أحمد زكرد
باحث في مجال الفلسفة و العلوم الانسانية
(Ahmed Zakrad)
الحوار المتمدن-العدد: 8401 - 2025 / 7 / 12 - 16:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الملخص
بالعربية:
يقدم هذا المقال تحليلًا فلسفيًا عميقًا للفلسفة الوجودية باعتبارها تجربة فكرية مستمرة تتفاعل مع التحديات المعاصرة، وتركز على سؤال الوجود البشري، والحرية، والمعنى، والعلاقات الإنسانية. يُستعرض فيه أهم الأفكار التي تُناقش اليوم في الفكر الوجودي، مثل العبثية، والقلق الوجودي، والصراع بين الفرد والمجتمع، بالإضافة إلى المعضلات الفلسفية العالقة، مثل إمكانية الخروج من العزلة الوجودية، وتحديات الذكاء الاصطناعي والرقمية أمام مفهوم الذات الحرة. ويُختتم المقال بتسليط الضوء على إمكانية تأويل الفلسفة الوجودية في سياقات ثقافية غير غربية، خاصة في الفكر العربي والإسلامي، ليُظهر أن الوجودية ليست نظامًا جاهزًا، بل سؤالًا مفتوحًا يُعاد طرحه في كل زمان ومكان.
بالفرنسية:
Cet article propose une analyse philosophique approfondie de l existentialisme en tant qu expérience intellectuelle continue qui interagit avec les défis contemporains, se concentrant sur la question de l existence humaine, la liberté, le sens et les relations humaines. Les principales idées discutées aujourd hui dans la pensée existentialiste sont passées en revue, telles que l absurdité, l anxiété existentielle et le conflit entre l individu et la société, ainsi que les problèmes philosophiques persistants, comme la possibilité de sortir de l isolement existentiel et les défis posés par l intelligence artificielle et le numérique face à la notion de soi libre. L article se conclut par une mise en lumière des possibilités d interprétation de l existentialisme dans des contextes culturels non occidentaux, en particulier dans la pensée arabe et islamique, montrant que l existentialisme n est pas un système figé, mais une question ouverte qui se reformule à chaque époque et en chaque lieu.
المقال :
إن الفلسفة الوجودية ليست مجرد تيار فكري ظهر في القرن العشرين، ولا هي مجموعة من الآراء يمكن حصرها أو تقييدها بنظام واحد، بل هي أكثر من ذلك: هي تجربة فلسفية تبدأ من الإنسان كما هو، وليس كما ينبغي أن يكون. إنها لا تبحث عن الإجابات الجاهزة، بل تطرح الأسئلة الكبرى حول الوجود والمعنى والحرية، وتترك للإنسان مهمة البحث عنها واختبارها. ومنذ ولادتها الأولى على يد فلاسفة مثل هيدجر وسارتر وكامو وحتى كيركيغارد، لم تتوقف الفلسفة الوجودية عن التفاعل مع الزمن، بل واخترقت الحاضر بأسئلتها الصعبة، وظلت تعيد صياغة نفسها أمام كل تحدي جديد، لتظل حية في قلب الفكر الإنساني.
تجدر الفلسفة الوجودية جذورها في فكرة واحدة أساسية: "الوجود يسبق الجوهر". هذه الجملة التي يبدو أنها بسيطة، لكنها تحمل في طياتها ثورة فلسفية كبرى، إذ تنقض التقليدية التي كانت ترى أن الإنسان يولد بجوهر محدد، وأن مهمته في الحياة اكتشافه أو تحقيقه. أما الوجوديون، فإنهم يقولون إن الإنسان لا يأتي إلى العالم مزودًا ببرنامج مكتوب له فيه طريقه ومصيره، بل هو كائن يُخلق أولًا، ثم يُكوّن نفسه بنفسه عبر اختياراته وأفعاله. وهذا يعني أن الإنسان حرّ، ولكن هذه الحرية لا تأتي بدون وزرٍ ثقيل، وهو المسؤولية الكاملة عن الذات وعن العالم الذي يبنيه حوله.
وهنا تبدأ المعاناة الوجودية. فالحرية التي تبدو للبعض نعمة، قد تكون لغيره نقمة، لأنها تخلّي الإنسان وحيدًا أمام الخيارات، بلا ضمانات ولا إجابات قاطعة. ويصف سارتر هذه الحالة بأنها حالة "القلق" الذي لا يفارق الإنسان الحر، فهو لا يستطيع التذرع بالدين، ولا بالمجتمع، ولا حتى بالطبيعة ليعفيه من المسؤولية. فكل اختيار هو فعل إنشائي للكينونة، وكل خطوة تخطوها الذات تعني إعادة تعريف ماذا يعني أن تكون إنسانًا. لهذا، فإن الوجودية ليست فقط فلسفة، بل هي أيضًا موقف وجودي عميق من الحياة.
لكن هل يمكن للحرية أن تكون حقيقية في عالم تسوده الظروف؟ هذا سؤال كبير يقف في قلب النقاشات المعاصرة حول الفلسفة الوجودية. كيف يمكن لإنسان أن يكون حرًا إذا كان محدودًا بالطبقة الاجتماعية، والجينات البيولوجية، والتاريخ الثقافي؟ وهل الاختيار الحقيقي ممكن في ظل هيمنة الخوارزميات والتقنيات الحديثة التي تتحكم في سلوكياتنا بشكل غير مباشر؟ بعض النقاد يعتبرون أن الوجودية تبالغ في تمجيد الفرد، وتتجاهل الواقع الجماعي والاجتماعي الذي يشكل الهوية البشرية، بينما يرى آخرون أن الوجودية لا تنكر هذا الواقع، بل تُظهر أنه لا يمكن لأحد أن يعيش حياتك بدلاً منك، وبالتالي عليك أن تختار، سواء أحببت ذلك أم لا.
ويأتي الموت كعنصر آخر لا غنى عنه في التجربة الوجودية. ليس الموت عند الوجوديين نهاية بيولوجية فقط، بل هو شرط ضروري لمنح الحياة معناها. فلو كان الإنسان خالدًا، لفقدت أفعاله حدة التزامها، ولما كان هناك داعٍ للشعور بالمسؤولية. لكن إدراك الموت يجعل كل لحظة ذات قيمة، ويضع الإنسان أمام حدوده الأخيرة، حيث يدرك تمامًا طبيعة حريته ووحدته. وهنا يظهر القلق مرة أخرى، لكنه ليس قلقًا مرضاويًا، بل هو حالة فطرية في الكائن الذي يدرك أنه يمشي على حافة الهاوية.
أما العبثية، فهي فكرة ارتبطت بشكل خاص بفكر ألبير كامو، الذي رأى أن الحياة في جوهرها لا معنى لها، وأن الكون لا يجيب عن أسئلة الإنسان، ولكنه في الوقت نفسه رفض اليأس، ودعا إلى ما أسماه "التمرد"، أي الاستمرار في العيش بوعي تام بعد إدراك اللا معنى. فهل يمكن للإنسان أن يخلق معنى لنفسه في عالم لا معنى له؟ وهل هذا المعنى الذاتي كافٍ لمنح الحياة قيمة؟ هذه أسئلة لا تزال تثير الجدل بين الفلاسفة والمفكرين.
ومن بين أبرز المعضلات التي تواجه الفلسفة الوجودية اليوم، السؤال حول العلاقة بين الذوات. فبينما يؤكد سارتر أن الآخر هو جحيم، بسبب الصراع الدائم بين الذوات الحرة، فإن البعض يرى أن الآخر ضروري لفهم الذات، بل وتكمن في العلاقة مع الآخر أحد طرق الخروج من العزلة الوجودية. وهكذا تبقى العلاقة الإنسانية موضوعًا فلسفيًا حارقًا: كيف يمكن للذوات الحرة أن تتعايش؟ وهل يمكن أن تكون الأخلاق الوجودية قائمة على شيء سوى الاختيار الفردي؟
وفي سياقات معاصرة، برزت أسئلة جديدة تتحدى الفلسفة الوجودية أن تعيد النظر في بعض مقولاتها. فكيف يمكن للرؤية الوجودية أن تتعامل مع عالم أصبح فيه الإنسان متصلًا دائمًا بشبكات رقمية، وحياته تخضع للتحليل عبر البيانات والخوارزميات؟ هل ما زالت الحرية ممكنة عندما تُحدَّد خياراتك بواسطة ما تراه على الشاشة؟ وهل ما زال بالإمكان الحديث عن الذات الحرة في زمن الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي؟ هذه أسئلة تُعيد تشكيل مفاهيم مثل الوعي، والاختيار، والذات، وتفتح آفاقًا جديدة للتفكير الوجودي.
ولا تقل أهميةً قضية العلاقة بين الوجودية والدين. فبينما يرفض بعض الوجوديين، كالملحدين منهم، فكرة الله باعتبارها وهمًا يحرمنا من مواجهة الواقع بمفرده، يرى آخرون أن الإيمان يمكن أن يكون أحد أشكال التمرد ضد اللا معنى، بل وقد يكون وسيلة لمنح الحياة قيمة وجودية أعظم. وهكذا تبقى العلاقة بين الإيمان والعدم، بين الإله والعبث، مصدرًا لتناظرات فلسفية مستمرة.
وأخيرًا، لا يمكن إغفال المحاولات المستمرة لتأويل الفلسفة الوجودية في سياقات ثقافية مختلفة، خاصة في العالم العربي والإسلامي. فهل يمكن نقل الفلسفة الوجودية إلى ثقافات لا تتشكل فيها الذات بنفس الطريقة الغربية؟ وهل يمكن للفرد في مجتمعات جماعية أن يفهم الحرية كما يراها سارتر أو كامو؟ هذه أسئلة تحتاج إلى تأمل عميق، وإلى إعادة قراءة الفلسفة الوجودية من داخل الثقافات غير الغربية، لا مجرد استيرادها.
الفلسفة الوجودية إذًا ليست نظرية جاهزة، بل هي دائمًا سؤال، وتجربة، ومسيرة. هي ليست جوابًا، بل هي محاولة لفهم السؤال نفسه. وهي تظل تتردد في قلوب المفكرين والشعراء والفنانين، وفي كل من يحاول أن يعيش حياته بوعي حقيقي، بعيدًا عن الغموض والهروب، مواجهًا الواقع بكل صدق، مختارًا طريقه رغم الألم، ورغم العبث، ورغم الوحدة. في الوجودية، الإنسان لا يجد معنىً، بل يصنعه، ويخطوه، ويمشي به، حتى آخر نفس.
#أحمد_زكرد (هاشتاغ)
Ahmed_Zakrad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟