أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد زكرد - الإنسان بين الحضور الوجودي والحضور الافتراضي نحو مساءلة فلسفية للكينونة في زمن الرقمنة














المزيد.....

الإنسان بين الحضور الوجودي والحضور الافتراضي نحو مساءلة فلسفية للكينونة في زمن الرقمنة


أحمد زكرد

الحوار المتمدن-العدد: 8371 - 2025 / 6 / 12 - 06:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولاً عميقًا في أنماط الحضور الإنساني، حيث انتقل الإنسان من حضوره الفيزيائي والوجودي التقليدي في العالم، إلى حضور افتراضي رقمي يتوسطه وسيط تقني. هذا التحول يطرح إشكالات فلسفية عميقة، تتعلق بماهية الكينونة الإنسانية، وبحدود الحضور، وبالتغيرات التي مست الوعي بالذات والغير والعالم.
فهل يمكن اعتبار الحضور الافتراضي استمرارًا للحضور الوجودي؟ أم هو قطيعة معه؟
هل يتيح الفضاء الرقمي إمكانات جديدة للكينونة؟ أم أنه يهدد بانمحاء الحضور لصالح التمثيل؟
وهل ما نعيشه هو توسيع لحدود الذات، أم تقليصٌ لها إلى صورة قابلة للاستهلاك؟
هذه الأسئلة تشكل أرضية هذا البحث الذي يسعى إلى مساءلة المفاهيم الفلسفية المرتبطة بالحضور والكينونة والهوية في زمن الرقمنة، من خلال الحوار مع عدد من المفكرين مثل مارتن هايدغر، إيمانويل ليفيناس، جان بودريار، بول ريكور، زيغمونت باومان وغيرهم.
أولًا: مفهوم الحضور الوجودي بين هايدغر وليفيناس
يرتبط الحضور في الفكر الفلسفي الكلاسيكي بالوجود العيني للكائن في العالم، أي بوجوده في الزمان والمكان، وتفاعله الملموس مع الآخر والواقع. عند هايدغر، لا يحضر الإنسان إلا بصفته "كائنًا منفتحًا على الكينونة"، أي بكونه "الوجود هنا" (Dasein)، الذي يعيش همّ وجوده ويتأمله بوصفه مشروعًا لا يكتمل.
في هذا الحضور، يتحقق الإنسان من خلال التجربة، القلق، والموت، أي من خلال وجوده الأصيل في العالم. إنه ليس حضورًا سطحيًا، بل هو انكشاف للكينونة عبر الانخراط في الوجود. أما ليفيناس، فقد شدد على أن الحضور يتجلى في وجه الآخر، هذا الوجه الذي يدعونا أخلاقيًا، ويجعل من العلاقة مع الغير مصدرًا للمسؤولية والمعنى. فالحضور هنا لا يُعرَّف بمعطى مادي، بل بالانفتاح على الآخر.
ثانيًا: الحضور الافتراضي وتحول الكينونة إلى صورة
مع صعود التكنولوجيا الرقمية، تغيرت طبيعة الحضور الإنساني بشكل جذري. لم يعد الإنسان يُختبر في وجوده المباشر، بل بات يحضر من خلال وسائط رقمية: صور، حسابات، منشورات، مقاطع صوت وصورة. وبهذا صار الحضور تمثيليًا أكثر منه وجوديًا.
يرى جان بودريار في تحليله لمجتمع ما بعد الحداثة، أن الإنسان أصبح يعيش في عالم "الصور والمُحاكاة"، حيث تختلط الحقيقة بالتمثيل، بل وتُمحى لصالحه. فما يعرض على الشاشات لم يعد يعبّر عن الواقع، بل يُنتِج واقعه الخاص. وبهذا يكون الحضور الافتراضي، في جوهره، "محاكاة لحضور"، أو كما يسميه بعض المفكرين المعاصرين: حضور معدوم.
لم يعُد الإنسان يُرى أو يُسمع كما هو، بل كما يريد أن يُقدَّم ويُستهلك. إننا لا نرى الإنسان، بل "صورته الرقمية"، تلك التي تُختزل غالبًا في الأنا النرجسية، المُفلترة، والمُعدلة.
ثالثًا: الهوية والسرد في الفضاء الرقمي
وفقًا لـ بول ريكور، تتشكل الهوية الإنسانية من خلال سردية الذات، أي من خلال قصة الإنسان عن نفسه، المملوءة بالزمنية والتغير والصيرورة. لكن في الفضاء الافتراضي، يتحول السرد إلى عرض مرئي سريع، تغيب عنه التعقيدات الوجودية، ويطغى عليه التبسيط والاختزال.
إن الهوية لم تعُد تتشكل عبر التجربة، بل عبر "تحديث الحساب"، ومتابعة "الترند"، والمشاركة في الحضور الجماعي المتغير. ومع هذا التحول، يفقد الإنسان عمقه الزمني، ويعيش في لحظة الحاضر الدائم، دون ذاكرة حقيقية أو مشروع مستقبلي.
رابعًا: من الكينونة إلى التصفح.. تحوّل في العلاقة بالغير
تتميز العلاقة بالغير في الوجود الواقعي بالحضور الكامل: لقاء جسدي، صوت، إحساس، نظرة. أما في الفضاء الرقمي، فإن الغير يتحول إلى محتوى: نتابعه، نعلّق عليه، نحذفه، نحكم عليه بنقرة.
إن هذا التحول يقوض العلاقة الأخلاقية بالآخر، ويُفرغها من بعدها الإنساني. لقد أصبحت العلاقة به تفاعلية سطحية، حيث لا مجال للاعتراف أو التقدير أو حتى الانصات. ويذهب بعض المفكرين إلى أن هذه اللا-علاقة هي ما يُغذي مشاعر العزلة والقلق والعدمية لدى الإنسان المعاصر.
خامسًا: الحضور الافتراضي كأداة تحرر أم شكل جديد من الاغتراب؟
رغم هذا النقد، لا يمكن إنكار أن الفضاء الرقمي قد فتح إمكانيات جديدة للتعبير والتواصل والتعلم والانخراط في قضايا العالم. فقد مكّن الكثيرين من أن يحضروا بشكل لم يكن ممكنًا لهم سابقًا: المرضى، المهمشين، المعاقين، المنفيين... لكن هذا الحضور يظل هشًّا، مهددًا بالاختفاء، قائمًا على خوارزميات لا أخلاق لها، وعلى سرعة لا تتيح التأمل أو العمق.
إن التحدي الفلسفي هنا هو ألا نقع في ثنائية تبسيطية بين الحضور الواقعي كـ"حضور أصيل" والحضور الافتراضي كـ"حضور زائف"، بل أن نعمل على مساءلة الحدود، وعلى إعادة بناء الحضور داخل الرقمي بما يخدم الكينونة لا يمحوها.
خاتمة: نحو فلسفة إنسانية للحضور في زمن الشاشة
إن الإنسان في زمن الحضور الافتراضي مطالبٌ بأن يستعيد ذاته، لا برفض التكنولوجيا، بل بتأويلها إنسانيًا. فما نحتاجه ليس الخروج من الفضاء الرقمي، بل حضوره فيه بوصفه كائنًا يتأمل، يفكّر، يتفاعل، لا ككائن يُصفّح أو يُعرض.
فليكن الحضور الافتراضي امتدادًا للحضور الوجودي، لا قطيعةً معه.
وليكن الإنسان سيدًا للوسيط، لا عبدًا له.
وحينئذ، يمكننا أن نكتب الفصل الجديد من قصة الكينونة... على الشاشة، لكن بالحبر الوجودي العميق.



#أحمد_زكرد (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية العلم والتقنية: من بدايات التفكير الفلسفي إلى تحديات ...
- مدرسة فرانكفورت: الأثر النقدي من النشأة إلى الامتداد المعاصر
- القضية الفلسطينية: مرآة الجرح الإنساني وصراع القوى الكونية
- فلسفة نيتشه عن المرأة
- أزمة القيم والتربية في عصر الإعلام الرقمي
- اليوم العالمي للمرأة: تأمل فلسفي في مسار النضال والعدالة وال ...
- الطبيعة والثقافة في ضوء فيلم LEnfant Sauvage: رحلة الإنسان م ...
- إشكالية الحب عبر التاريخ
- الريح التي حملت الأمل: قراءة في فيلم The Boy Who Harnessed t ...
- تأملات في مسيرة الإنسان وتحديات المستقبل من خلال كتاب العاقل ...
- إشكالية الرغبة والسعادة في عالم متغير: من خلال فيلم -Nomadla ...
- الأتمتة وسؤال الإنسان
- الريد بيل Red pill: فلسفة جديدة لفهم العلاقات بين الجنسين وت ...
- نظرة بانورامية حول تاريخ الفلسفة منذ الاغريق الى الآن
- اشكالية الرغبة: جدلية النقص والإشباع في تشكيل الذات
- إشكالية نقد الدين بين الوعي والواقع: من فيورباخ إلى ماركس
- Lillusion et la vérité
- مستقبل سوريا في ظل الصراع الدولي
- الفلسفة المعاصرة: جدلية الإنسان بين انهيار اليقين والبحث عن ...
- إشكالية الهوية و الوجود الرقمي: بين الأصالة والاغتراب


المزيد.....




- بمقولة خليفة أموي بعد الضربة الإسرائيلية في إيران.. مبعوث تر ...
- وكالة: البيت الأبيض يوعز بإجراء تدقيق على العقود الحكومية مع ...
- هل ما يحدث بين إسرائيل وإيران -حرب- فعلاً؟ ومتى نطلق هذه الت ...
- +++تواصل الغارات المتبادلة بين إسرائيل وإيران وسط دعوات للته ...
- أمريكا: احتجاجات -لا ملوك- ضد استعراض ترامب العسكري
- هل للولادة القيصرية مخاطر على صحة الأم والطفل على المدى الطو ...
- الجيش الإسرائيلي: مقاتلات سلاح الجو أكملت هجوما على المنشأة ...
- دفعة جديدة من الصواريخ الإيرانية تضرب وسط إسرائيل وسقوط عدد ...
- الإسعاف الإسرائيلية: مقتل إسرائيلي في الرشقة الصاروخية الإير ...
- صحيفة: واشنطن تقوم بتفعيل صواريخ باتريوت خلال الهجوم الإيران ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد زكرد - الإنسان بين الحضور الوجودي والحضور الافتراضي نحو مساءلة فلسفية للكينونة في زمن الرقمنة