أحمد زكرد
باحث في مجال الفلسفة و العلوم الانسانية
(Ahmed Zakrad)
الحوار المتمدن-العدد: 8457 - 2025 / 9 / 6 - 20:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في قلب القرن العشرين، حيث تمازجت التحولات الفلسفية العميقة بالانشغالات النفسية الجديدة، ظهر لودفيغ بينسفانغر (1881-1966) كأحد الأصوات الفكرية التي رفضت الانغلاق في حدود التخصص الضيقة، وسعت إلى بناء رؤية شمولية للإنسان. لم يكن بينسفانغر مجرد طبيب نفسي يراقب الأعراض ويدوّن التشخيصات، بل كان مفكراً يسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين الفلسفة والطب النفسي، بين السؤال عن الوجود (question de l’existence) وفهم الجنون (compréhension de la folie).
لقد جمع بينسفانغر في تكوينه بين الصرامة العلمية والانفتاح الفلسفي؛ فقد درس الطب وتشرّب تقاليد التحليل النفسي الفرويدي، لكنه ما لبث أن وجد في الظاهراتية الهوسرلية (phénoménologie husserlienne) أفقاً جديداً لفهم التجربة الإنسانية، قبل أن يتبنّى بعمق مقولات مارتن هايدغر، وبالأخص مفهوم "الوجود-في-العالم" (être-dans-le-monde) الذي سيغدو حجر الزاوية في مشروعه التحليلي. ومن هذا التفاعل المعقد بين العلم والفلسفة، وُلد منهجه الخاص المسمّى بالتحليل الوجودي (Daseinsanalyse)، وهو محاولة جريئة لجعل الفلسفة رفيقة للطب النفسي، ولجعل الممارسة العلاجية إنصاتاً عميقاً إلى كينونة المريض لا إلى أعراضه فقط.
ما يميز بينسفانغر هو إصراره على النظر إلى الإنسان لا كموضوع خارجي، بل كوجود متجذر في العالم، منفتح على الزمن (temps)، مرتبط بالآخر (autrui)، ومشدود دوماً إلى معنى (sens) يسعى إلى تحقيقه. وهكذا، حين تناول مسألة المرض النفسي ، لم يرد أن يحصره في لغة الاختلالات البيولوجية أو الصراعات اللاواعية، بل اعتبره انكساراً في علاقة الذات بالعالم: انقطاعاً في النسيج الذي يوحّد الإنسان بالزمن والآخر والذات نفسها. فالامراض النفسية ، في تصوره، تجربة وجودية قصوى، تكشف هشاشة الكائن البشري، وتضعنا أمام حدود ما يمكن للإنسان أن يكونه أو يفقده.
ولعل القيمة الكبرى لفكر بينسفانغر تكمن في أنه أعاد الاعتبار للإنسان في قلب التجربة العلاجية. فهو لم ينظر إلى المريض باعتباره حالة مرضية (cas pathologique)، بل كذات متألمة تبحث عن استعادة وجودها. هنا يظهر البعد الإنساني العميق في مشروعه: فالتحليل الوجودي ليس مجرد تقنية علاجية، بل هو مرافقة وجودية (accompagnement existentiel)، تسعى إلى إعادة فتح إمكانات العيش أمام ذات اختنقت في أفقها.
بهذا المعنى، يقدّم فكر بينسفانغر أكثر من مجرد إضافة للطب النفسي؛ إنه يضعنا أمام إعادة تعريف للإنسان ذاته: كائن متناهٍ، هشّ، محكوم بالزمن، لكنه في الوقت ذاته منفتح على الإمكان، قادر على إعادة صياغة وجوده حتى في أقصى لحظات الانكسار. إنّه فكر يجعل من االاضطراب النفسي لا مجرد تهديد للإنسان، بل مناسبة لفهم عمقه الأنطولوجي، ودعوة لإعادة التفكير في معنى الكينونة ذاتها.
في نظر لودفيغ بينسفانغر، لا ينحصر التحليل الوجودي (Daseinsanalyse) في تشخيص الأعراض أو في تأويلها وفق آليات نفسية خفية كما فعل فرويد ( التحليل النفسي ) ، بل يتجاوز ذلك ليغدو رحلة وجودية (voyage existentiel)، غايتها إعادة الإنسان إلى ذاته، واستعادته لعلاقته الأصيلة بالعالم (monde)، بالآخر (autrui)، وبذاته (soi-même). فالمرض النفسي ليس، في هذا المنظور، مجرد اختلال بيولوجي أو صراع لاواعي، بل هو نداء صامت، إشعار بأن الذات انقطعت عن أفقها الأصلي، وتاهت عن إمكاناتها الحقيقية. ومن هنا، يغدو العلاج نفسه فعلًا فلسفياً بقدر ما هو ممارسة سريرية.
إنّ ما يميز هذا المنهج هو أنه يضع المريض في قلب التجربة العلاجية، لا بوصفه حالة مرضية (cas pathologique) ينبغي إصلاحها، بل كوجود يبحث عن توازن (équilibre)، عن انسجام مع ذاته وعالمه. ولهذا فإن العلاقة بين المعالج والمريض تتحول إلى لقاء (rencontre) حيّ، إلى مجال مشترك يُعاد فيه التفكير في معاني العيش. المعالج هنا ليس سلطة تُسقِط تفسيراتها على المريض، بل رفيق وجودي (compagnon existentiel) يفتح المجال للحوار والمشاركة، في محاولة لإعادة بناء الجسور التي انقطعت بين الإنسان ووجوده.
وفي سبيل ذلك، ينطلق بينسفانغر من تمييزه الدقيق بين ثلاثة عوالم يعيش فيها الإنسان:
العالم الطبيعي (Umwelt): وهو مجال العلاقة مع الأشياء والكائنات الطبيعية. في هذا المستوى، يساعد العلاج على استعادة الحضور في المحيط، بحيث لا يشعر الفرد بالعزلة أو الانفصال عن بيئته، بل يجد نفسه منخرطاً فيها بانسجام وفاعلية.
العالم الاجتماعي (Mitwelt): وهو مجال الوجود مع الآخرين. هنا يكمن دور العلاج في إعادة بناء الروابط الاجتماعية، استعادة القدرة على التواصل، وتجاوز الانغلاق أو العدائية التي قد يفرضها المرض النفسي. فالعلاج يصبح تدريباً على المشاركة في الإنسانية المشتركة.
العالم الداخلي (Eigenwelt): وهو أعمق المستويات، حيث يواجه الفرد ذاته، رغباته، مخاوفه، وهويته. وفي هذا العالم، يُصبح التحليل الوجودي وسيلة لإعادة اكتشاف الذات، فهمها بصدق، والتصالح مع هشاشتها وطاقاتها الكامنة.
بهذا التصور، يتضح أنّ العلاج عند بينسفانغر ليس إلغاءً للمرض أو طمسه، بل هو إعادة فتح أفق جديد للحياة. إنه محاولة لردّ الإنسان إلى إمكاناته الأصلية، إلى انفتاحه على المستقبل (avenir)، إلى إمكانية إعادة صياغة وجوده في مواجهة القلق (angoisse) والعبث (absurde). فالجنون، كما يراه، ليس نهايةً أو سقوطاً، بل لحظة قصوى يمكن أن تتحول إلى فرصة لاستعادة الذات في معناها الأصيل.
وهكذا، يغدو التحليل الوجودي أكثر من مجرد منهج علاجي؛ إنه إعلان فلسفي عن وحدة الوجود والطب، عن أن فهم الإنسان لا يكتمل إلا إذا أدركنا هشاشته وطاقته في آن واحد. إنه مسعى يعيد للإنسان كرامته في لحظة ضعفه، ويجعل من العلاج فعل مقاومة ضد الاغتراب (aliénation)، وضد التشييء الذي يُحوّل الذات إلى موضوع جامد. هنا بالضبط تكمن قوة بينسفانغر: في جعل العلاج سبيلاً إلى استعادة الوجود (récupération de l’existence)، أي إعادة الإنسان إلى ذاته، إلى حضوره في العالم، وإلى لقائه بالآخر في أفق أصيل ومفتوح.
لقد كشف لنا فكر لودفيغ بينسفانغر عن جوهر التجربة الإنسانية من خلال منهج التحليل الوجودي (Daseinsanalyse)، حيث لم يعد الجنون (folie) أو الاضطراب النفسي مجرد خلل في الآليات العقلية أو البيولوجية، بل تجربة وجودية قصوى، تفضح هشاشة الإنسان وهو في مواجهة عالمه. فالجنون، بهذا المعنى، ليس انحرافاً عن العقلانية فحسب، بل انقطاع في خيوط المعنى (rupture du sens) التي تنسج علاقة الذات بذاتها، بالآخر، وبالعالم المعيش.
ومن خلال رؤيته للعوالم الثلاثة—العالم الطبيعي (Umwelt)، العالم الاجتماعي (Mitwelt)، والعالم الذاتي (Eigenwelt)—قدّم بينسفانغر خريطة دقيقة لفهم الوجود الإنساني. فإذا اختل التوازن بين هذه العوالم، انكسرت التجربة الإنسانية وتحوّلت إلى وجود مشوَّه (existence déformée). وهنا يصبح العلاج النفسي أكثر من مجرد تدخل سريري، بل لقاء حيّ (rencontre vivante) بين المعالج والمريض، رحلة مشتركة نحو إعادة بناء الجسور المنقطعة، وإحياء القدرة على التفاعل الحر مع العالم.
بهذه الرؤية، يتجاوز التحليل الوجودي حدود العلاج التقليدي ليصبح فعلاً فلسفياً يمسّ صميم الكينونة. فهو لا يسعى إلى محو الأعراض أو إسكات الألم، بل إلى فتح أفق جديد للحرية (liberté) والهوية (identité)، إلى دعوة الإنسان لاستعادة ذاته في حضور أصيل مع الآخرين ومع العالم. إنّ العلاج هنا يصبح مقاومة للاغتراب (aliénation)، وتذكيراً بأن الإنسان ليس شيئاً يُصلح، بل كائناً يتجدّد كلما واجه هشاشته وانفتح على إمكاناته.
في نهاية المطاف، يمنحنا بينسفانغر رؤية تجعل من الفلسفة والطب النفسي معاً طريقاً لفهم الإنسان في شموليته: كائن متناهٍ، هشّ، لكنه منفتح على الإمكان، قادر على إعادة خلق ذاته في مواجهة القلق والجنون. ومن هنا، فإن قراءة فكره ليست مجرد تمرين أكاديمي أو تحليل سريري، بل هي مناسبة للتأمل في معنى وجودنا نحن، نحن الذين نسعى، رغم كل انكساراتنا، إلى أن نجد ذواتنا في حوار دائم مع العالم والآخرين.
#أحمد_زكرد (هاشتاغ)
Ahmed_Zakrad#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟