|
|
نظرة إلى عالم اليوم (6)
عبدالحميد برتو
باحث
(Abdul Hamid Barto)
الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 00:12
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
مقارنة بين استراتيجيات القوى الكبرى تختلف أدوات الغرب في إدارة الصراعات الهامة منها والتفصيلية، عن أدوات روسيا والصين. هذا واقع يعلن عن نفسه، حتى من خلال الملاحظة الفردية الأولية والمجردة. لكن الأمر يزداد وضوحاً، عند إقامة المقارنات بين استراتيجيات تلك القوى الأكثر تأثيرًا في عالم اليوم. ستكون تلك المقارنات مفيدة جدًا لفهم النظام العالمي الحالي. كما لا ينبغي بخس كل أنوع الجهود المبذولة في هذا المضمار، من أجل تحقيق فهم أوضح للحالة الدولية. سواءً جاءت تلك الجهود من أفراد، جماعات أو مؤسسات.
ينبغي أن تتناول المقارنات الحالة العامة والتفاصيل، بطريقة منهجية و موثوقة. تعمل أولًا على فحص أدوات كل طرف، من خلال أمثلة تطبيقية، والعمل على تشخيص نقاط القوة والضعف والقيود فيها، ومتى يميل كل طرف لاختيار أو تفضيل أداة على أخرى.
مقارنة عامة ـ الغرب: تُفضل الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الاتحاد الأوروبي خلق مزيج من التحالفات العسكرية، الدعم العسكري غير المباشر، العقوبات المالية والاقتصادية، الديبلوماسية متعددة الأطراف والقوة الناعمة، مثل: وسائل الإعلام و مؤسسات مدنية فعّالة، خاصة عندما يُراد عزل دولة ما اقتصادياً أو تجهيز حلفاء لمواجهة خصم.
ـ روسيا: تمزج بين العمل عبر وكيل والتدخل المباشر. هذا إضافة إلى إستخدام شركات عسكرية خاصة، مثل فاغنر التي تحولت إلى فيلق أفريقيا. وهي لا تترد في إستخدام القمع الأمني، تسليم أسلحة لأطراف تثق بها واستخدام الحرب المعلوماتية. كذلك التدخل العسكري المباشر في بعض البيئات المناسبة لها، مثل: ما يحصل في أفريقيا، وكما حصل في سورية و بعض مناطق ودول الاتحاد السوفياتي السابق.
ـ الصين: تركز على النفوذ الاقتصادي وبناء البُنى التحتية، منح التمويل و توظيف الاستثمارات، الاعتماد على التكنولوجيا، تمديد سلاسل طرق الإمداد والتوسع الاقتصادي والتجاري، مع اعتماد سياسة خارجية مبنية على عدم التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول التي تتعاون معها.
تفاصيل عن الأدوات أدوات الغرب: يستخدم الغرب أدوات إقتصادية قاسية، تتجاوز أضرارها حدود الحكومات المعنية لتُصيب الشعوب في مقتل. تتمثل تلك الأدوات بالعقوبات الاقتصادية، المالية والتجارية، تجميد أصول، حظر بنوك، قيود على الوصول إلى نظام SWIFT و فرض قيود على تصدير بعض صنوف التكنولوجيا الحساسة. تصب كل تلك الأدوات الأساسية في ميدان العمل والتطبيق بمجرى خفض قدرات الخصم.
يهتم الغرب بالتحالفات والتموضع العسكري. يعتمد على حلفاء موثوقين ومناطق تمركز لقواعده. يقدم دعمًا لوجستيًا واستخباراتيًا لحلفائه. ينقل لهم الأسلحة والمعلومات استخبارية. إن المثال الواضح و الساطع في هذا المجال. هو ما يجري من دعم لأوكرانيا عبر التسليح والتدريب والإمداد.
لا يبخل الغرب في إستخدام القوة الناعمة والدبلوماسية متعددة الأطراف. يتم ذلك عبر المؤسسات الدولية، المنظمات الحقوقية، الجامعات و الإعلام الدولي. يهدف من خلالها إلى تشكيل سردية شرعية عن كل حدث أو تطور في مختلف الأقاليم والقارات. إمتلك الغرب في هذه الميادين الحيوية و الخبرات المديدة. تشكلت تلك المواصفات عبر مسيرة عقود مديدة، إلى جانب إستثمار المعارف والخبرات العلمية والأكاديمية والنشاطات الخاصة.
يشعل الحروب بالوكالة ويستديم عملياته الاستخباراتية و السيبرانية. لا يتردد في عمليات دعم جماعات محلية أو معارضة، أو شن هجمات إلكترونية محدودة الاستهداف. تُعد هذه العمليات أدوات تفضيلية، خاصة عندما لا يُراد تصعيدًا مباشرًا. كما تتسبب مثل هذه العمليات في تشتت الخصوم سياسيًا و اقتصاديًا. وهي لا تحتاج تعاونًا واسعًا لتنجح. أما التدخل العسكري فقد يستغرق وقتًا ويواجه مخاطر تصعيد.
أدوات روسيا: تستخدم روسيا أحيانًا اسلوب القوة الوكيلة بصفة شركات أمنية. تعد فاغنر و لاحقًا فيلق أفريقيا نموذجًا واضحًا لاستغلال الفضاء الرمادي، أي نشر قوة قتالية دون تحميل الدولة مسؤولية مباشرة. تستند روسيا حالياً على وفرة الطاقة خاصة النفط والغار. عند إستخدام الإتحاد الأوروبي أسلوب منع إستيراد النفط والغار الروسيين، تحول في نهاية المطاف ذلك الضغط إلى ضغط متبادل، حيث بدأ بعض أعضاء الإتحاد بالتردد في إستخدام القرارات الأوروبية، مثل المجر وسلوفاكيا وغيرهما، وكذلك ساد إحساس عند آخرين بصعوبات المقاطعة على إقتصاديات بلادهم.
ومن أدوات روسيا في مجال الضغوط المتبادلة الحالية، يأتي حرب المعلوماتية والتدخل السياسي المباشر. ذلك من خلال دعم أحزاب أو شبكات إعلامية لبث روايات مؤيدة لروسيا، واستخدام عمليات سيبرانية. إن قيود و أدوات روسيا ليست على قوة واحدة في كل الأماكن. هي فعّالة في البيئات التي تعاني من ضعف مؤسسي. وتكون أقل تأثيرًا حين توجد بنية مؤسساتية قوية أو بدائل اقتصادية.
تتطلب أهمية مجموعة فاغنر العسكرية و الأمنية التوقف عند بعض نشاطاتها. لقد لعبت المجموعة أدوارًا خطيرة داخل روسيا و جوارها وفي مناطق أخرى من العالم. شاركت في الحرب الأهلية السورية إلى جانب القوات الحكومية السورية السابقة. كذلك في الفترة الواقعة خلال عامي 2014 و 2015 بمنطقة دونباس في أوكرانيا، شاركت لمساعدة القوات الانفصالية في دونيتسك ولوهانسك اللتين أعلنتا استقلالهما عن أوكرانيا. هي وحدة عسكرية تتمع بالاستقلالية تابعة لوزارة الدفاع الروسية أو مديرية المخابرات. تستخدمها الحكومة الروسية في النزاعات التي تتطلب الإنكار. يعتقد أنها مملوكة لرجل الأعمال يفغيني بريغوجين، الذي يمتلك صلات وثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
تدخلت في عام 2018 بأحداث شرق ليبيا، لدعم المشير خليفة حفتر، الذي يقود الجيش الوطني الليبي في الحرب الأهلية الليبية. كما في سوريا أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2015، أي بعد شهر تقريباً من بدء التدخل العسكري الروسي في الحرب الأهلية في البلاد. عند الغزو الروسي لأوكرانيا اتهمت بمحاولة اغتيال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. يزعم الأعلام الغربي أنها خلال الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في 24 شباط/ فبراير 2022، نقلت مجموعة فاغنر أكثر من 400 متعاقد من جمهورية أفريقيا الوسطى الى أوكرانيا، في مهمة لاغتيال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحكومته. تمردت مجموعة فاغنر في 23 حزيران/ يونيو 2023، ثم سيطرت لبعض الوقت على مدينة روستوف، ليعلن التوجه بعدها إلى العاصمة موسكو. لكن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو لعب دور الوسيط لحل الخلاف. نجحَ لوكاشينكو في التوصّل إلى اتفاقٍ مع قائد مجموعة فاغنر. انتهت حياة بريغوجين بحادثة سقوط طائرته.
يوجد صراع نفوذ روسي ـ غربي في منطقة الساحل والصحراء الأفريقية. تمثل التراجع الغربي بخروج القوات الفرنسية و تراجع الدور الأوروبي عامة. إن صعود البديل الروسي الأرخص والأسرع بالنسبة للدول الأفريقية. يُعيد تشكيل ميزان القوى في القارة. تزايد التوتر بين روسيا والغرب، بسبب وجود قوة روسية رسمية في دول أفريقية استراتيجية، مثل: مالي، النيجر و ليبيا. هذا التصاعد يضع موسكو مباشرة في مواجهة مع الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي و فرنسا. يخلق ساحات صراع بالوكالة. اتهم الغرب روسيا، بانها تثبت الأنظمة العسكرية، وإنها تقدم خدمات كاملة، مثل: سلاح، تدريب، قوات حماية، خبراء إعلام، مرتزقة و عقود توريد. في نهاية المطاف تحول الدور الروسي في أفريقيا من نشاط شبه خاص وغامض إلى حضور عسكري رسمي و استراتيجي، يغير ميزان القوى في القارة.
تنظر دول الغرب لهذا التحول. بأنه توسع نفوذ خصم استراتيجي، أي أن روسيا لم تعد تستخدم قوة رمادية غير رسمية، بل قوة مرتبطة مباشرة بالدولة الروسية. هذا يعني من منظور واشنطن تجاوز مرحلة تحميل الأفراد المسؤولية القانونية، ويحقق زيادة في شرعية الوجود الروسي، وأن النشاط الروسي لم يعد سريًا، بل بات جزءًا من السياسة الخارجية الروسية. وهو تهديد مباشر للنفوذ الأمريكي، خاصة في النيجر، التي كانت موقعًا لقواعد أمريكية سابقة. وفي تشاد، ليبيا و القرن الأفريقي.
المحور الروسي ـ الصيني في أفريقيا تخشى واشنطن أن يشكل وجود فيلق أفريقيا واجهة أمنية تسهل، مشاريع مبادرة الحزام والطريق الصينية، توقيع صفقات سلاح روسية و بناء شبكات نفوذ استخباري. أما النظرة الفرنسية فتعتبر الحالة تهديدًا وجوديًا لنفوذها في الساحل الأفريقي. ترى فرنسا في فيلق أفريقيا بديلًا روسيًا يحل محلها في مناطق نفوذها التاريخية، خصوصًا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. إن خروج باريس من الساحل فتح الباب لروسيا. حيث باتت منافسًا يقدم حلًا أمنيًا سريعًا للحكومات العسكرية الأفريقية. تعتبر فرنسا أن موسكو تستخدم حملات إعلامية مضادة، تضخم فشل القوات الفرنسية، تدعم خطاب تحرير أفريقيا من الاستعمار و خلق رأي عام معادٍ لفرنسا.
ترى أوروبا أن وجود فيلق أفريقيا يهدد بطريقة غير مباشرة، الاستقرار في الساحل، مما قد يؤدي إلى زيادة الهجرة غير النظامية نحوها، يوسع شبكات الاتجار بالبشر، زيادة نشاط الجماعات الجهادية العابرة للحدود، يعزز الأنظمة العسكرية، وهو ما تعتبره أوروبا "نكسة ديمقراطية" في أفريقيا. كما يعزز منافسة روسيا في سوق السلاح والطاقة، خاصة في ليبيا والنيجر، حيث المصالح الأوروبية كبيرة. ترى النظرة البريطانية، بأن الحالة تمثل قلقًا استخباراتيًا أكثر من كونه عسكريًا. تركّز المملكة المتحدة على، توسع أجهزة الاستخبارات الروسية في القارة، حيث فيلق أفريقيا ليس فقط قوة قتالية، بل هو منصة تجنيد، قاعدة لجمع المعلومات، نقطة انتشار لعمليات إلكترونية روسية، تأثير محتمل على الملاحة في شمال و وسط أفريقيا، خصوصًا في ليبيا ومنطقة الصحراء الكبرى.
وعلى صعيد موقف المنظمات الغربية الأساسية، حلف الناتو و الاتحاد الأوروبي وغيرهما، ترى تلك المؤسسات بأن تأسيس فيلق أفريقيا الروسي، يمثل نهاية لسياسة الإنكار التي اعتمدتها روسيا. وبالتالي يجب التعامل مع الوجود العسكري الروسي رسميًا. هذا بدوره يفتح الباب لردود دولية، مثل: العقوبات، بعثات المراقبة، دعم المضاد لدول الساحل و بداية سباق نفوذ جديد في أفريقيا بين القوى الكبرى روسيا، الصين و الغرب. يرى الغرب في فيلق أفريقيا مشروعًا روسيًا رسميًا للتعويض عن فاغنر. يهدف إلى ترسيخ نفوذ عسكري ـ سياسي في أفريقيا على حساب النفوذ الغربي.
سيناريوهات محتملة يَشي تحليلُ ردود الفعل المحتملة من الغرب على الحالة القائمة في أفريقيا. أن هناك ما يوحي بإمكانية أن تتطور خلال السنوات القليلة القادمة الإستعدادات الغربية. هناك عدة سيناريوهات محتملة لتلك الردود على فيلق أفريقيا الروسي. بناءً على قراءة الوضع الحالي والتحولات الجيوسياسية اللاحقة. فيما يلي أهم تلك الردود المحتملة وما تحمله من مخاطر وتحديات:
القلق الأمني والجيو ـ استراتيجي يراقب الغرب؛ الدول الأوروبية والولايات المتحدة بقلق توسع النفوذ العسكري الروسي في القارة الأفريقية عبر فيلق أفريقيا. يرى الغرب بأن استبدال فاغنر بفيلق أفريقيا يمنح موسكو وجودًا شبه رسمي. وليس مجرد مرتزقة خاصين. هذا يزيد من القدرات الروسية في توفير التدريب، الحماية، والدعم اللوجستي. يعكس تسليم موسكو عربات مدرعة حديثة إلى مالي رغبتها بتعزيز قدراتها الأمنية في دول الساحل والصحراء. تتحول بعض الدول الأفريقية نحو روسيا، خاصة بعد انقلابات في دول مثل النيجر وبوركينا فاسو و غيرهما. هذا التوسع الروسي يُنظر إليه في الغرب، بأنه إضعاف لهيمنة النفوذ الغربي، سواءً كانت مؤسسات أو شراكات أمنية.
يقلق الغرب من إحتمال استفادة روسيا من موارد أفريقيا المعدنية الثمينة تحت غطاء عسكري. يُطرح سؤالٌ في أوساط المتابعين: كيف يمكن أن تتطور ردود الفعل الغربية في المستقبل. يشار أحيانًا إلى بعض السيناريوهات المحتملة لتطور رد فعل الغرب على فيلق أفريقيا الروسي، منها: تكثيف العقوبات والضغوط الدبلوماسية، إذا استمرت التقارير عن "انتهاكات" من قبل عناصر الفيلق. وقد تزيد الدول الغربية العقوبات على كيانات روسية مرتبطة بالفيلق، أو حتى على بعض الدول الأفريقية التي تستضيفه.
قد يستخدم الغرب المنابر الدولية، مثل الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، للتنديد بالنفوذ العسكري الروسي، الذي يصفونه بغير قانوني و مهدد للاستقرار الإقليمي. تسعى الدول الغربية إلى تسريع الشراكات الأمنية مع الدول الأفريقية المنافسة. كما قد تعزز دول غربية مثل فرنسا، الولايات المتحدة، وربما الاتحاد الأوروبي، تدخلها الأمني أو التدريبي في أفريقيا لمواجهة الفيلق الروسي من خلال دعم جيوش محلية، بعثات تدريب و تعاون استخباراتي. كما يجري العمل لإعادة تقويم استراتيجيات المساعدات في مجالات: الاستثمارات، الأمن، التنمية و الحكم المحلي. وأخيراً تقديم بديل مؤثر عن روسيا.
يتجدد النظر كذلك في إعادة ترتيب النفوذ عبر الوسائل غير العسكرية. يزيد الغرب من استخدام الديبلوماسية الاقتصادية، المساعدات التنموية، والاستثمارات في البنية التحتية، الطاقة، و التعليم كأدوات لمواجهة النفوذ الروسي. يحاول الغرب تحفيز منظمات أفريقية أيضًا: الاتحاد الأفريقي، المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) و منظمات إقليمية الأخرى، للحد من الاعتماد العسكري على موسكو و من الشراكات الإقليمية معه.
يمكن أن يشدد الغرب الجهود لمراقبة نشاط فيلق أفريقيا، من خلال الأمم المتحدة و المنظمات الحقوقية الدولية. يعمل على مراقبة حالات الانتهاك و الاستغلال المادي للموارد لضمان وتطوير إمتيازاته. يحتمل أن يضغط الغرب على الدول المضيفة للفيلق، لإدخال شروط أكثر شفافية على وجود القوات الروسية، مثل تحديد الأعداد، المهمات و مدة بقاء تلك القوات. قد يطلق الغرب حملات تسليط ضوء على أنشطة الفيلق من خلال إعداد تقارير و تحذيرات من استراتيجية روسيا الجديدة في أفريقيا، وتسليط الضوء على الاستغلال الاقتصادي. في المقابل، روسيا قد ترد بدعاية مضادة في المجال الأفريقي، مما قد يؤدي إلى سباق روايات حول مَنْ يُقدم الأمانَ والتنميةَ الحقيقيين.
تواجه الغرب مخاطر و تحديات في هذا السياق، من بين أبرزها الاستجابة المحدودة من قبل الدول الأفريقية المعنية. تفضل بعض الدول الأفريقية العلاقات مع روسيا. خاصة تلك التي شهدت إنقلابات عسكرية محلية. ترى تلك الدول في موسكو شريكًا أكثر موثوقية أو أقل تدخلاً سياسيًا. تشير التقديرات إلى أن أي محاولة غربية لتعزيز وجود أمني في أفريقيا ستكون مكلفة. وليس من المؤكد أن تستوعب جميع تلك الدول بديلًا غربيًا بسهولة. يواجه الغرب تحديات بصدد مصداقيته، خاصة إذا تم ربط مساعداته الأمنية بالتدخلات أو الشروط السياسية، مما قد يُنظر إليها كإملاءات خارجية.
أدوات الصين: يتسم النفوذ الاقتصادي الصيني بأنه طويل المدى، خاصة في مجالات دعم مشاريع البنى التحتية، تمويل الاستثمارات الضخمة و القروض التنموية. تدعم هذا التوجه أن الديبلوماسية الصينية قائمة على سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المتعاونة معها. تقدم الصين دعمًا سياسيًا لها في المنابر الدولية أيضًا. تدعم سياسات السيادة غير التدخّلية، وتستثمر في العلاقات مع حكومات مناوئة أو غير غربية لتوسيع نفوذها. يُبنى النفوذُ الصينيُ ببطء ولا يتطلب أو يفرض تبعية اقتصادية. إنما تتوطد العلاقات من خلال ثمار المشاريع. لا تعتمد الصين استخدام القوة العسكرية المباشرة في تعاملها السياسي الدولي مقارنة بروسيا والغرب.
أُطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013 مبادرة الحزام والطريق. تهدف المبادرة إلى تعزيز الربط والبنية التحتية من طرق، سكك حديد، منافذ، طاقة وغيرها، بين الصين ودول آسيا وأفريقيا وأوروبا عن طريق "حزام اقتصادي بري" و"طريق بحري". يؤدي إلى تعاون اقتصادي، تجاري، استثمارات و تبادل ثقافي. تم توقيع مئات مذكرات تفاهم حتى الآن، مع أكثر من 200 اتفاقية تعاون مع أكثر من 150 دولة وأكثر من 30 منظمة دولية.
بلغ الحجم المالي للمبادرة منذ عام 2013 حتى الآن 2025 مع التزامات التراكمية للصين في إطارها إلى حوالي 1.308 تريليون دولار. من هذا المبلغ: حوالي 775 مليار دولار عقود بناء، و 533 مليار دولار استثمارات غير مالية. في النصف الأول من عام 2025 فقط، عُقدت 176 صفقة بعقود استثمار وبناء بقيمة إجمالية تصل ألى 124 مليار دولار.
منذ انطلاق مبادرة الحزام والطريق حتى الآن، تحقق نمو كبير في التبادل التجاري. تشير بعض التقارير و وفق المصادر الصينية أيضًا، إلى أن حجم الصادرات والواردات بين الصين ودول المبادرة منذ 2013 تجاوز 19 تريليون دولار. جاء في تقرير للبنك الدولي حول اقتصاد الحزام والطريق، بأن مشاريع النقل التي تم إنشاؤها في دول المبادرة وحدها، تسهم في تقليل الفقر في بعض الدول المشاركة، وتعمل على رفع مستوى الحياة المعاشية لملايين الأشخاص.
المشاريع البارزة في إطار مبادرة الحزام والطريق: ـ سكك حديد لاوس ـ الصين: هو ممر الصين - لاوس الاقتصادي. يضم سكة حديد من الصين إلى لاوس، بطول 1,035 كم تقريباً.
ـ سكك حديد قيرغيزستان ـ أوزبكستان ـ الصين. مشروع سكة حديد بطول 523 كم يربط كاشغر في الصين مع أنديجان في أوزبكستان عبر قيرغيزستان. من المتوقع أن يخفف من وقت النقل البري بين الصين وأوروبا.
ـ ميناء عميق في ميانمار وهو جزء من منطقة اقتصادية خاصة. يمكن أن يكون الميناء محطة استراتيجية في الممر البحري.
ـ جزيرة بوبيان ـ الكويت هو مشروع ميناء مبارك الكبير على جزيرة بوبيان ـ الكويت، مرتبط بمبادرة الحزام والطريق.
تتركز التوجهات الحديثة و التحديات بصورة متزايد على الطاقة وبعض الموارد المعدنية. تذكر بعض التقارير أن تمويل مبادرة الحزام والطريق في النصف الأول من 2025 يتركز بشكل كبير على الطاقة و التعدين، مثل: الألومنيوم والنحاس في دول آسيا الوسطى. هذا يعكس توجهاً استراتيجياً من الصين لتأمين موارد استراتيجية، وليس فقط بناء البنية التحتية التقليدية.
تميل بكين في الفترة الأخيرة إلى المشاريع الصغيرة الحيوية، بدلاً من المشاريع الضخمة فقط. يستهدف هذا التوجه تقليل المخاطر المالية. و من أجل ألا تكون بعض الدول المشاركة معرضة لمستويات ديون عالية. تحاول الصين تحسين معايير اختيار المشاريع، هناك بعض المشاريع التي تؤكد الصين على أنها تشكل حافزاً للتغير البيئي الإيجابي، مثل مشاريع الطاقة المتجددة. بعض المحلّلين يعتبرون أن المبادرة هدف استراتيجي بقدر ما هي مشروع تنموي. إنها توسع نفوذ الصين، تأمين سلاسل التوريد و تعزيز قوتها الاقتصادية والسياسية العالمية. تكثّف الصين تمويل مبادرة الحزام والطريق مع التركيز على آسيا الوسطى.
التوزيع الجغرافي والقطاعات البارزة كانت الوجهات البارزة لمبادرة الحزام والطريق عام 2025 أفريقيا ووسط آسيا. بلغت الاستثمارات في أفريقيا 39 مليار دولار، آسيا الوسطى 25 مليار وفي جنوب شرق آسيا 11.3 مليار. كازاخستان استقبلت حصة كبيرة، حيث بلغت 23 مليار دولار. نالت قطاعات الطاقة، مثل: النفط، الغاز و مشروعات الطاقة المتجددة زيادة كبيرة في التمويل. كذلك القطاعات المعدنية مثل مناجم النحاس و الليثيوم. كما لم تُهمل اللوجستيات والبنية التحتية للاتصالات.
يُلاحظ أن الصين تكثّف تمويلها لآسيا الوسطى. يعود ذلك لأسباب موضوعية، ذلك بفضل القرب الجغرافي. كما تتوفر ميزة استراتيجية، حيث يكون الطريق بريًا قصيرًا. وتكون آسيا الوسطى جسرًا بريًا طبيعيًا بين الصين وأوراسيا. فضلًا عن تكاليف لوجستية أقل ومسارات خطّية للموارد والسكك الحديدية. هذا يقوّي جدوى مشاريع النقل والطاقة. طريق كازاخستان أمن من حيث الموارد والمواد الخام. تملك دول آسيا الوسطى موارد معدنية هائلة من النحاس، ليثيوم و معادن صناعية.
لا يقل أهمية عما تقدم طبيعة المناخ السياسي الإقليمي المستقر. وهو الأكثر قبولاً للاستثمارات الصينية، حيث العلاقات التاريخية والمصالح الأمنية المتبادلة. تُسهِّل منظمة شنغهاي للتعاون ـ SCO، الاتفاقات الكبيرة وتسيّر المعاملات بكل أريحية. لا كما البطء و الرفض السياسي، الذي تمارسه بعض دول أوروبا الشرقية. إن منظمة شنغهاي للتعاون، هي تجمع دولي أوراسي. يضم حاليًا 9 دول أعضاء، هي: الصين، الهند، إيران، روسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، باكستان، طاجيكستان، أوزبكستان، بالإضافة إلى دول مراقبة وشركاء حوار. تأسست المنظمة عام 2001 وشكلت أكبر منظمة إقليمية من حيث المساحة والسكان في العالم.
نقاط التلاقي والتنافر إتضح التباين و التلاقي في الأدوات والوسائل والأهداف، التي تستخدمها الدول الكبرى. لكن من ناحية أخرى، فإن تلك الأدوات والوسائل والأهداف ليست بالضرورة حِكرًا على طرف واحد دون غيره. تَستخدم معظم القوى الكبرى وسائل الاستثمارات في التنمية، وكذلك بيع الأسلحة وخوض الحروب. لكن كل طرف وضع لنفسه خيارًا استراتيجيًا. يختلف ليس فقط بين الأطراف، وإنما يختلف أحيانًا حتى عند الطرف الواحد نفسه. تتغير الحالة حسب قراءة كل الأوضاع القائمة والظروف الملموسة و الإحتياجات الذاتية.
قد تلعب الأيديولوجيا أو العقيدة الرسمية أو عوامل أخرى أدوارًا أحيانًا، تكون أساسية في بعض الحالات وأخرى جانبية. لكن المصالح تظل عنصرًا حيويًا وفعالًا. ينبغي النظر إلى المصالح بطريقة جدية ومعمقة. فهي ليست واحدة مُعرفة عند كل الأطراف الدولية بمضامين واحدة. ومن أجل الانصاف وتحقيق القراءات السليمة وأقرب إلى الواقع، ينبغي أخذ كل حالة ضمن سياقها التاريخي. طُرح العديدُ من التشخصيات لسلوكيات الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا والصين. هي بذاتها تقدم تفسيرات لدوافع تصرفات كل طرف. يعتمد الغرب: نظام العقوبات، التحالفات مع الأطراف الموالية، قوة السلاح، القوة الوكيلة، القوة الناعمة، حرب معلومات، فرض عزلة دولية على أي طرف مستهدف.
أما روسيا فتستخدم القوة الوكيلة، حرب المعلومات، التسليح والنشاطات الفعّالة في البيئات الضعيفة، تميل إلى استخدامات الأقل تكلفة من المواجهات المباشرة. لكنها في بعض الحالات تلوح بالقوة وتستخدمها أحيانًا أخرى.
أما الصين فتستخدم اللغة المرنة و الديبلوماسية في التعامل مع جميع الدول، إلى جانب وضوح الموقف. تميل إلى استثمارات اقتصادية طويلة المدى، تقدم القروض، تعتمد أسلوب تبادل المنفعة والابتعاد عن سياسة التهديد والتلويح بالقوة. هي الأقل على الإطلاق أستعدادًا للجوء إلى استخدام الأدوات العسكرية ضد الآخرين، على الرغم من قوتها الهائلة في العدد والعديد.
#عبدالحميد_برتو (هاشتاغ)
Abdul_Hamid_Barto#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرة إلى عالم اليوم (5)
-
نظرة إلى عالم اليوم (4)
-
نظرة إلى عالم اليوم (3)
-
نظرة إلى عالم اليوم (2)
-
نظرة إلى عالم اليوم (1)
-
مع الشاعر سمير الصميدعي
-
البحث المتواصل طريق خيرالله سعيد
-
التاريخ حجر الزاوية
-
حين أبحر جمال العتابي
-
رواية -كدمات اليمام- (3 والأخيرة)
-
رواية -كدمات اليمام- (2)
-
رواية -كدمات اليمام- (1)
-
في عالم الذكاء الإصطناعي
-
أوامر ترامب العجولة
-
إهانة التضحية
-
يحيى علوان رحل مسالماً
-
حميد الحريزي يرسم واحةَ الهذيان
-
جولة مع الروائي راسم الحديثي
-
الشاعر والمناضل مخلص خليل
-
حين يَتولى مُنصفون مهماتٍ
المزيد.....
-
مراسلة CNN تشرح تفاصيل صفقة -تيك توك- الأمريكي.. من يسيطر عل
...
-
سوريا: سرقة تمثال للقديس بولس.. والحكومة تعلن ضبط قائد شبكة
...
-
مشاهد لـ-قتال بين جماعة الحوثي وقوات المجلس الانتقالي الجنوب
...
-
فرنسا: بعد فشل اعتماد ميزانية 2026... الحكومة تتجه نحو قانون
...
-
مقتل 7 أشخاص في هجوم صاروخي روسي على ميناء في أوديسا الأوكرا
...
-
قصف إسرائيلي على قطاع غزة وحماس تندد باستهداف مركز إيواء
-
رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي يجري مباحثات مع رئيس الكونغو ال
...
-
واشنطن بوست: عقيدة ترامب هي لنجعل أميركا أصغر مرة أخرى
-
وول ستريت جورنال: عدم استخدام الأصول الروسية لصالح أوكرانيا
...
-
مراسل الجزيرة يرصد معاناة 3 عائلات تقيم في خيمة واحدة بغزة
المزيد.....
-
النظام الإقليمي العربي المعاصر أمام تحديات الانكشاف والسقوط
/ محمد مراد
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|