أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد زكرد - فيلم فرانكشتاين 2025: حين ينهض المخلوق شاهداً على خطايا الخالق















المزيد.....

فيلم فرانكشتاين 2025: حين ينهض المخلوق شاهداً على خطايا الخالق


أحمد زكرد
باحث في مجال الفلسفة و العلوم الانسانية

(Ahmed Zakrad)


الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 22:50
المحور: الادب والفن
    


يبدو فيلم فرانكشتاين في إصدار غييرمو ديل تورو لعام 2025 كأنّه بحث طويل في أعماق النفس البشرية، بحث يقترب من الفلسفة بقدر ما يقترب من الشعر، ويعيد صياغة الحكاية القديمة بصفائها الأول، لكن بظلال أكثر كثافة، وبأسئلة أثقل وزنًا مما حملته الرواية الأصلية. لا يعود الفيلم مجرّد قصة عن عالم يحيي الجسد الميت، بل يتحوّل إلى سجلّ اعترافات، اعترافات لا تصدر عن فيكتور وحده، ولا عن المخلوق وحده، بل عن الإنسان بوصفه كائنًا تتجاور داخله العبقرية والأذى، الرغبة في الخلق والخشية من مسؤوليته، التوق إلى المعرفة وارتباك الضمير أمام نتائجها.

يضعنا ديل تورو منذ اللحظة الأولى أمام إنسان يلهث خلف حدود العلم كما لو أنّها بوابة خلاص، عالم يرى في المعرفة نارًا، بعضها نور يهدي الطريق، وبعضها الآخر جمر يحرق أصابع من يقترب منه. طموح فيكتور، أو بالأحرى ambition démesurée، يعيد طرح السؤال الفلسفي القديم الذي شغل الأخلاقيين منذ فجر الفلسفة: هل يحقّ للإنسان أن يعبث بسرّ الحياة؟ وهل مجرّد القدرة على الفعل تعطيه الحق في ممارسته؟ يتحوّل الاكتشاف العلمي هنا إلى امتحان أخلاقي، ويصبح الخلق ذاته فعلاً يَكشف ما في الداخل أكثر مما يكشف حدود الطبيعة.

حين ينهض المخلوق من العدم، تبدو اللحظة كما لو أنّها ارتجاج في ضمير العالم. يقف فيكتور أمام خلقه لا بصفته أبًا، بل بصفته هاربًا، يهرب من نظرة الكائن الجديد كما لو أنها مرآة تعكس كل ما أراد إخفاءه. هنا ينفصل العلم عن الأخلاق، ويظهر الخلل الحقيقي: ليس في الاقتراب من مجهول الطبيعة، بل في ترك الكائن الذي أُخرج إلى الوجود من دون رعاية، من دون معنى، من دون كلمة تثبّت جذوره في عالم لم يختره.

ينهض المخلوق l autrui كما يحبّ الفلاسفة أن يسمّوه — ككائن يبحث عن اعتراف أسبق من اللغة، يبحث عن ذرة حنان تكسر عزلته الأولى. يحمل جسده ندوبًا تشبه خريطة للألم، لكنه يحمل في عينيه هشاشة تكاد تفضح الإنسانية قبل أن يتعلم ما تعنيه. ترفضه الوجوه، ويهرب منه خالقه، ويظلّ السؤال يلاحقه: هل الوحشية صفة تُخلق مع الجسد، أم أنّها حكم يلقيه المجتمع على من لا يشبهه؟ في هذه اللحظة يضعنا ديل تورو أمام الحقيقة التي نخشى الاعتراف بها: الوحش ليس المخلوق، بل النظرة التي تُسقِط عليه الوحشية.

يتعاظم الصراع بين فيكتور ومخلوقه كأنّه صراع بين سرديتين تتنازعان على معنى الوجود. فيكتور يريد أن يكتب الحكاية بوصفها ملحمة علمية، إنجازًا يرفعه فوق حدود البشر، بينما يسعى المخلوق لأن يروي حكايته كصرخة بحث عن معنى. يتقاطع المساران عند المفهوم الفلسفي العميق للهوية: الإنسان ليس ما يُصنع عليه، بل ما يصنعه من جراحه. الجرح يتحوّل إلى شكل من أشكال الوعي، والندبة تصبح وثيقة وجود. كلما حاول فيكتور أن يهرب من مسؤوليته، ازداد المخلوق حضورًا، كأنّ كل خطوة يبتعد فيها الخالق تزيد في يقظة المخلوق.

تأتي لحظة المواجهة بينهما كأنّها وقوف على قمة جبل من الذنب والصمت. الاعتذار الذي يقدّمه فيكتور ليس تبريرًا، بل اعترافًا متأخرًا بأن الخلق بلا محبة يتحوّل إلى خطيئة. أما الغفران الذي يقدّمه المخلوق، فليس عفوًا ساذجًا، بل فعلًا من تلك الأفعال التي تفتح فجوة في جدار الألم ليدخل منها الضوء. هنا يتجلّى مفهوم النقص imperfection، لا كعيب في طبيعة البشر، بل كشرط جوهري لتجربتهم، مصدر لمعانيهم، وسبب يجعل الحياة — بما فيها من تعثر وانكسار — قادرة على إنتاج الجمال من الرماد.

لكن الفيلم لا يكتفي بتجربة الاعتراف والمصالحة، بل يغوص في طبقة أعمق: طبقة دورة العنف cycle de violence. لا يقدّم العنف كشر فطري، بل كإرث ينتقل بالصمت، من أب إلى ابن، من خالق إلى مخلوق، من مجتمع إلى آخر. ينساب الألم عبر الأجيال كأنه مياه ثقيلة تبحث عن منفذ، وتترك خلفها طبقات من الغضب لم يخترها أحد. يصبح المخلوق حاملًا لجرح لم يخلقه، وضحية لسلسلة من الانكسارات التي بدأت قبل وجوده واستمرت عبره.

ومن بين كل هذه الظلال، يطلّ الخلود immortalité كعلامة مرعبة أكثر من كونه امتيازًا. يعيش المخلوق زمنًا يتجاوز زمن فيكتور، يحمل خطيئته عبر القرون، كأنّه شاهد لا يموت على ما ارتكبه الخالق. يطرح الفيلم هنا سؤالاً وجوديًا بالغ الحساسيّة: ما معنى الخلود في عالم بلا دفء؟ هل الزمن نعمة إذا كان خالياً من الانتماء؟ يصير المخلوق تجسيدًا لفكرة فلسفية دقيقة: الأخطاء التي نهرب منها لا تموت معنا، بل تعيش أحيانًا أطول منا، تتحوّل إلى أسطورة تطرق أبواب المستقبل.

وفي البنية البصرية للفيلم، يمارس ديل تورو شكلاً من أشكال الشعر الصامت. الجسد المشوه يتحوّل إلى نصّ مفتوح، ندوبه تتلألأ كما لو أنها كتابة محفورة على جلد الزمن. الجمال هنا ليس صديق الكمال، بل رفيق الظلال. يرى المخرج أن التشوه لا يُنقص الجسد، بل يعطيه تاريخًا، يعطيه لحمًا ذا ذاكرة. هذه النظرة تعيدنا إلى الرومانسية التي رأت في الألم بابًا نحو المعنى، وإلى الوجودية التي اعتبرت أن الإنسان يُعاد خلقه من جديد كلما نجا من جرح آخر.

ويتسلّل البعد المعاصر إلى صلب الحكاية. ليس الفيلم نقدًا للتكنولوجيا بحد ذاتها، بل نقدًا للذهنية التي تراها لعبةً بلا تبعات. فيكتور يصبح رمزًا للإنسان الحديث الذي يصنع أدوات تفوق قدرته على احتوائها. المشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي، بل في الغرور البشري؛ ليست في الآلة، بل في الإنسان الذي يتوهم أنه سيطوّع نتائجها. هنا يلوّح الفيلم بتحذير ناعم لكنه نافذ: المعرفة التي تُصنع بلا وعي أخلاقي تتحوّل في النهاية إلى وحش لا يعترف بخالقه.

ومع انسياب الزمن، يغدو المخلوق سردية أكبر من حجمه. يتحوّل إلى mythe moderne، أسطورة جديدة وُلدت لا من غموض الطبيعة، بل من جموح الإنسان. يصير شاهدًا على لحظة فارقة في تاريخ البشرية: اللحظة التي ظنّ فيها الإنسان أنه قادر على التحكم بالوجود، ثم اكتشف أن الوجود أوسع من حساباته.

بهذا كله، يصبح فرانكشتاين 2025 أكثر من فيلم؛ يصبح مرآةً كبرى يضعها ديل تورو أمام الإنسان ليقول له: "ما نخلقه ليس مجرد امتداد لأفكارنا، بل امتداد لظلالنا أيضًا. وكل ظلّ لا نواجهه، سيعود يومًا ليرافق خطواتنا."

يترك الفيلم المتلقي في نهاية المطاف أمام سؤال لا يملك أحد أن يجيب عنه بسهولة:
هل نحن — في لحظة طموحنا الهائل — نبني عالمًا يليق بنا، أم أننا نفتح أبوابًا سيقف عندها المخلوق يومًا شاهداً على خطايانا؟
بهذا السؤال يستمر الفيلم حيًا، مثل مخلوقه: لا يموت، بل ينتظر من يفهمه.



#أحمد_زكرد (هاشتاغ)       Ahmed_Zakrad#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من التحليل النفسي إلى التحليل الوجودي : قراءة في فكر لودفيغ ...
- الوجود المشترك: قراءة فلسفية في فكر جان-لوك نانسي
- قراءة في فكر بيتر فيسل زابفه: مأساة الوعي وعبث الوجود
- الوجودية: بين الحرية والعزلة، والمعنى والعبث
- كتاب غسق الأفكار: رحلة في عوالم إميل سيوران الفلسفية
- الإنسان بين الحضور الوجودي والحضور الافتراضي نحو مساءلة فلسف ...
- إشكالية العلم والتقنية: من بدايات التفكير الفلسفي إلى تحديات ...
- مدرسة فرانكفورت: الأثر النقدي من النشأة إلى الامتداد المعاصر
- القضية الفلسطينية: مرآة الجرح الإنساني وصراع القوى الكونية
- فلسفة نيتشه عن المرأة
- أزمة القيم والتربية في عصر الإعلام الرقمي
- اليوم العالمي للمرأة: تأمل فلسفي في مسار النضال والعدالة وال ...
- الطبيعة والثقافة في ضوء فيلم LEnfant Sauvage: رحلة الإنسان م ...
- إشكالية الحب عبر التاريخ
- الريح التي حملت الأمل: قراءة في فيلم The Boy Who Harnessed t ...
- تأملات في مسيرة الإنسان وتحديات المستقبل من خلال كتاب العاقل ...
- إشكالية الرغبة والسعادة في عالم متغير: من خلال فيلم -Nomadla ...
- الأتمتة وسؤال الإنسان
- الريد بيل Red pill: فلسفة جديدة لفهم العلاقات بين الجنسين وت ...
- نظرة بانورامية حول تاريخ الفلسفة منذ الاغريق الى الآن


المزيد.....




- التمثيل الشعري للذاكرة الثقافية العربية في اتحاد الأدباء
- الكوتا المسيحية: خسارة ريان الكلداني وعودة الجدل حول “التمثي ...
- مؤرخ وعالم آثار أميركي يُحلل صور ملوك البطالمة في مصر
- -المعرفة- في خدمة الإمبريالية والفاشية والاستبداد
- روزي جدي: العربية هي الثانية في بلادنا لأننا بالهامش العربي ...
- إيران تكشف عن ملصق الدورة الـ43 لمهرجان فجر السينمائي
- هوس الاغتراب الداخلي
- عُشَّاقٌ بَيْنَ نَهْرٍ. . . وَبَحْر
- مظهر نزار: لوحات بألوان صنعاء تروي حكايات التراث والثقافة با ...
- في حضرةِ الألم


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد زكرد - فيلم فرانكشتاين 2025: حين ينهض المخلوق شاهداً على خطايا الخالق