اكرم حسين
الحوار المتمدن-العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 01:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تدرك القراءة الموضوعية لطبيعة المتغيرات في سوريا، بعد سقوط نظام دكتاتوري طائفي ، بأن "الدولة السورية الجديدة" تواجه مفترقاً حاسماً بين قطع الصلة مع الماضي أو اعادة إنتاج بنية التبعية بأشكال وآليات جديدة ، وفي هذا السياق تُقدّم أطروحة المفكر الماركسي مهدي عامل – حول "الدولة الطائفية" و"نمط الإنتاج الكولونيالي" مدخلاً مهماً لفهم اللحظة الراهنة ، حول طبيعة السلطة والتشكّل الاجتماعي الجديد . حيث ينطلق -عامل- من حقيقة مفادها أن الطائفية في المجتمعات التابعة ليست تراثاً ثقافياً متخلفاً، بل هي "بنية مادية" ضرورية لإعادة إنتاج التبعية ضمن المنظومة الرأسمالية العالمية. فهي الآلية التي تُفتّت النسيج الاجتماعي، وتُحوّل الصراع الطبقي الحقيقي على الثروة والسلطة إلى صراعات وجودية بين هويات متخيلة، وتمنع قيام دولة قومية موحّدة ، وعليه، فإن السؤال الجوهري للمرحلة السورية الراهنة يتجاوز شخص الحاكم أو خطابه الأيديولوجي ، او ماضيه الجهادي ، إلى سؤال عما إذا كانت "الدولة الجديدة" قادرة على كسرالدائرة البنيوية المعقّدة ، ومنعها من السقوط في فخ التكرار وإعادة الانتاج في سياق اعادة تموضع سوريا جيوسياسياً .
لقد جسّد نظام الأسد البائد النموذج الأمثل لهذا "النمط الكولونيالي" عبر عقود. فقد أقام على صعيد الاقتصاد ، نظاماً ريعياً معتمداً على عائدات محدودة واستيراد واسع، مما قوّض أي تطور موضوعي للقوى المنتجة ، وحوّل الدولة إلى أداة لتوزيع الريع عبر شبكات المحسوبية الطائفية والعائلية. بينما حوّل الطائفية سياسياً ، من انتماء ثقافي إلى "بنية مادية" كاملة للدولة، تجلّت في توزيع المناصب والامتيازات وإدارة العنف الممنهج لتفكيك أي إمكانية لتشكّل صراع طبقي حقيقي ، وعلى صعيد الخارج ، عقد تحالفات تبعية مع قوى إقليمية ودولية (إيران وروسيا) مثّلت ضمانة لاستمرار بقائه، مانحاً إياها نفوذاً واسعاً في مفاصل الدولة مقابل الحماية، وهي صيغة كلاسيكية لإعادة إنتاج التبعية ، ممّا يُشكّل ارثاً ثقيلاً في طريق بناء السلطة الجديدة التي سيكون احد تحدّياتها ، خطر تكرار النمط نفسه، حتى في ظل تغير الأيديولوجيا والشعارات.
يواجه مشروع الرئيس الانتقالي "أحمد الشرع" ، هذا الامتحان النظري في أقسى تجلياته. فمن ناحية، يُمثّل سقوط نظام الأسد الاستبدادي الطائفي إمكانية تاريخية للتحرر من نموذج دولة الانقسام الاجتماعي ، لكن من ناحية أخرى، فإن الخلفية الأيديولوجية للسلطة الجديدة تحمل بذور تناقضها الخاص ، والسؤال هل ستتحول "الهوية الإسلامية" من شعار "تحرّري" إلى إطار جديد لإقصاء الآخر وتكريس انقسامات مغايرة؟ ام أن الخطر الحقيقي ليس في عودة الطائفية التقليدية بالضرورة، بل في أن تتحول الأزمة الاقتصادية الكارثية – الإرث الذي تركه النظام البائد – إلى وقود لصراع هوياتي جديد، يُصاغ فيه السخط الاجتماعي على الفقر والدمار (حيث يعيش 87% من السوريين تحت خط الفقر) ليس كمعركة من أجل العدالة والتوزيع الجيد للثروة والخدمات ، بل كمواجهة بين "مؤمن" و"علماني"، أو بين "موالٍ" و"مناهض" للمشروع الجديد. عندها، ستكون الدولة – كما حلّلها عامل – قد عملت مرة أخرى في تفريغ الصراع الطبقي من مضمونه ووجهت الغضب الشعبي نحو معارك وهمية ، وقد تُظهر مقارنة سريعة مع تجربة العراق بعد 2003 أو لبنان تحذيراً واضحاً ، فإسقاط النظام الدكتاتوري لا يضمن ولادة دولة وطنية تشاركية ، بل يفتح الباب أمام قوى خارجية لترسيخ نفوذها عبر استثمار الانقسامات الداخلية الطائفية أو السياسية، لتصبح الهيمنة الجديدة شكلاً أعمق من الاحتلال المباشر، كما ظهر سابقاً في تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ متعددة.
لذلك، لا يكفي أن تحمل السلطة الجديدة خطاباً "تحررياً" من الاستبداد الاسدي . بل التحدّي الأكبر يكّمن في تجسيد هذا الخطاب في "بنى مادية" جديدة ومغايرة تماماً لما سبق . أي: هل ستُبنى مؤسسات الدولة الجديدة – بدءاً من الدستور ومروراً بآليات توزيع الوظائف والموارد وانتهاءً بجهازي الأمن والقضاء –ومجلس الشعب - على أساس المواطنة المتساوية والحقوق العامة، أم أن معايير الولاء الأيديولوجي والانتماء السياسي ستتحول إلى محسوبية جديدة، وإن كانت تحت شعارات دينية؟ هنا تكمن المعضلة . فكيان الدولة، في التشكيلات التابعة، كما يرى عامل، ليس محايداً يمكن "توجيهه" نحو الخير، بل هو التعبير المؤسسي المكثّف عن الاقتصاد وعلاقات القوة في المجتمع. فإذا انتقلت السلطة من أقلوية طائفيّة إلى أكثريتها، دون تغيير جذري في نمط إنتاج الدولة نفسها – أي في طريقة تنظيمها للسلطة والثروة والهوية – فإن الدور الوظيفي للدولة سيبقى كما هو ، أداة لابتلاع المجتمع وإعادة إنتاجه ككيان تابع ، وهذا يضع الفاعلين الداخليين أمام مفترق طُرق حاد . لأن بقايا النظام البائد من عسكريين وموظفين كبار (معظمهم من العلويين) يتم إقصاؤهم من الأجهزة الأمنية الجديدة مما يخلق بؤر توتر محتملة، بينما تحاول النخب الاقتصادية القديمة التكيف مع السلطة الجديدة أو تهريب أموالها لدعم تمردات محتملة كما تشير تقارير حديثة. في حين أن المجتمع المدني، الذي يناضل من أجل العدالة ، والمساواة والقانون ، سيواجه تحدّياً في الحفاظ على استقلاليته ودوره الرقابي في ظل حكومة تسعى لمركزة السلطة، حيث أظهرت اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية محدودية في عملها واستقلاليتها حتى الآن.
في حين ، يمتد اختبار "كسر النمط" إلى العلاقة مع الخارج، وهو جانب مركزي في تحليل عامل. فقد ورثت سوريا الجديدة دولة مفككة ومقسمة جغرافياً بين نفوذ تركي وأمريكي، ومواجهة استمرار الاعتداء الإسرائيلي على أراضيها ، وهي في حاجة ماسة إلى الاعتراف الدولي ورفع العقوبات وتمويل إعادة الإعمار ، ولكن هذا الطريق محفوف بفخ التبعية الجديدة ، فهل ستقبل السلطة الجديدة شروط القوى الدولية والإقليمية – التي قد تتعارض مع مشروعها السيادي – مقابل الحصول على الدعم؟ أم أنها ستتمكن من صياغة سياسة خارجية متوازنة تحافظ على الحد الأدنى من الاستقلال؟
إن قبول الشروط السياسية لتمويل الإعمار سيعيد إنتاج "نمط الإنتاج الكولونيالي" بأدوات مختلفة، حيث تُشترى السيادة الوطنية بقروض ووعود ، وهنا يتجلى البعد الإقليمي والدولي المعقّد بأقسى صوره ، فالولايات المتحدة، التي رفعت معظم العقوبات عن سوريا مع الاحتفاظ بها على الأسد ومقربيه، ستسعى لتحقيق استقرار يمنع عودة الإرهاب لكنه قد يشترط تقييد خيارات سوريا السيادية . وتركيا، الحليف الرئيسي الحالي الذي دعم "الجيش الوطني" سابقاً، لا تزال تسيطر على شمال سوريا وترعى فصائله المسلحة ، ممّا يُشكّل تحدّياً مباشراً لوحدة التراب السوري. في حين أن إيران وحزب الله، اللذان خسرا معظم بنيتهما التحتية في سوريا، يواصلان إعادة نفوذهما عبر دعم الخلايا المحلية وشنّ حملات التضليل ، وتتنافس الدول الخليجية كالسعودية وقطر على قيادة ملف الاستقرار وإعادة الإعمار ، حيث تستضيف الأخيرة منتديات دولية لدعم الحكومة السورية الجديدة، مما قد يفتح باباً جديداً للتبعية الاقتصادية. في حين أن روسيا، الحليف القديم للنظام البائد ، ما زالت تحتفظ بقواعدها العسكرية رغم سقوط الاسد ، الأمر الذي يبقي جزءاً من السيادة السورية رهناً بإرادتها. هذا التناقض الإقليمي يجعل من الصعب على دمشق تحقيق سياسة خارجية مستقلة تماماً.
وبناءً على هذه المعطيات، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات مستقبلية لسوريا بعد الاسد: الأول هو "الاستمرارية البنيوية"، حيث تفشل الدولة الجديدة في كسر النمط، فتُعاد إنتاج التبعية بأشكال جديدة ، بتحول "الهوية الإسلامية" إلى إطار إقصائي جديد يحل محل الطائفية القديمة، بحيث تُدار فيه الموارد عبر محسوبية الولاء للسلطة، وتقبّل الدولة شروط المانحين الخارجية مقابل إعادة الإعمار، لتنتهي ببرجوازية جديدة (إسلاموية هذه المرة) تعيد إنتاج التبعية. الثاني هو "التحول الناقص" أو الهجين، حيث تنجح الدولة في تحقيق بعض الاستقرار واستعادة جزء من العلاقات الدولية كما يظهر من المشاركة في منتدى الدوحة وتلقي وعود دعم من الخارج ، لكنها قد تفشل في إحداث القطيعة البنيوية الكاملة؛ لتبقى مؤسسات الدولة هشة، وتتعايش هياكل أمنية موحدة ظاهرياً مع ميليشيات شبه مستقلة كما هو حال "الجيش السوري الجديد"، ويظل النفوذ الخارجي حاضراً رغم الخطاب السيادي. أما السيناريو الثالث، وهو الأصعب تحقيقاً، فيكمن في "القطيعة البنيوية"، الذي تتطلب ثورة داخل الثورة ، بناء عقد اجتماعي جديد قائم على المواطنة ، وتصفية اقتصاد الريع والمحسوبية لصالح اقتصاد إنتاجي، ورفض الشروط السياسية الخارجية المفروضة على الإعمار، وتحويل الصراع من هوياتي إلى سياسي وطبقي علني ، وهذا السيناريو مرهون بقدرة المجتمع السوري وقواه الحية على انتزاع اعتراف الدولة به كشعب واحد، وليس كرعايا لسلطة جديدة.
وعليه، فإن الخلاصة التي تفرضها نظرية مهدي عامل قاسية وواضحة: إن تغيير النظام في دمشق هو مجرد خطوة أولى، وقد تكون "وهمية" ، إذا لم يرافقها تغيير في "نمط إنتاج الدولة". لأن كسر حلقة التبعية يتطلب مشروعاً وطنياً ديمقراطياً جذرياً، يرفض أن يكون طائفياً اواستبدادياً بأي شكل كان، ويحوّل الصراع الاجتماعي من حروب هويات ما دون وطنية إلى حوار سياسي علني حول توزيع الثروة والسلطة ، وهو مشروع لا يبدأ بقوانين فوقية، بل بإعادة بناء العقد الاجتماعي من الأسفل، على أنقاض مجتمع دُمّر مرتين ، مرة بنيران النظام، ومرة بنيران الطائفية التي زرعها. ففرصة سوريا في الخروج من النمط الكولونيالي ليست مستحيلة، لكنها معلقة على نصل حاد ، بين بناء دولة المواطنة، اوالانزلاق إلى دولة الهوية الجديدة ، والمفارقة التاريخية أن هذا المصير لا يتقرر في أروقة السلطة وحدها، بل في قدرة المجتمع السوري، بعد كل هذه الويلات ، على انتزاع اعتراف الدولة به كشعب واحد، قبل أن يكون أي شيء آخر.
اذاً ، المعركة السورية الجديدة ليست ضد شخص أو جماعة، بل ضد منطق كامل لإنتاج التبعية والتخلف، وقد يكون هذا أقسى من الحرب ذاتها.
#اكرم_حسين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟