمس المُحرقة.. وفي حلقي نبتت أشواكُ ألف غَصةٍ وغَصَّة.
حراس البوابات مجتمعون: هات ما عندك يا طيرَ البوم، قبل أن تُطيحَ سيوفنا برأسك المشؤوم، الذي أينع وقطافه قد حان حتى عروق اللسان.. (ضاحكين) حتى عروق اللسان والأسنان.
القادم: لا تستعجلوا قطعَ الرؤوس بسيوفكم الصدئة، إشحذوها وأخرجوها من غمد الوالي والسلطة، فالقادم ليس نزهة.
حراس البوابات مجتمعون: ويلك أتهذي وتَجهر بكلماتٍ ممنوعة بصوتٍ مسموع؟ أَلمْ تصلك التعليمات، حتى الهمس ممنوع؟ يا ويلنا وويلك.. أتتجرأ على والينا وولي النعمة، وفردوس السلطة؟
القادم: آه من الوالي والسلطة، منذ أن قُطعت لسان الحقيقة وسُملت عيون الرائي، لم تعد بغداد حقولاً مدورة، بل باتت أعشاشاً وأوجاراً لدبابير وعَسَس السلطة.
حراس البوابات مجتمعون: (وقد فقدوا الصبر) لنُجرد السلاح ونقطع رقبةَ هذا المتسول الأرعد، الذي كفر بقدسية والينا (حفظه الله) الأبقى والأوحد.
(يستلون سيوفهم وما إن يقتربوا من الشاهد حتى يتوارد إلى سمعهم دوي كهزيم الرعد وشظايا ولمعان البرق)
حراس البوابات مجتمعون: ( وقد أخذتهم المفاجأة ؟!) ما هذا يا نذرَ الشؤم؟ أهذا ما كنتَ تُخبئه لتُلقيه علينا حبلاً مِن مسَد، ملتفاً حول رقابنا كثعبانٍ سامٍ أرقط؟ قُلْ ما عندك فقد عِيلَ صبرنا ونفذ، أكثر مما تُطيقه أحشائنا المُختضّة، فأوامر والينا سياطاً مشدّدة.
القادم: منذ قدومي وأنا أحاول أن أخبركم بما تخبئه فصول المحنة.. لكنكم صُم بكُم عُمي لا تسمعون ولا تفقهون ولا تبصرون، فجمر السلطة يحرقكم بجبروت وليّ النعمة.
حراس البوابات مجتمعون: (يتفاجئون أكثر وقد أخذهم الخوف) هذا مهذار مخبول، يهذي ولا يُدرك عواقب ما يقول.. يا وَيلَكْ حين تُمسك بأضلاعك قضبان الزنزانة، وتلتف حول رقبتك حبالُ السلطة، لتقتصَّ منكَ ومِمَّن حشوا دماغك الخَرِف بجراثيم الرِدّة.
( يزداد الدوي والبريق، فتظهر علامات الخوف مضاعفة على الحراس فيتوجهون بقلق بالغ إلى القادم)
حراس البوابة مجتمعون: نحنُ الذين نوشكُ أن يُداخلنا الرعب والشَّك بما نرى ونسمعْ، نستحلفك أن تُلقي علينا ما في جعبتك من أخبارٍ قد تنفعْ.. لعلَّنا نسعى لإنقاذك مما سوّلت به نفسك.. ولا نتفوه بأيّة معلومات لحاشية الوالي وسيافي السلطة، وَسْوس بها الخنَّاس حروفاً رِجسة.
القادم: لستُ قلقا من الحاشية والسيّافين وسيدهم، ولا عليهم، فأنا أستنجد بالباري في اليوم مرّات ألف بعد مرة، أن يُخلصنا منهم ويأخذهم بالريح الصَرْصَرْ أو الصَعقة.. لكنّي أبثُّ قلقي وحزني وألمي على بغداد الأسيرة، يا ويلي، وبواباتها المُحاصرة.
حراس البوابة المجتمعون: ( يصرخون بوجل مرعوب) محاصرة مِمّن؟!، وَيلَكْ أهذا ما كنت تريد التصريح به من خبرٍ جَللْ؟ كأنك كنتَ تَتسلّى بنا كسباً للوقت وتتمهلْ؟ هل أنت شريك تتخفّى بعيون دامعة خادعة، في هذا الدوي والبرق الذي يَفورُ وَيئزُّ كأنّه القارعة، لتنشر الرعب والهزيمة والخذلان قبل الأوان، وتخون والينا المُصان، وبغداد مدينة المدن والنخيل المُحَلَّى والجِنان؟
القادم: بل أنا فرد من عامة الناس، كنت خارج بغداد أزرع ما تبقى من أرضٍ مَداس، كانت يوما ضِرعاً مِدرارا، لبناً وعسلاً وفاكهة من كلّ الأجناس.. قبل أنْ يغتصبها لعابُ الحاشيةِ والسياف، بعد أن أجهزوا على غِلة بغداد، التي لم يَطالها يوماً جوعى الكفاف، من الفقراء والمهمشين والشهداء والمنفيين، والأرامل والأيتام والآباء والأمهات ضحايا الحروب المتناسلة على عدد السّنين العِجاف..، مع أنهم الأغلبية والكثرة الكاثرة، وأصحاب الحق وأولياء النعمةِ والدولة.. فاعتزلتُ تجنّي وقهرَ السلطة، ودنسَ الوالي الناطق زوراً بإسم الله وكتبه المُقدَّسة.. الله الذي به وحده نستعين، والمُتحكم وحده بحياتي ومماتي وحياة وممات الوالي والناس أجمعين.. فرأيتُ...(يقاطعه الحارس الأول قبل أن يُكمل)...
الحارس الأول: ماذا رأيت؟ بالله عليك.. فقد خارت قوانا ولم نعد نرى ونسمعْ، سوى قَرقرات بطوننا الخاوية من الجوع منذ يوم وليلة بإنتظار طلقات المدفع.. والخوف، كلّ الخوف من مفاجئات أخبارك التي باتت أحشائنا على حَدّ إنتظارها تتقطَّع.
القادم: رأيتُ.. (يتهدج صوته من الحزن والوجل) رأيتُ.. إذ رأيتْ عند الفجر رؤيا عَيان لا وَسنان، رأيتُ بغداد الرشيد المُدّورة من كلّ الجوانبِ محاصرة.. وأنتم غافلين تغطون بخدرٍ لذيذٍ عَمّمه الوالي بسياط الخوف وقطع أوتار الحنجرة، وبأنياب الجوع والسكتة، ووعاظ الترغيب والوعيد والرهبة.. حتى تحولت بغداد إلى سجنٍ كبير وقضبانٍ من جهاتها الأربعة مُسّورة، وللمخبرين حتى لذوي الرحم ميداناً وأشباحاً وبؤرة.
الحراس مجتمعون: (بتهكم) وماذا فعلتَ أنت؟ غير الإتهام واللوم وإدعاد الفِطنة.. وربما هرولتَ كعادةِ أمثالك مسرعاً إلى الغزاة، لتقديم ولاء الطاعة والخدمة.. وكسرِ الأقفال وفتح البوابات، والتلويح بالورد فرادى وباقات، لعلّك تحظى بِصُرَّة من الدراهم والعطاءات.
القادم الشاهد(أخذ الآن صفة الشاهد أيضاً.. يصرخ بأعلى صوته): إنتفضتْ حتى تَصلّبت بُصيلات شعري وأخذتني الرَّجفة.. (يشير إلى الحارس المتسائل) إنتفضتْ.. يا هذا القابع خلف أسوار النوم الثقيل وأحلام المسرَّة.. إنتفضتْ.. أنا الممسوس بحب بغداد المُدَّورة.. بغداد التي تسري في عروقها منذ الأزل نبوءات الرفض والثورة، وإن إستسلمت إلى حين، وإجتمعتْ عليها في لحظة مسروقة من التاريخ والسنين، خناجر الزمان وبعضُ مِمَّن إنتسبوا اليها زوراً ولفظاً بلا نسبٍ وبيان.. إنتفضتُ (يتوجه إلى جميع الحراس) يا هؤلاء، نعم إنتفضت كالمذبوح لعليّ أصل بواباتكم قبل أن تطأها أقدام الغزاة المتوحشين من كل حدب وصوب قادمين، للعبث في الدم العربي النازف على مذبح الخيانات وسُعار السّفاحين.. عجمٌ ورومٌ وأباطرة، ومغولٌ وأكاسرة، وسلاطينٌ وقياصرة.
حراس البوابات مجتمعون: يبدو أن خبرك المشؤوم قدْ سَرى وإنتشر، فقد بدأ يتوارد ويتنزّل علينا من كلّ مكان كسريان النار في الهشيم لا يُبقي ولا يَذر.. فماذا نفعل؟ (يتوجهون إلى القادم الشاهد) قل لنا ماذا نفعل فقد أصابنا العَي والشّلل؟ بكلّ غالي وحميم نستحلفك، بأبيك وأمك، وبنيك وأخيك وأختك.. ماذا نفعل؟ وكيف لنا نحن العبيد أن نؤرق والي وعظيم الأمة بأخبارٍ نزقة، وهو المالك لسيفِ الحقّ والقُدرة؟
القادم الشاهد: عبيد! وسيف الحقّ والقدرة؟! ما هذا الذي تنطقون به يا جيلَ الشِّدة والعُسرة؟ هل حقا وصل بكم الحال والإستغفال، أنكم أصبحتم قابلين لتصور أنفسكم قطيعاً تَتلذَّذون بالإستعباد والإذلال، وتلتفون جماعات خلف جماعات، حول جمرة الوالي وتدورون كالحشرات؟ يا وَيلي وويلَ بغداد، كيف للمُستعبدين أمثالكم أن يستلُّوا سيوفهم الصدِئة، ليدافعوا عن بواباتِ بغداد المحاصرة، بعد أن حكم الوالي على الجميع بالعقمِ وقطع الألسنة.


المشهد الثاني
(تبدو بغداد شبه مهجورة.. والأسلحة والعربات ملقاة على الأرض.. والبيوت مدمرة.. والكلاب السائبة تعوي.. وثمة ناي حزين يتوارد من بعيد بشجن يقطع أوتار القلب (موطني يا ذو الجلال والجمال.....). (يظهر حراس البوابات الأربع وقد نزعوا قيافة ودروع وسيوف الحرب وعادوا مواطنين عاديين).
حراس البوابات مجتمعون: هل نحن في حلمٍ؟ أم في كابوس؟ ماذا حدث؟ وكيف؟ أين ذهب الجميع؟ أين الجند الميامين؟ أين حشد المتطوعين؟ أين الملايين المفترضة؟ أين ذهبت خزائن السلاح ساعة المحنة؟
القادم الشاهد:( من جديد وقد تضرّجت يداه وجسمه ووجه بالدماء): وَيحكم أَوَ تتساءلون عمّا حدث ياحماة البوابات المُنكسرة؟ ( وبلهجة حزينة وحسرة) وقد ألقيتم السلاح المُدجّج والشرف المذبوح، في غيابة الفرات ودجلة عند أول هجمة؟! فيما كان ضحايا جلاديكم وحدهم ومن وقفوا عند البوابات بلا سلاح ومَدد، يحاولون الذود يائسين عن الأسيجة المُخترقة، التي هجرها حراسُها المفترضون فارين مذعورين من وقعِ الضربة.. بل كان بعضكم، ويا للأسف، مُتبرعاً بفتح بوابات بغداد الأربعة، مشرعةً حزينةً، يائسةً ونازفة.. وتناسلتم أدّلاءً من رحمِ أدّلاء، وتَشاركتم والغزاة تراثَ الفرهود لبيت المالِ ومؤسسات الدولة.
حارس البوابة الأول: لا تلمنا يا سيدي المُضرّج بالدماء الزكية وغبار المحنة، فقد أَعمتنا عن الحقيقة أبواقُ السلطة، وشهودُ الزّور ودَواةُ الورّاقين في الحانات وعلى الأرصفة، يُجمّلون القبحَ وقتامةَ المشهد بزخارف وتلاوين الكِذبة.
حارس الباب الثاني: وخذلنا الوالي الذي فرّ هارباً مذعوراً مع مَن إختارهم من حاشيته المُبَجّلة، يتوخى السّلامة والنجاة، في كهفٍ أو حُفرة.
حارس البوابة الثالثة: وتَخلَّى عنا القادة والأمراء المفترضين بمسوحٍ وجلابيب بيضاء قافلين، بعد أن تجّردوا من سيوفهم ونجومهم وشاراتهم الحمراء، التي كانت فيما مضى من سالف الأيام والحروب المتواترة لامعةً زاهية مَلساء، يتسابقون مَنْ يَصل أولاً إلى الجانب الآخر من الأبواب المُحاصرة، حتى باتوا نُكتة تلوكها الألسن والحروف كالعَلكة.
حارس البوابة الرابعة: لا تَلمنا ياسيدي، لا تَلمنا فقد آلت سيوفُ الغزاةِ إلى حديد يُطلق حِمم الجحيم بلا مدى، في كلّ مكان كحّيةِ موسى، كانت تدورُ وتَسعى، ونَفخوا في روحِ طيورِ أبابيل سِرّ العصر والحِرفة، وإذا هي أجنحة كأسرابِ نحلٍ تُلقي الوخز والبراكين والرجفة، فإستحالَ ليلُ بغداد المُدّورة إلى نهار من ضوءٍ حارقٍ ودخانٍ وظَلمة.
حارس البوابة الأول(يصرخ بصوت مبحوح): فماذا نفعل، وليس لنا أنْ نهمس أو نشتكي أو نسأل؟ نحن الضحايا الَممسوحين المُغيّبين المَسحوقين منذ الأَزل؟
حارس البوابة الثانية: والسيف المثلوم، كما تعرف ويعرفون، لا يقوى...؟ إنها موازين القوى كما ترى.
حارس البوابة الثالثة: وَوالينا المفتون بذاته العليا والشٌّهرة، لم يتقنْ سوى جنون الدّم، وإستباحة الإرادات، وبهرجةَ السلطة.
حارس البوابة الرابعة: وتوزيع الذل والأسى على البيوت والعوائل الثَّكلى، بعدالةٍ مشهودةٍ هي الأشهر، بحسبِ الأرقام وبطاقاتِ التموين والأنساب حتى الدرجة الرابعة وأكثر، عند الفلق وصياح الديك وفي ليالي الظلمة والأقبية ساعة السَّحر، زُوار فَجرٍ بلا شهودٍ وأثر.
القادم الشاهد: والتَفنّن في حَشدِ الأنصابِ والمغنين والشّعارين والصور، التي كانت تضجّ بها المدن والساحات والشوارع والشاشات وجدران وقواطع بيوت المَدرّ والوَبَر.
حراس البوابات مجتمعون: ليغمرنا نهاراً ووقت العَشِيَّة مزهواً بطلعته البهية.. فاتحاً مُنخريه نحو الشمس ومُتخوصر، ليُذكرنا بخلودهِ اللازمني وجبروت سلطته الأبدية كالقدر، ألف نبوخذ نصر، ونبو خذ نصر.
(مجموعة من الأشخاص تظهر فجأة من خلف المشهد كأنها أشباح وقد عَلَت وجوههم ذرات غبار وصفرة، ويظهر من سحناتِ سيمائِهم أنهم سجناء)
السجين الأول: أحقاً سقط الوالي وهرب السَّجان، وتَفتّحت أمامنا أبواب النهايات والزنازين والقضبان؟ وغمرتنا أضواءُ النهار وحمائمُ الناي والكَمان، وضجيج الشوارع والباعة المتجولين ورائحة المرأة وشواهد الإنسان؟
السجين الثاني: وخرجنا نزحف من تحت الأرض حذرَ الشمس من أنْ تصلي وجوهنا بعد عقود غيابٍ وعَتمة.. فنحن مَن تبقى من دهاليز قطع الأنسال والرؤوس المتدحرجة، وقد شهدنا سجاناً بعد سجان خلف المربعات والدوائر المُقفلة، وجلادين بعد جلادين ينسلّون من ثلاثة أجيال أو أكثر كالقُراد واللّعنة.
السجين الثالث: (يصرخ بأعلى صوته) نحن أحياء الحَظّ والصِدفة.. نحن أحياء الحَظّ والصِدفة.. نحن أحياء الحَظّ والصِدفة؟ لا يحسدنا سوى الموتى بلا شواهد وقبور ودَمْعة، تأكلُ أجسادَهم الغَضّة ثعابينُ الجحورِ وهَوامُ الأنهارِ والوَحشة.
السجين الرابع: لكنّما يا أصحابي.. يا أصحاب القضبان والكُوَّات المُغلقة، وأحياء الحَظّ والصِدفة.. لكنّما سنابك الغزاة قتلت فينا الفرحة، وألقت بنا من جديد مأسورين مصلوبين بين البينين في خِضّم المقتلة، نار إكتوينا بها مَضَت، ونار بين أضلعنا هاجَت وتَجمَّعت، وقادم الأيام، ياويل أولادنا وأحفادنا، مُثقلٌ بالأسى ومُترعٌ بالمجهول، والخيارات تقضّ مضاجعنا بفيض الأسئلة والأنصالِ والسيول.
القادم الشاهد: فكيف يجتمع الضدّان...؟! أنْ تغمركَ الفرحة بسقوط الوالي والقُضبان.. وفي ذات اللحظة يَحزُّ شرايينك والأوردة حتى البِنان، إحتلال بغداد وأسوارها الأربعة وجنانها المُعَلّقة.. معادلة صعبة؟! فَمَن يَملك حَلّ العُقدة؟ مَنْ يملك حَلَّ العُقدة؟


المشهد الثالث
(بدأت ساحات بغداد تشهد خطواتٍ قلقة وعيوناً حائرة، وأسئلة معلقة.. يظهر شخصان تبدو على أحدهما سيماء المثقف أو شبه المثقف.. والآخر تبدو عليه سحنة ومكر السياسي أو ظلّه.. ففي ظلّ معايير المرحلة الرمادية القلقة والأوراق المُختلطة، لا فرق بين المثقف وشبهه وبين السياسي وظلّه)
المثقف: وماذا بعد؟ وكيف؟ ومتى؟ تستعيد بغداد بعضاً من بريق أقمارها الضاحكة، بعضاً من لآلئ مصابيحها سابحةً في مياهِ دجلة الخير، وسقيي نخيلها الباسقة؟
السياسي: دعنا لا نُكثر الأسئلة، فبعضها تَقود إلى الإختفاء أو المقصلة، دعنا نَستثمر غضبَ ووجل َالناس، وحاجةَ الغزاة لمخبرين وكتبة.
المثقف: ويحك، أتشرب من دم أخيك حيّاً، وتتاجر بلحمه رخيصاً، في مسالخ بغداد المنصوبة، في الشوارع والساحات والأزقة؟
السياسي: إنها الواقعية والتكتيك يا صديقي، الغارق في أكفان المبادئ وتوابيت الثورة.
المثقف: الثورة.. الثورة.. لقد حَرّكت في شغاف قلبي نصلاً مكسوراً وحَسرة، وذَكّرتني بشيءٍ فظيع يقطع الأحشاءَ والحُنجرة.. الثورة.. الثورة المغدورة.. المدفونة بين متاحفَ التنظير وخناجرَ الخيانات وشفافيةَ الشعارات المُبتذلة.. حتى.. حتى.. يا لحزن الخيول إذ تتذكّر.. حتى أكلها أبنائها ولم تأكلهم.. ألا بئس من إتهمها بأنّها تأكل أبنائها قطعةً بعد قطعة.؟. هي من صارت أُكُلةً على الموائد والحانات ومؤشرات البورصة.. فالثورة باتت أرملة بلا ثوار.. فقد غاب عبد الناصر وجيفارا.. ورحل كاسترو وهوشي منه.. وإختفى مانديلا وبن بيلا.. ولم يعد للشعب مُرتجى وإنطفأ لهيبُ الرفضِ والثورة.
السياسي: (بإستهزاء) الثورة.. الشعب...؟! أُنظر حولك أيها الممسوس بسحرِ الكلمات ورصف الجمل الكبرى.. اُنظر حولك بإمعان وإفتح عينيك المغلقة، أبواب الأرزاق والدواوين مكسورة أو مُقتلعة، تنهبها جموع الشعب، أصحاب المصلحة في تنظيرات الثورة.. موجةً بعد موجة.
المثقف: إنهم يسرقون أنفسهم ولا يدرون، أخذتهم حُمّى المشهد والدهشة ولا يَعون.. كانوا جوعى للَمنّ والسّلوى يَتنّزل عليهم في الرؤيا بلا حدود.. وكانوا مُكبّلين فساحوا في مدياتِ الإنطلاق بلا سُدود.. كانوا يائسين فلاحت لهم الآمال التي كانوا يقبضون عليها جمرا من إرث الراحلين والشهداء بلا قيود.
السياسي: كلماتك تُثير الشفقة مثلك.. تُبرر ولا تُحلل.. إفتح عينيك وحّرر عقلَك من أوهامِ الغَفلة، هذا دَيدَنهم وإرثهم، يتحينون الحواسم والفرهود عند أول فرصة.
المثقف: وما كان دورك أيّها المُنظّر العتيد؟ أو لستَ مَنْ خدّرهم بمديح الوالي المُلهم، حتى صدّقوا وأخذهم الحال يرقصون ويصفقون كالدراويش فرادى وجماعات مذبوحين، وهم يلوكون ألسنتهم والقيد والحصرم.
السياسي: ومَنْ كان يكتب الأناشيد والمديح، ألستَ أنت مَنْ صَيَّر الكلمات بخوراً وتسابيح؟ ودفوفاً وأصوات تعلو وتصدح، وأغاني تملأ الشاشات والعقول بوقع ثقيل، كان يرددها الأطفال في الصفوف بلا وَعيّ كأنّها تَراتيل.
رجل مار: ما بالكم تتراشقون بالكلمات.. وتكيلون لبعضكَم الإتهامات تلو الإتهامات.. وتنسون أنّكم كنتم علينا لا لنا.. بعضكم كان يصنع معبوداً ومعبداً وبخوراً وعابدين، من عويل اليتامى والأرامل وجثث المدفونين، ومن دماء الشهداء وصرخات المسجونين.. وبعضكم الآخر كان من خلف بوابات بغداد الأربعة وعبر البِحار والمُحيطات يَتسوّل ويتبرّع بالخدمات، وَيتوَّسل صَيرورتَه والياً جديداً على أجنحة العودة وعربات الغزاة.
المثقف: وماذا كنتَ تُريدنا أنْ نَفعلْ؟ والحيطان آذان ومَجسَّات تنقلُ حتى الشَّهيق والزَفرة.. حتى بات َالإبن يبيعُ أباه وأبناء عمومته والإخوة.. قسوة وقطيعة لا صلة رحم ولا رحمة.. بين البيوت والجيران وداخل الأُسرة..
الرجل المار: الخوف.. الخوف.. الخوف، بغداد يا مدينة الخوف والأحزان، صِرت ِبلا مَددٍ ومِدادٍ وفُرسان.. وبدلَ الوالي الواحد، سَقطنا في جُبّ مئات الوِلاة، يتقاسمون فيما بينهم الريعَ والسُّلطات.. ويَتحاورون بلسانِ المُفخَّخات، ويَتناوشون بِساطور المِيليشيات.. ويَتبادلون ما ينطبق عليهم صحيحَ الإتهامات.. ويُعيدون إنتاج أربعة قرون بعد الألف وأكثر من دوامةِ الكراهيةِ والأحقاد والقوةَ والغلبةَ والثارات.. ومازالوا يَتسّولون، كعادتهم، على أبواب العواصم والسَّفارات.
رجل مار آخر: (يشدو بصت شجي حزين) عُدنا للشكوى مِن جديد..
ولا جديد..
لا جديد.. تحت شمس بغداد المحكومة بالأَسرِ المؤبد، وجحافلِ الغزاة كلّ مائةِ عام..
ودوام الحال لم يعد من المُحال، ولا كتابٍ خيرَ جليسٍ في الأنام..
فنهر دجلة على موعدٍ دائمٍ بالأحبارِ والدّماءِ والآثام..
وكينونتنا كما كانت وكُنّا لُعبةً بأيدي اللصوص والأميين والحُكَّام..
بإنتظارِ المُخلّص المَوعود يأتينا من خلفِ الحدود..
على أفراس من صهيلٍ وحديد..
وحِممٍ تبعثُ الأحلامَ أو الأوهام كالهزيمِ والرُّعود..
ما أتعسنا.. ما أتعسنا.. ما أتعسنا..
كَانّ نطفةَ تاريخنا العتيد..
لا تَلدْ سِوى العِصاب والأضداد والجحود..
وثلاثية الطُّغاة والجّلادين والعَبيد..



المشهد الرابع
(حشد من المواطنين يتجمعون على غير هدى، وتنتابهم الحيرة وتدور بينهم الأسئلة وإجاباتها المختلفة، التي تعكس فوضى المشهد)
المواطن 1: ما العمل الآن؟ ومن أين نبدأ؟ الغزاة ينتشرون في المدن والشوارع والأحياء وفي كلّ مكان.. حتى القرى لم تسلم من زناجير عرباتهم والغُربان.. يستعرضون قوتهم بمنع أو سلب المارة وإقتلاع الأشجار والسّكان.
المواطن2: الواجب يفرض علينا أن نَردّ الصاع صاعين وبالألوف والمئات، ونلتقطهم فرادى أو جماعات.. بالمنجلَ والأظفارَ أو العَبْوات.
المواطن3: (يأتي مسرعاً) جِئتكم بالخبر اليقين البات، يبدو أن الغزاة وخليطاً مِمَنْ تعاونوا معهم أو من نَهَّازي الفرص، أو مَنْ يحاولون، بحسن نية ربما، لملمة ما تبقى من حياة.. إجتمعوا أو جمعوهم بطريقة أو بأخرى خلف البوابات، لبحث المُمكنات في زحامِ الفوضى والفتك المُتبادل والشِّتات.
المواطن 4: لكن السّيولة والتوقعات والإحتمالات تضربُ الشوارعَ والساحات.. والسؤال المكلوم معلقٌ في الرؤوس كدويٍ محموم، ولا تسمع سوى همسٍ سرّي مكتوم.. يتنقل ين الناس بلا هدى، ويتردّد في أعماقِ النفوس المتعبة كما الصّدى.
المواطن 5: وما رشحَ من أخبارٍ قبل لحظات.. والعهدةُ على الراوي والشاشات، إن ما تَفتَّق عن ذُهانِ الإجتماعات كومةً من الولاة، يتناوبون بين فترة وأخرى مثقلة بالدم والأسى، إرضاء الذات.
القادم الشاهد(يظهر فجأة): لا غرابة فقد وجد الغزاة أن الإختيار صار مستحيلاً بين جحافل من طلابِ الولاية، كُلّ يدّعي الوصلَ ببغداد وأنّه الأولى والأجدر بالملكِ والسيادة.. فإختاروا جمعهم على كرسي ساحر واحد بلا مسافات.. نظرية فريدة في السُّلطة تُضاف إلى تاريخ النُظم والسَّلالات، والتبادل السلمي، كما يقولون، للسُّلطات.
المواطن 6: ما أتعسنا بدل جداريةٍ واحدة صرنا نُنتج آلاف الصور والجِداريات.. وإنتقلنا من عبادةِ الأشخاص والجماعات إلى عبادةِ الذات.. لا فرق، قتلة أو مقاومون أو ولاة.. مرشحون أو مقاولون أو سياسو بورصات.
المواطن7: (يأتي من مسافة قريبة يلهث راكضا): هل سمعتم آخر الإشاعات.. يبدو أن جماعةً أو جماعات بدأت تُسدّد الضَّربات.. والأخبار تتداولها القنوات.
المواطن8: والغزاة فيما يبدو مستنفرون، بين متر وآخر ينتشرون.. حتى بات الإنتقال بين المدن والقرى مستحيلا على الطرق المُعبّدة، إلا التَّسلل خفيةً عبر الطرق الترابية أو الوديان والأزقة.. والولاة الأكثر خوفا، إنّهم يبنون الجدران والمناطق المُسيّجة، لعلها تقيهم من غضبِ الشعب المقهور وتوقعات قادم الأيام وإحتمالاته المُثقلة.
المواطن 9: هل تَحققتْ نبوءاتُ الرفضِ والثورات؟ بعد قرون من أمراض الإنكفاء المُزمنة، وغيابِ اليقين وورم الإحباطات؟
المواطن 10: ربما يلد الرحم العاقر توائم المعجزات...؟! لكنّ الخوف كلّ الخوف من المجهول، وتعدد الولاءات.. والجماعات..
المواطن 11: علينا الإنتظار.. ولا نحكم قبل الأوان وتجميع المعطيات.. المهم أن تكون البوصلة موجهة بحرص دائما ضد الغزاة.
المواطن12: قبل البوصلة.. أن يكون الجهد موحدا في الدم والسلاح والغايات، حتى لا نُسرق ونُباع في عواصم البورصة والحانات.
القادم الشاهد (يكرر الظهور): لا نعرف بعد ما يخبئه المجهول؟ فتراثنا المروي والمكتوب، مختلط الأوراق والتأويلات، ودروسه مريرة في تغيير الأضداد والولاءات.. ولا يخلوا من عِرقٍ دساس أدمنَ عَتمةَ الليلِ وفتحَ الأبواب والخِيانات.
المواطن13: (مِن بعيد يولول) خطفوا إبني أولا ثم أخي، ووضعوا رأسيهما أمامي في كفّة، وأتاوة المال في ثاني كفّة.. وعلي أن أختار بين الرمضاء والنار.
المواطن14: إختلطت علينا الأوراق.. ولم نعد نعرف إلى أيّ ضفة نرسو بمركبنا الغارق ونلوذ، والموج عالٍ والفيض بلا قاع.
المواطن15: في هذا الليل الحالك وهذي العَتمة، كيف نُميّز حاملَ الورد والبهجة.. مِن حامل الخنجر بين طيات العِمامةِ والجُبّة..
المواطن 13: (يتحدث عبر هاتف صغير، ويصرخ بأعلى صوته) يا ويلي قطعوا رأسيهما إبني وأخي.. أيُّ دين أو شرع يقبل؟ أي إدارة للتوحش هذه لمخبولين، من تشوهات جينات التاريخ والكراهية والحقد قادمين.
المواطن 14: صبراً يا أخي فدوام الحال من المُحال.. فلستَ وحدك الضحية، فالذُهان واحد للقابعين على طرفي المشهد السابق واللاحق، في كراهيةِ البشر وإستسهال الخطف ونحرَ الأعناق.
المواطن 15: صه أنت وهو(يُشير إلى المواطنين 13 و14).. فالعَسَس والمخبرين ينتقلون بيننا بأكثر من وجهين، لذا علينا بالمُستطاع حتى لا نُباع.
المواطن16: عدنا للهمسِ من جديد.. ما إن إستعدنا ألستنا حتى قُطعت بمشابك من مرويات وحديد.. فكيف لنا أن نصرخ أو نهمس أو نستغيث، والألم شديد.
(يتسلل شخص من بين المجتمعين تبدوا عليه سيماء الجدية والهدوء أو التظاهر بهما، وبعد صمت يبدأ الشخص يتكلم بنبرة هادئة)
الشخص المُتسلّل: أنا مثلكم أمقتُ الوالي السابق والولاة اللاحقين.. وأمقتُ أكثر الغزاةَ والسلطة، ومثلكم تتنازعني الحيرة وتأكلني الصّدمة.
المواطن 17: دعنا مِن المقدمات، فجميعنا نكره ونتكلم أو نُحب ونتكلم، حسب تغير الظروف والوِلاة، وحجم ونوع المُقابل والمكافآت.. فهات ما عندك ودعكَ مِن التوريات.
الشخص المُتسلل(يعلن أنه مرشح للإنتخابات): حتى نستعيد وجه بغداد ولياليها الألف ليلة وليلة، وبساتينها الغنّاء النظرة .. وحتى نواجه الغزاة عليكم أن تختاروني في هذه الدورة من الإنتخابات.
المرأة1 (تندفع من بين الجموع): أيّ إنتخابات هذه التي تُروج لها في ظل زناجير الغزاة، وقطع الرؤوس والقتل على الهوية والسِمات.. والسكاكين المشرعة لتقطيع أوصال الوطن والمواطنين والأرض والثروات؟
المرأة 2 (تندفع هي الأخرى): مؤكد إن الإختيارات، يا مجتمع الذكور، ستكون صناديقا مقفلة لتزييف الإرادات.. وسيكون الإختيار، شئنا أم أبينا، بحسب الإقطاعيات والمدار.. ولن يخرج أحد عن سكة المحراث والجرار.. عبيدٌ بالقسرِ والوراثة، يختارون سادةَ الشعور بالنقص والإستجابة بالتعويض والسّيولة والِصدفة.
المرأة 3: (تهتف) فليحيا الإغريق إذ أبدعوا، أيما إبداع، بمنع التصويت عن عبيد الكراهة، لأنهم سيُجبرون على التصويت لسادتهم المتحكمين بالحياة والنسل واللُقمة بلا إرادة.
المواطن 18: (يتوجه بحديثه إلى المُرشح المُستقل) إبحث عن غيرنا يا هذا، وأُنثر دراهمك في حارةٍ أخرى أو في إحدى الحانات.. أو أهديك نصيحةً ذهبية، إذهب مباشرةً إلى إحدى سفارات الغزاة أو الجيران في الشرق والشمال، لعّلك تكسب وٍدهم بتقديم الخدمات.
المرأة4: فديمقراطيتكم ليست أكثر من إستبدادٍ مُقنَّع يتداوله الأميون واللصوص والطغاة بلا عِقاب.. وارادة ٍمقطوعة الأصابع في صندوقِ الإنتخاب.. ومالٍ عام منهوب بلا مالك مُشْرع الأبواب.. وحدودٍ مفتوحة للداخلين والخارجين بلا حساب.
المرأة 5: تَسرقون وتَستثمرون بلحمنا وأموالنا وأحلامنا المكسورة، لتشوهوا ببثورِ صوركم الكالحة وجه شوارعنا المأسورة، وبلحمِ ثورنا المذبوح تمارسون لعبةَ رشوتنا عند كلّ دورة.. حتى تحكمون شَدَّ نير إنتخابكم حول رقابنا مَرةً تلو مَرة.. لعبة قذرة حولتنا بين أيديكم إلى مستعبدين ورهائن ومحكومين بالخديعةِ والقسرِ والقوة.. فمَنْ يكسرْ القيد ويُعلن التمردَ والثورة؟
الشيخ المُسن: نحن يا بُني أرض السَّواد والبَلاء والسَّوءات.. بين كلّ سنواتٍ عجِاف وأخرى يخرج من بيننا طاغيةٌ أو طغاة، يسومونا سوءَ العذاب، يَستحلّون الدماءَ والأعراض والأموال وتنويع الولاءات، ليسّلمونا حين تخور قواهم للطامعين والغزاة.
المرأة 6: فقد تناوبتْ على ذبحِنا سيولُ الطُغاة ومَن والاهم من العاقّين والوِلاة، من الإغريق والفرس إلى المَغول والكِيانات، ومن الصفويين والأتراك إلى الأوروبيين والأمريكيين والمُكونات.
الشخص المرشح: سَتندمون والله وتضيعون فرصةً لن تتكرر في مخبوءِ قادمِ الأيام.. فالليل سيطول بلا ضوءٍ ونهار، وحدودكم مفتوحة، وستضيعون بين الدُّول والزحام.
المرأة 7: إسمع النصيحةَ يا إبن العم، وأسرع قبل أن يفوتَك القِطار وتغادرك أوراقُ الحظِّ والوَدَع وجنّات السُّرر.. فأبواب العواصم والسفارات مكتظة بالوجوه والصور.. وتسجيل الأسماء والهبات مشرعة لمن يفوز بأفضل الخدمات والأدوار والدُّرر.

المشهد الخامس
(بغداد هادئة على غير عادتها.. الشوارع شبه خالية إلا من بعض المارة الذين يَحثُّون الخطى فيما يُشبه الركض.. كأن الزمن قد توقف والأشخاص دُمَى تحركها خيوط غير منظورة..)
القادم الشاهد(يظهر من جديدة كأنه لازمة أو قدر): سنون مرّت ونحن على نفسِ الحال.. ولاةٌ يذهبون وولاةٌ يجيئون.. موالٌ بعد موال مشوه الأنغام ومقطوع الأوتار، والغزاة الذين أضافوا لإحتلالهم وجوه إحتلال جديدة من دُول الجوار، وحدهم مَن يُمسكون بخيوط اللعبة وإطلاق النار والمسار.. فبغداد صارت مسرح دُمَى يتداول فصولَها المُدمّاة ممثلون من الدرجةِ الدنيا.. لا يُجيدون الدور ولا النطق بالعربيةِ الفُصحى.
المواطن1: والخوف سيد الموقف يتنقل مع عقارب الساعة، والقتل المجاني متبادل من يقتل أكثر؟ مباراة مسابقة، والحدود بلا حراس باتت مباحة.. أكثر من مدينة سقطت من جديد بيد إرهاب الحشاشين، كأنّ التاريخ المٌثقل بالدَّم والأنين، يُعيد نفسه بوجوه أكثر توحش وقسوة، بفتاوى الدم والسكاكين مُسلّحين.
المرأة1: والرايات السود تَتمدَّد على جثثِ المقتولين والسبايا والمخطوفين.. والجنود المفترضون يَفرُّون إلى المجهول، وبين العوائلَ الهاربة من الجحيم يَتخفّون.
المواطن 2: حتى الدِّين الحنيف صَيّروه بِضاعةً للتكفيرِ والإستلاب والتجارة.. وعباءةً فِضْفاضة، تَتسعُ كلَّ يومٍ لِمَنْ يَتخفَّى تحتها من الغزاةِ والولاةِ وأمراء الدم وشيوخِ الفتنةِ الفاتنة، على طرفي مشهد التحريض والطَّائفة.
المواطن3: ربٌ واحد ودينٌ واحد وكتابٌ واحد ونبيٌ واحد.. لكنّهم صيّرونا شِيعاً ومَذاهب، ومِلل ونِحل وَمشاجب.. حتى باتت الكراهية والضغينة قَيحاً مَلعوناً يَسري مَسْموماً بين أبناءَ الوطنِ الواحد، والرحمِ الواحد، والمصيرِ الواحد.
الشيخ المٌسن: ذاكرتي المُتعبة مازالت تختزن فصولاً عُشتها سنواتٍ طِوال، ومرويات مُرعبة تناقلتها قبلي مخزوناتُ الأجيال، لكني لم أشهدْ مِثلَ هذي الأيام الثِقال.. أكثر من قابيل يلعق دمَ أخيه هابيل صُبحاً ومَساء.. فمَنْ نحن يا تُرى حتى عن أنفسنا أصبحنا غُرباء؟ إنقلبت الصورة وبتنا أشدّاءً فيما بيننا وعلى الغزاةِ والغرباء رُحماء.
المواطن 4(صارخاً بأعلى صوته): حتى صارَ الفتى العربي غريبَ الوجهِ واليدين واللسان، يَستعيدُ وجهَ المُتنبي المُجْهد بالأحزان.. في زحمةِ البَلبلةِ والعُجمةِ والرَّطانةِ، وبيعِ الأصلاب في سوقِ الدُّولِ الكُُبرى والصغرى والنَّخاسة.
المواطن 5: أكثر من عشرةِ قرونٍ وأربعة، وزماننا يُراوح مَدميّاً مَرميّاُ مُهملاً في دائرةِ الأضدادِ المُغلقة.. لا جديدَ تحت شمس رُبعنا الخالي المُحرقة.. عَجلةُ العالم من حولنا تدورُ مسرعةً بإتجاهِ الآفاقَ والسمواتِ المفتوحة المُشرقة، ونحن نَجوسُ في ظلامِ الَمروياتِ والأوهام والخُرافات والأساطير بعيونٍ مُعمّاةٍ مُطْفأة.
المرأة2: إختلطت علينا الأوراق، وخرجنا عن السّياق، وبِتنا بضاعةً تتداولها الأسواق.. وداهمتنا الخطوبُ والوحوشُ والذئاب من كلّ النواحي والحدودِ والآفاق.. عُدنا إلى المربعِ الأول كان يا ما كان، ولاةً وجلادين وجيناتِ سَّياف، ومُخلّصاً يأتينا من خلفِ السّراب والضّباب والبِحار السّبعةِ واليَفاف.
المرأة3: وعُدنا للحِصار والسؤالِ من جديد، ما العمل؟ وولاةُ الطوائفِ والأعراق يتداولون سَرديّات الأوهام ويستنزفون الحياةَ والمال العام كالهَوام، وإرهابٌ يَبقرٌ البطون ويقطعُ الرؤوسَ والأرحام.
القادم الشاهد: ما أتعسنا .. ما أتعسنا.. كان الوالي واحداً أوحد عبقرياً ومُلهم، وحاشيةً للتقارير والسُّجودِ والدعاءِ وسَيافاً لا يرحم.
المواطن6: تناسلَ الوالي ولاةً، بعضهم يُعلن نفسَه زُوراً ناطقاً بإسِم الله والسماوات، والبعض الآخر أميراً يتمنطق بخناجرهِ لحربِ الثنائيات، والبعض الثالث يَتغطَّى مكشوفاً بالشُّورى وحقوقِ الرعيةِ والمساواة، والبعض الرابع يَحملُ سكينَ الخرائطِ وأوهامِ الجماعات.
المواطن 7: والحاشية إنشطرت كالأميبا ثنائيات، حشداً من الوعاظ والحاشيات، والسَّياف إستبدل سيفَه بفنونِ العصرِ، قطعَ الأصابعِ وسَملَ العيونِ والإغتيالات.
المرأة4: والهواء والوطن والثكنات، والمُدن والشَّوارع والحارات، تَقاسمتها الإقطاعيات، أحزاباً ورايات وكتلاً ومافيات.
المواطن8: ونحنُ المُسمّى الشعب مجازاً، بِتنا مواطنين ليومٍ واحد كلّ حَولٍ رابع مَحسوباً بالأيام، ورعايا الإقطاعيات كُلّ الأعوام.
المواطن9: وليس لنا إلاَّ الدُّعاء صُبحاً ومَسَاء.. حتى تَخضلّ اللحَى من التوسلِ والبُكاء.. وأنْ يأتينا المُخلّص على خيولِ الراحلين والأجداث.. ومِن غبارِ المَرويات والتُّراث.
السجين الأول: أحقاً ما يدور حولنا؟ أحقاً هذا حصاد السّجون والسّياط والعذابات، والمنافي والإخفاء القَسري والإعدامات؟ مريرةٌ تواريخنا، يا أمّاه، التي كانت يوماً تزهو بالشَّغفِ الُكلّي لمطلقِ التوحدِ بالوطنِ الكبير والَّساحات، على مَدى البحارِ والخلجان والمحيطات.
السجين الثاني: كلّ أحلامنا وكلماتنا المُغنّاة، تكسّرت فَرادى وجماعات، على ثلاثية الغنيمةِ والقهرِ والسلطات، وطقوسِ التَّوسلِ والإستعبادِ للغزاةِ والولاةِ والثنائيات.
السجين الثالث: وبغداد التي عرفناها لم تعدْ بغداد.. تَوشَّحت بالَّسوادِ والرَّماد، سمائها ملبدة بالشَّجنِ السّري والأحزان، وأرضها تذروها الرياح وتأكلها السَّعالى والغربان.. يَسكنها الخوفُ والرعبُ وأشباحُ الأسرار، والغيلة للأحباء في وضحِ الشَّمسِ والنهار.. ليلها ونهارها مسكونان بالعَتمةِ والنَّجوى، ومازالت البّلوى بين العجمِ والروم تَتْرى.
المواطن 10: فما العمل؟ سُؤال الأسئلة، والواقع يَتململ أمامَ حجر السُّؤال وضرباته المُوجعة.. محاصرون بين حنظلَ التّصحر والجَّفاف في الأحشاءِ والروح، وبين رَمد إنتظارات الآتي والمؤمل.. والسنابك من الداخل والخارج تَجرحُ العقلَ الجَّمعي المُثقل.. ونحن شِيعٌ وأشتات يَتقاسمنا الغزاةُ والمعتمدون والطُّغاة، والمرشحون والفاسدون والمخبرون والراقصون على أشلاء الوطن وبقايا الحياة.

المشهد السادس المؤمل
(على صوت الناي الحزين مرة، والمطبك المغنى بوجل خفيف مرة أخرى، يخرج صوت جهوري للقادم الشاهد، بطلاً من الشعب مجهول، ليصدح بكلمات أشبه بالشعر)
بغداد يا جميلةَ الجميلات..
وبلادَ الفراتين وأُمّ الربيعين والثغرَ الباسِم والجبالِ والفَضاءات..
وجمجمةَ العرب وأرضَ السّوادِ والسَّلامِ ومهدَ الحَضارات..
مَنْ حولكِ أسيرةً، تُباع وتُشترى في سوقِ النخاسةِ والسياسةِ والمافيات؟
وكنتِ في سَالفِ التاريخِ والفصولِ والأزمان..
عُشبةً للخلود، ومسلة ً للقانون، وبيتاً للحكمة، وميداناً للعقلِ والشعراءِ والفُرسان..
حتى فَتحَ عقوقُ بَنيكِ وواليِهم المُفترض أبوابَك الأربعة المُحصّنة ..
ووضعوا القيودَ والحِراب في رقبتكِ والمِقصلة..
فلا تَئِني ياسيدةَ النبوءاتِ وعصفَ الرفضِ والثورات..
فالقادم على ظهرِ التوقعات تجاوزَ صليلَ القيدِ والإحتمالات..
من البواباتِ الأربعْ سَيأتي حاملاً سَيفَه العربي المسلولِ والنّداءات..
ليُشعلَ ليلَ المُدنِ والقُرى والصَّحارى والأسوار..
بوهجِ الشموسِ والسَّنابلِ والأقمار..
سيأتي.. سيأتي أيها المغلوبين على مدى تَغيرِ الغزاةِ والولاةِ والأسفار..
سَيأتي.. مع نسيمِ الصُّبحِ سيأتي، وفي وَضحِ النهار..
فافتحوا النوافذَ والأبواب على مَدى الرؤية والمَسار..
وتلقوا بمليء صدوركم وهجَ الحقولِ والأنهار..

بغداد 15 تشرين الثاني 20025



#عبد_الستار_الجميلي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتى لا ننسى.. الأحواز والجزر الثلاث والإسكندرون وسبتة ومليلي ...
- العرب وخيار التوحيد.. او التفتيت
- درس التاريخ الأساسي.. ثنائية السلطة والدم
- دَوار العالم.. وتراجع إدارة السلام
- معضلة الديمقراطية في العراق
- الكيان الصهيوني والنظام الإيراني.. مواجهات الإخوة الأعداء.. ...
- ما التغيير المطلوب؟
- ترامب.. بين السياسة والتجارة


المزيد.....




- عام من -التكويع-.. قراءة في مواقف الفنانين السوريين بعد سقوط ...
- مهرجان البحر الاحمر يشارك 1000 دار عرض في العالم بعرض فيلم ...
- -البعض لا يتغيرون مهما حاولت-.. تدوينة للفنان محمد صبحي بعد ...
- زينة زجاجية بلغارية من إبداع فنانين من ذوي الاحتياجات الخاصة ...
- إطلاق مؤشر الإيسيسكو للذكاء الاصطناعي في العالم الإسلامي
- مهرجان كرامة السينمائي يعيد قضية الطفلة هند رجب إلى الواجهة ...
- هند رجب.. من صوت طفلة إلى رسالة سينمائية في مهرجان كرامة
- الإعلان عن الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي ...
- تتويج الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...
- -ضايل عنا عرض- يحصد جائزتين في مهرجان روما الدولي للأفلام ال ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار الجميلي - أزمنة بغداد المدَّورة- مسرحية قصيرة