أحمد زكرد
باحث في مجال الفلسفة و العلوم الانسانية
(Ahmed Zakrad)
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 04:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في أفق الفلسفة المعاصرة، يبرز جان-لوك نانسي كأحد المفكرين الذين سعوا إلى إعادة النظر في معنى الوجود، وطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الإنسان وعلاقته بالآخرين والمجتمع. فلسفته ليست مجرد محاولة للتأمل النظري في الوجود، بل هي دعوة لإعادة التفكير في شروط العيش المشترك، وفي آليات بناء الهوية والحرية في عالم يتسم بالتغير والتعددية. إذ يرى نانسي أن الوجود ليس حالة جامدة أو كيانًا منفصلًا عن محيطه، بل هو فعل مستمر يتشكل ويُعاد تشكيله من خلال شبكة معقدة من العلاقات الإنسانية، حيث لا يمكن لأي فرد أن يدرك ذاته بمعزل عن الآخرين.
في أعماله، مثل "الوجود المفرد الجمعي" و"المجتمع غير العامل" يقدم نانسي رؤية فلسفية تتجاوز الثنائية التقليدية بين الذات والآخر، مؤكّدًا على أن الحرية، الهوية، وحتى الجسد، ليست أمورًا ذاتية بالمعنى المطلق، بل هي مفاهيم تتجسد وتكتسب معناها من خلال التفاعل مع الآخر والمشاركة في الحياة الجماعية. بهذه الرؤية، يتحول الفعل الفردي إلى فعل مشترك، وتصبح المسؤولية عن الوجود مسؤولية متبادلة، حيث يلتقي كل فرد مع الآخر في فضاء مشترك من التجربة والمعنى.
نحاول تقديم إطارًا معرفيًا يهيئ القارئ للغوص في عمق أفكار نانسي، حيث يمتزج التحليل الفلسفي بالتأمل في طبيعة الوجود، ويصبح السؤال عن “الوجود المشترك” سؤالًا محوريًا يستدعي منا النظر إلى العالم وإلى أنفسنا بعيون جديدة، أكثر وعيًا بالتفاعل الإنساني وبقيمة التعددية والاختلاف كجوهر للحياة المشتركة.
الوجود كمسؤولية أنطولوجية
ينطلق جان-لوك نانسي في تفكيره الفلسفي من فرضية مركزية: أن الوجود ليس حالة جامدة أو جوهرًا مغلقًا يمكن للعقل أن يملكه أو يحدد حدوده، بل هو عملية مستمرة من الفعل والانفتاح على العالم والآخرين. في كتابه "الوجود المفرد الجمعي", يؤكد نانسي أن الفرد لا يمكنه أن يحقق ذاته بمعزل عن الآخرين؛ فالوجود الإنساني يتحقق فقط من خلال شبكة معقدة من العلاقات المشتركة، حيث يصبح "أنا" ممكنًا بوجود "أنت" و"هم".
هذه الرؤية تطرح معنى جديدًا للحرية، بعيدًا عن الفهم الكلاسيكي الذي يقصرها على قدرة الفرد على الاختيار الفردي أو الاستقلالية الذاتية. فالحرية، عند نانسي، ليست مجرد فعل شخصي أو إرادة فردية، بل هي فعل جماعي يتشكل ويُعيد تشكيل ذاته من خلال التفاعل المستمر مع الآخرين، وتغدو مسؤولية الإنسان عن وجوده مرتبطة بالآخرين وبالعالم الذي يشاركهم فيه.
من هذا المنطلق، يمكن القول إن فلسفة نانسي تحوّل الوجود من مفهوم ساكن إلى فعل ديناميكي، حيث تتحقق الإنسانية الحقيقية فقط عبر الالتزام بالعلاقات المشتركة، والانفتاح على الغيرية، واستيعاب أن كل حرية فردية ليست مطلقة إلا بقدر ما تتفاعل وتتكامل مع الحرية الجماعية. بهذا، يصبح كل وجود إنساني مسؤولية أنطولوجية، ليس فقط تجاه ذاته، بل تجاه الآخرين، تجاه المجتمع، وحتى تجاه العالم ككل.
المجتمع غير العامل – تفكيك مفهوم المجتمع التقليدي
في كتابه "المجتمع غير العامل", يقدم جان-لوك نانسي رؤية نقدية للمجتمع التقليدي الذي يسعى إلى إعادة إنتاج نموذج مثالي لما قبل الحداثة، حيث يُفترض أن الروابط الاجتماعية كانت أكثر تماسكا وترابطا. بالنسبة لنانسي، هذا السعي إلى استعادة "المجتمع الكامل" هو وهم فلسفي واجتماعي؛ فهو يتجاهل الطبيعة الديناميكية للوجود البشري، ويُغفل أن المجتمعات لا تتكون من كيانات ثابتة، بل هي فضاءات متحركة من التفاعل المستمر، تتشكل وتتبدل عبر الزمن ومن خلال التنوع والاختلاف.
يرى نانسي أن المجتمع يجب أن يُفهم ليس ككيان مغلق يسعى إلى الوحدة المطلقة، بل كفضاء مفتوح يسمح بالتعددية والتفاعل، حيث تصبح الاختلافات الداخلية جزءًا لا يتجزأ من هويته. هذا الفهم يعيد تعريف المجتمع ليس كمجموعة من الأفراد المتماثلين أو ككيان يسعى إلى الانصهار الكامل، بل كشبكة من العلاقات التي تتسم بالمرونة والانفتاح، حيث يُعَدّ التفاعل والتبادل بين أعضائه شرطًا أساسيًا لوجوده واستمراره.
من منظور نانسي، تفكيك المفاهيم التقليدية للمجتمع يكشف عن بُعد أساسي للفعل الاجتماعي: المجتمع ليس مجرد مكان للوجود الجماعي، بل هو سياق يتحقق فيه الوجود المشترك، حيث تصبح المسؤولية تجاه الآخر والالتزام بالاختلاف شرطًا لإمكان وجودنا الجماعي. بهذا المعنى، يعيد نانسي رسم حدود المفهوم الاجتماعي، مؤكدًا أن التعددية والاختلاف ليسا مجرد ظواهر ثانوية، بل هما جوهر هوية المجتمع وأساس استمرار الحياة الجماعية.
الحرية غير الذاتية – تجاوز الفردية التقليدية
في أعماله، لا سيما "الوجود المفرد الجمعي", يقدم جان-لوك نانسي إعادة تعريف جذري لمفهوم الحرية، بعيدًا عن التصورات الكلاسيكية التي تربطها بالاستقلالية المطلقة أو الإرادة الفردية المجردة. بالنسبة لنانسي، الحرية ليست ملكًا للذات بمعزل عن الآخرين، ولا هي قدرة على الاختيار المنفصل عن سياق العلاقات الاجتماعية، بل هي فعل جماعي يتشكل ويتحقق عبر التفاعل المستمر مع الآخرين والبيئة المحيطة.
فالحرية، من منظوره، ليست حالة ثابتة أو حقًا يمتلكه الفرد بمفرده، بل هي ممارسة حية تتطلب الانفتاح على الآخر، والاعتراف بالاعتماد المتبادل بين الأفراد. الفرد الحر لا يمكن أن يكون منعزلًا عن محيطه الاجتماعي؛ فهويته وتوجهاته تتشكل في شبكة متشابكة من العلاقات التي تمنحه القدرة على الفعل والتحقق. بهذا المعنى، تصبح الحرية مسؤولية مشتركة، تتطلب الانتباه إلى الآخر والتفاعل معه، لا مجرد تصرف فردي يهدف إلى تحقيق رغبات الذات الخاصة.
إعادة تعريف نانسي للحرية بهذا الشكل تُعيد النظر في العلاقة بين الفرد والمجتمع، وتضع الأساس لفهم جديد للحرية كظرف مشترك، يتجاوز الفردية التقليدية ويعطي قيمة للتعاون والتفاعل. فهي تحوّل الحرية من مفهوم مغلق ومطلق إلى فعل يكتسب معناه من سياقه الاجتماعي ومن شبكة الالتزامات والمسؤوليات التي تتجاوز الذات الفردية، مما يجعلها عنصرًا أساسيًا في بناء الوجود المشترك وفهم الديناميات الإنسانية والاجتماعية بشكل أعمق.
الجسد كغريب – فلسفة الجسد عند جان لوك نانسي
تُعد فلسفة الجسد في فكر جان-لوك نانسي من أبرز محطات تفكيكه الفلسفي، إذ يقدم رؤية تتجاوز التصورات التقليدية التي تعتبر الجسد مجرد أداة أو وسيلة للتعبير عن الذات أو لتحقيق رغبات الفرد الخاصة. بالنسبة لنانسي، الجسد ليس ملكًا مطلقًا للفرد؛ بل هو كائن "غريب" بالنسبة للذات، يحوي في طياته الغيرية والاختلاف، ويظل دومًا عنصرًا خارجًا عن السيطرة المطلقة للوعي الفردي.
ينظر نانسي إلى الجسد كفضاء للتفاعل والتبادل مع الآخرين، فهو يُعبّر عن الذات ولكنه في الوقت ذاته يتجاوزها، ويجعل الفرد في مواجهة دائمة مع ما هو خارج عن ذاته، سواء من خلال العلاقات الاجتماعية أو التجارب المشتركة أو حدود قدراته الطبيعية. بهذا المعنى، يصبح الجسد عنصرًا مركزيًا في فلسفة الحرية عند نانسي؛ فهو فضاء للحرية والاختلاف، حيث تتحقق التجربة الإنسانية ليس فقط من خلال امتلاك الجسد أو التحكم فيه، بل من خلال الانفتاح على الغيرية والاستجابة للتفاعل مع العالم والآخرين.
تؤكد هذه الرؤية أن فهم الجسد لا يمكن أن يكون معزولًا عن الوجود المشترك، إذ يفتح المجال أمام إعادة التفكير في الهوية والفردية والحرية كظواهر متشابكة مع الآخرين. الجسد، عند نانسي، ليس مجرد وعاء أو وسيلة، بل هو جسد مُشارك في التجربة الإنسانية، يحمل في طياته الالتزام بالعلاقات وبالآخر، ويجعل من الاختلاف والتعددية جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية نفسها.
نانسي وفلسفة الوجود المشترك
إن رحلة التأمل في فكر جان-لوك نانسي تكشف عن تصور فلسفي متكامل يعيد تشكيل فهمنا للوجود الإنساني والمجتمع والعلاقات بين الأفراد. من خلال تحليله للوجود كمسؤولية أنطولوجية، يظهر نانسي أن الفرد لا يتحقق إلا عبر الآخر، وأن الحرية الحقيقية ليست امتلاكًا ذاتيًا مطلقًا، بل فعل جماعي يتشكل في سياق العلاقات المتبادلة. وفي إطار المجتمع، يرفض نانسي التصورات التقليدية التي تصوره ككيان ثابت أو متجانس، مؤكّدًا على أن التعددية والاختلاف هما جوهره وأساس استمراريته.
وعند النظر إلى الجسد، يقدم نانسي رؤية مبتكرة تؤكد أن الجسد ليس مجرد أداة للتعبير عن الذات، بل هو فضاء للغيرية والتفاعل مع الآخرين، مما يعمّق فهمنا للحرية والاختلاف داخل التجربة الإنسانية. كل هذه المفاهيم تتلاقى لتشكل فلسفة الوجود المشترك، حيث يصبح التفاعل مع الآخر، والاعتراف بالاختلاف، والانفتاح على الغيرية، أساس كل فهم للذات والعالم.
بهذا المعنى، يقدم نانسي نموذجًا فلسفيًا يعيد النظر في القيم الجوهرية للوجود الإنساني: الحرية، الهوية، المسؤولية، والتفاعل الاجتماعي. إنه فكر يجعل من الوجود تجربة مشتركة، تتجاوز حدود الفردية الضيقة، وتحوّل العلاقات الإنسانية إلى فضاء للإبداع والحرية والتعددية. في نهاية المطاف، فلسفة نانسي ليست مجرد نظرية معرفية، بل دعوة حيّة للعيش والتفكير مع الآخر، حيث يصبح الوجود ذاته فعلًا مشتركًا، وفهم الحياة الإنسانية تجربة غنية بالتفاعل والانفتاح المستمر.
المراجع والمصادر :
جان-لوك نانسي، المجتمع غير العامل (La communauté désœuvrée)الناشر: Éditions Christian Bourgois، باريس، 2004
جان-لوك نانسي، الوجود المفرد الجمعي (Être singulier pluriel)الناشر: Éditions Galilée، باريس، 1996
مقالة: "Être singulier pluriel: Une lecture de Jean-Luc Nancy"المؤلف: S. Claudeالمصدر: Revue de littérature comparée، 2022
#أحمد_زكرد (هاشتاغ)
Ahmed_Zakrad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟