أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد زكرد - تحوّلات العقل والعقلانية في الفلسفة المعاصرة














المزيد.....

تحوّلات العقل والعقلانية في الفلسفة المعاصرة


أحمد زكرد
باحث في مجال الفلسفة و العلوم الانسانية

(Ahmed Zakrad)


الحوار المتمدن-العدد: 8559 - 2025 / 12 / 17 - 16:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في قلب الفلسفة المعاصرة ينبض سؤال العقل بوصفه سؤالًا عن الإنسان ذاته: عن قدرته على الفهم، وعن حدود هذا الفهم، وعن الشروط التي يتشكل داخلها. لم يعد العقل، كما كان في التصورات الميتافيزيقية الكلاسيكية، جوهرًا خالصًا أو ملكة ثابتة تسكن الإنسان منذ الأزل، بل صار يُنظر إليه باعتباره نتاجًا لتاريخ طويل من التحولات، ومحصلةً لتشابك معقد بين الثقافة والمعرفة والسلطة واللغة. من هنا يكتسب التفكير في طبيعة العقل وتحولاته أهمية خاصة، لأنه يكشف عن الكيفية التي يعيد بها الإنسان بناء أدوات فهمه للعالم ولذاته في آن واحد.
في هذا الأفق تتقاطع أطروحات جون بيير فرنان، ومحمد أركون، وأولمو، رغم اختلاف مجالات اشتغالهم ومداخلهم المنهجية. يجمع بينهم خيط فكري عميق يتمثل في نقد التصور الجوهري والمطلق للعقل، وفي الإصرار على فهمه بوصفه ممارسة تاريخية ونشاطًا نقديًا ووظيفة معرفية تتحدد داخل شروط مخصوصة. العقل، في هذه الرؤى، ليس معطًى سابقًا على التجربة الإنسانية، بل هو ما يتشكل داخلها، ويتحول بتحولها، ويتقدم بقدر ما يراجع ذاته.
ينطلق جون بيير فرنان من مساءلة العلاقة بين العقل والتاريخ، رافضًا كل اختزال يجعل من العقل كيانًا مفارقًا للزمن أو حقيقة قائمة بذاتها. فالعقل، في نظره، ليس مادة صلبة ولا جوهرًا واحدًا، بل شبكة من أنماط التفكير، وتقنيات ذهنية، وأساليب في الاستدلال والبرهنة والتفنيد. هذه الشبكة لا تتشكل في فراغ، بل تنبثق داخل سياقات اجتماعية وثقافية ومعرفية محددة. لكل عصر منطقه العقلي الخاص، ولكل نسق معرفي أدواته الذهنية التي تحدد ما يُعتبر معقولًا أو غير معقول.
بهذا المعنى، يخضع العقل نفسه لمنطق الصيرورة التاريخية. فهو يتغير بتغير أنماط الإنتاج المعرفي، وبانتقال الإنسان من أساطير التفسير إلى مفاهيم العلم، ومن التفكير الرمزي إلى التفكير البرهاني. ومن هنا يرفض فرنان العقلانية الكلاسيكية التي تتعامل مع العقل باعتباره حقيقة مطلقة وثابتة، ويقترح بدلًا منها عقلانية معاصرة ترى في العقل ممارسة نقدية مفتوحة، تقوم على الحوار، وكشف التناقضات، وإعادة النظر في المسلمات. العقل، عنده، لا يؤسس العلم لأنه يمتلك مبادئ أزلية، بل لأنه قادر على تطوير أدواته باستمرار، وعلى ملاءمة نفسه مع الإشكالات التي يطرحها الواقع والتاريخ.
هذا التصور التاريخي للعقل يجد صداه العميق في مشروع محمد أركون، الذي جعل من تحليل التحولات الكبرى في تاريخ الفكر الإنساني محورًا أساسيًا لاشتغاله. يرى أركون أن أحد المنعطفات الحاسمة في تاريخ العقل تمثل في القطيعة التي أحدثتها الحداثة الفلسفية مع العقل اللاهوتي القروسطي. لقد كان هذا العقل خاضعًا لمنطق السلطة الدينية، محكومًا بيقينيات مغلقة، ومحصنًا ضد السؤال والنقد. فجاء التحول الحداثي ليعلن استقلالية العقل البشري، ويحرره من الوصاية الكهنوتية، ويفتح أمامه أفق الشك المنهجي والنقد الذاتي.
غير أن أهمية هذا التحول، في نظر أركون، لا تختزل في تأسيس العقل العلمي فحسب، بل تتجلى أساسًا في إعادة تعريف وظيفة العقل ذاته. لم يعد العقل مجرد أداة لتبرير الموروث أو تثبيت المسلمات، بل صار قوة قادرة على مساءلة ذاتها، وعلى تصحيح أخطائها، وعلى تجاوز حدودها السابقة. هكذا يغدو العقل الحديث مشروعًا مفتوحًا، لا يكتفي بإنتاج المعرفة، بل يعيد النظر في شروط إنتاجها، وفي الأطر الثقافية واللغوية التي تحكمها. إن العقل، بهذا المعنى، ليس سلطة نهائية، بل ممارسة نقدية دائمة، وإيمان عميق بإمكانية التقدم الإنساني.
أما أولمو، فيقارب مسألة العقل من زاوية إبستيمولوجية، مركزًا على تاريخ العقلانية العلمية وتحولاتها الكبرى. يبين أن القرن الثامن عشر شهد انتقالًا نوعيًا من العقلانية الديكارتية، التي كانت تؤمن بوجود مبادئ عقلية واضحة ومتميزة، إلى العقلانية النقدية الكانطية، التي جعلت من شروط المعرفة وحدودها موضوعًا للتفكير الفلسفي. ورغم الاختلاف بين هذين النموذجين، فإنهما يشتركان في الإقرار بوجود مضمون سابق للعقل، سواء تمثل في البديهيات أو في مقولات الفهم.
غير أن هذا التصور سيعرف، مع تطور العلم والفلسفة، تحولًا جذريًا في إطار العقلانية المعاصرة. لم يعد العقل يُفهم كمخزون جاهز من المبادئ، بل كقدرة على القيام بعمليات منظمة وفق قواعد قابلة للمراجعة. العقل هنا ليس ما نملكه، بل ما نمارسه؛ ليس بنية ساكنة، بل نشاط دينامي يتحدد بقدرته على الاشتغال داخل إشكالات معرفية محددة. قيمته لا تُقاس بما يحتويه من مبادئ، بل بفعاليته النقدية، وبمرونته في مواجهة تعقيد الواقع.
من خلال هذه الأطروحات الثلاث يتضح أن الفلسفة المعاصرة قد أعادت صياغة مفهوم العقل صياغة جذرية. لم يعد العقل مطلقًا ولا متعاليًا، ولا مرجعًا نهائيًا للحقيقة، بل أفقًا مفتوحًا للفهم والمساءلة وإنتاج المعنى. إنه قوة إنسانية تتشكل داخل التاريخ، وتعيد بناء ذاتها باستمرار، وتعي حدودها بقدر ما توسع إمكاناتها. هكذا تظهر العقلانية المعاصرة عقلانية متواضعة، لا تدعي امتلاك الحقيقة النهائية، لكنها في الوقت ذاته عقلانية خلاقة، قادرة على الإبداع والتجدد، وعلى مرافقة الإنسان في مغامرته الدائمة لفهم العالم وتغييره.



#أحمد_زكرد (هاشتاغ)       Ahmed_Zakrad#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليوم العالمي للفلسفة 2025… حين يُعاد طرح الأسئلة التي تحدّد ...
- فيلم فرانكشتاين 2025: حين ينهض المخلوق شاهداً على خطايا الخا ...
- من التحليل النفسي إلى التحليل الوجودي : قراءة في فكر لودفيغ ...
- الوجود المشترك: قراءة فلسفية في فكر جان-لوك نانسي
- قراءة في فكر بيتر فيسل زابفه: مأساة الوعي وعبث الوجود
- الوجودية: بين الحرية والعزلة، والمعنى والعبث
- كتاب غسق الأفكار: رحلة في عوالم إميل سيوران الفلسفية
- الإنسان بين الحضور الوجودي والحضور الافتراضي نحو مساءلة فلسف ...
- إشكالية العلم والتقنية: من بدايات التفكير الفلسفي إلى تحديات ...
- مدرسة فرانكفورت: الأثر النقدي من النشأة إلى الامتداد المعاصر
- القضية الفلسطينية: مرآة الجرح الإنساني وصراع القوى الكونية
- فلسفة نيتشه عن المرأة
- أزمة القيم والتربية في عصر الإعلام الرقمي
- اليوم العالمي للمرأة: تأمل فلسفي في مسار النضال والعدالة وال ...
- الطبيعة والثقافة في ضوء فيلم LEnfant Sauvage: رحلة الإنسان م ...
- إشكالية الحب عبر التاريخ
- الريح التي حملت الأمل: قراءة في فيلم The Boy Who Harnessed t ...
- تأملات في مسيرة الإنسان وتحديات المستقبل من خلال كتاب العاقل ...
- إشكالية الرغبة والسعادة في عالم متغير: من خلال فيلم -Nomadla ...
- الأتمتة وسؤال الإنسان


المزيد.....




- مصر: خطة حكومية لمعالجة ظاهرة -الكلاب الضالة- التي يُقدر عدد ...
- آلاف المحتجّين في ليتوانيا يرفضون تعديلات قانون هيئة الإذاعة ...
- -لمواجهة التهديدات-.. ألمانيا تقرّ حزمة تسليح قياسية بقيمة 5 ...
- غوتيريش يحذر من تعميق الانقسامات باليمن بعد تحرك الانتقالي ا ...
- آسفي: طوفان نوليبرالي
- أوكرانيا : كيف تستخدم الأصول الروسية ؟
- الربيع العربي : ما هي حصيلتته ؟
- هل تملك أوروبا القدرة على ردع روسيا؟
- هل يهدف التصعيد الأميركي لضرب فنزويلا أم للتفاوض معها؟
- -ما وراء الخبر- يناقش أهداف وتداعيات التصعيد الأميركي تجاه ف ...


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد زكرد - تحوّلات العقل والعقلانية في الفلسفة المعاصرة