محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8556 - 2025 / 12 / 14 - 06:33
المحور:
قضايا ثقافية
هندسة الانقسام الطائفي من قِبَل القوى الخارجية:
البُنى، الأدوات، الأمثلة، والنتائج في العالم العربي
المقدمة
يشكّل الانقسام الطائفي أحد أكثر الظواهر المعاصرة توظيفًا في الإستراتيجيات الجيوسياسية للدول الكبرى، حيث تحوّل من ظاهرة اجتماعية–تاريخية إلى أداة سياسية لإدارة الصراعات بالوكالة، وإعادة تشكيل الخرائط، والتأثير على السياسات الداخلية للدول. لقد أدركت القوى الخارجية، منذ بداية القرن العشرين، أن البنية الاجتماعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقوم على فسيفساء دينية ومذهبية وإثنية؛ وهذا جعل المنطقة حقلًا قابلًا للاستثمار في الانقسامات، عبر سياسات "فرّق تَسُد"، وصناعة الهويات المتصارعة، وتغذية النزاعات الممتدة.
تأتي هذه الدراسة بهدف تحليل هندسة الانقسام الطائفي باعتباره مشروعًا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا يتم بإشراف قوى خارجية، لا بوصفه مجرّد انفجار تلقائي للتناقضات. وتعتمد الدراسة على مقاربات التاريخ السياسي، وعلم الاجتماع، ودراسات ما بعد الكولونيالية، والجغرافيا السياسية.
---
أولًا: الإطار المفاهيمي والمرجعي لهندسة الانقسام الطائفي
1. تعريف الانقسام الطائفي
يُعرّف الانقسام الطائفي بأنه "تحويل الاختلافات الدينية والمذهبية إلى حدود سياسية صلبة، تُنتج جماعات متعادية تُدار بينها علاقة صراع محكومة بمصالح داخلية أو خارجية" (Anderson, 2018).
الطائفية ليست الدين، وليست المذهب؛ إنها بناء اجتماعي–سياسي، يتم تصنيعه حين تصبح الهويات الدينية أدوات تعبئة سياسية.
2. مفهوم هندسة الانقسام الطائفي
يمكن تعريف "هندسة الانقسام الطائفي" بأنها جميع السياسات المخطّطة التي تُنظّم البيئة السياسية والاجتماعية بما يؤدي إلى:
خلق جماعات متناحرة
تضخيم الهويات البديلة
تقويض الهوية الوطنية
دفع الفئات المتصارعة إلى الارتهان لقوة خارجية
إعادة تشكيل مسار الصراع لمصلحة الفاعل الخارجي
وتتخذ الهندسة الطائفية طابعًا مركّبًا يشمل الإعلام، الاقتصاد، الأمن، شبكات النفوذ، المنظمات الدولية، والدبلوماسية.
3. خلفية تاريخية
بدأ استثمار القوى الخارجية في الانقسام الطائفي منذ الحملة الفرنسية على مصر (1798)، ثم تعزز خلال القرن التاسع عشر عبر "المسألة الشرقية"، وتبلور لاحقًا في الاتفاقات الاستعمارية الكبرى مثل سايكس–بيكو (1916) وسان ريمو (1920)، التي رسخت الحدود السياسية وفق منظورات طائفية وإثنية.
كما لعبت القوى الكبرى في الحرب الباردة دورًا مركزيًا في تغذية الانقسامات الطائفية لمواجهة القومية العربية.
---
ثانيًا: أدوات القوى الخارجية في هندسة الانقسام الطائفي
1. الإعلام وصناعة الكراهية
الإعلام هو الأداة الأكثر تأثيرًا في بناء الطائفية الحديثة. وقد اعتمدت القوى الخارجية ثلاث آليات أساسية:
أ. تضخيم الخطاب الطائفي
عبر:
تمويل قنوات تستهدف جمهورًا طائفيًا محددًا
تقديم روايات تاريخية انتقائية
صناعة سرديات الضحية والجلّاد
ب. التلاعب بالاتجاهات النفسية للمجتمعات
وفق دراسات "الاتصال الجماهيري"، يمكن للهويات الهشة أن تتفاعل بقوة مع الرسائل التي تستدعي ذاكرة المظلومية (Herman & Chomsky, 2002).
ج. استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتفكيك النسيج المجتمعي
خاصة منذ 2011، حيث ظهرت جيوش إلكترونية تعمل على:
نشر الشائعات
خلق فجوات بين الفئات
شيطنة جماعات معينة
إعادة تفعيل الذاكرة الطائفية
2. الاقتصاد: العقوبات، المساعدات، والريع السياسي
تعتمد القوى الخارجية على تحريك الاقتصاد لخلق اصطفافات طائفية عبر:
أ. العقوبات الاقتصادية
تؤدي إلى:
تقوية اقتصاد الظل
صعود أمراء الحرب
لجوء فئات اجتماعية إلى شبكات تمويل طائفية
ب. المساعدات المشروطة
تُقدم لدعم جماعات دون غيرها، مما يخلق اختلالًا في ميزان القوة المحلي، ويُعمّق الانقسام.
ج. استغلال موارد الطاقة
خاصة في العراق ولبنان، حيث شكلت السيطرة الخارجية على الطاقة وسيلة مباشرة لتكريس زعامات طائفية.
3. الأمن والاستخبارات
تتدخل القوى الخارجية عبر:
أ. بناء ميليشيات طائفية
تُستخدم كقوة قتالية بالوكالة proxy forces.
ب. تدريب أجهزة أمنية وفق خطوط انقسام طائفي
كما حدث في تجارب دول أوروبية وأمريكية إثر غزو العراق عام 2003 (Dodge, 2013).
ج. استثمار الفوضى الأمنية
لإعادة رسم التحالفات، وخلق حاجات أمنية تدفع كل طائفة للبحث عن "وكيل دولي" يحميها.
4. الهندسة الدستورية
تعمد بعض القوى الخارجية إلى فرض نظم سياسية تقوم على المحاصصة الطائفية، مثل:
لبنان (اتفاق الطائف)
العراق بعد 2003
البوسنة والهرسك (اتفاق دايتون)
قبرص بعد 1960
هذه البُنى الدستورية تخلق مؤسسات تعمل على أساس الهوية لا المواطنة، وتحول الطوائف إلى وحدات سياسية دائمة الصراع.
5. المنظمات الدولية
تلعب بعض المنظمات دورًا مباشرًا أو غير مباشر في ترسيخ الانقسام عبر:
الدفاع عن جماعة معينة تحت شعار "حماية الأقليات"
إصدار تقارير غير متوازنة
دعم برامج تنموية أحادية الطابع
تشكيل قواعد اشتباك تخلق فراغات أمنية لصالح فاعلين طائفيين
---
ثالثًا: حالات دراسية من العالم العربي
1. العراق بعد 2003
يُعد العراق النموذج الأكثر وضوحًا لهندسة الطائفية.
أ. الحل الشامل للجيش
قرار سلطة الاحتلال الأمريكي بحل الجيش والمؤسسات الأمنية خلق فراغًا سمح بتشكيل ميليشيات ذات طابع مذهبي.
ب. المحاصصة السياسية
اعتماد صيغة "شيعة–سنة–أكراد" جعل الطوائف وحدات سياسية لا مكوّنات اجتماعية.
ج. الإعلام الطائفي
ترافق سقوط بغداد مع ولادة شبكات إعلامية ممولة خارجيًا قامت ببناء خطاب تعبوي ممنهج.
د. النتائج
حرب أهلية 2006
صعود داعش 2014
انقسام مجتمعي طويل الأمد
اعتماد العراقيين على قوى خارجية للحماية
2. لبنان: الطائفية البنيوية
لبنان يمثل نظامًا طائفيًا بامتياز، لكن القوى الخارجية لعبت دورًا مركزيًا في مأسسة الانقسام عبر:
أ. إنشاء دولة تقوم على نموذج المِلل
اعتمدت فرنسا منذ 1920 على هندسة الهوية السياسية للكيانات الطائفية اللبنانية.
ب. الحرب الأهلية (1975–1990)
تدخلت فيها دول إقليمية ودولية، مما حوّل الطوائف إلى فاعلين سياسيين مرتبطين بداعمين خارجيين.
ج. اتفاق الطائف 1989
الذي حافظ على المحاصصة، مُنتجًا "توازنًا هشًا" دائم القابلية للانفجار.
3. البحرين واليمن وسوريا: نماذج موازية
البحرين:
استثمرت القوى الغربية تناقضات سنية–شيعية لتعزيز قواعدها العسكرية.
اليمن:
الحرب منذ 2015 قامت على شبكات طائفية صُنعت عبر التمويل والتسليح الخارجي.
سوريا:
منذ 2011، ظهرت شبكات تدخل خارجي غذت سرديات طائفية لتغيير ميزان القوى.
---
رابعًا: نتائج هندسة الانقسام الطائفي
1. تفكيك الدولة الوطنية
تؤدي الطائفية المُدارة خارجيًا إلى انهيار مؤسسات الدولة عبر:
فقدان الشرعية
تراجع الثقة
صعود اللاعبين غير الرسميين
تحويل مؤسسات الدولة إلى أدوات بيد جماعات معينة
2. تآكل الهوية الوطنية
تتحول الطائفة إلى بديل للدولة، مما يؤدي إلى:
تفكك الروابط الاجتماعية
ظهور هويات فرعية متصارعة
خلق أجيال كاملة ترى في الآخر "تهديدًا وجوديًا"
3. اعتماد دائم على الخارج
تصبح كل فئة بحاجة إلى دعم خارجي لضمان بقائها، مما يحول الدول إلى ساحات نفوذ مفتوحة.
4. اقتصاد حرب مزمن
ينتج عن الانقسام اقتصادٌ يعتمده أمراء الحرب، يقوم على:
تهريب
ابتزاز
اقتصاد مساعدات
شبكات نفوذ
التجنيد الطائفي
5. استدامة النزاعات
النزاعات الطائفية ليست ذات ديناميكية ذاتية؛ بل يتم تغذيتها عبر قوى خارجية، مما يمنع الوصول إلى تسويات وطنية.
---
خامسًا: آليات كبح الهندسة الطائفية
1. إعادة كتابة العقد الاجتماعي
بناء دولة مدنية تعتمد:
المواطنة
فصل الدين عن السياسة
سيادة القانون
مؤسسات غير طائفية
2. إصلاح الإعلام
تشريعات تحظر خطاب الكراهية
دعم إعلام وطني غير ممول خارجيًا
تعزيز الوعي الرقمي
3. إصلاح التعليم
إدماج مناهج:
التسامح
تاريخ النزاعات
بناء السلم الأهلي
مهارات التفكير النقدي
4. تعزيز العدالة الانتقالية
لا يمكن لأي دولة تعاني من انقسام طائفي معالجة الماضي دون أدوات مثل:
لجان الحقيقة
الاعتذار الرسمي
تعويض الضحايا
إصلاح المؤسسات
5. استراتيجيات الأمن الوطني
بناء جيش وطني غير طائفي
مكافحة الميليشيات
ضبط التمويل الخارجي
الأمن الوقائي
---
الخاتمة
تثبت التجارب التاريخية أن الطائفية ليست ظاهرة أصيلة في المجتمعات العربية، بل هي نتاج هندسة سياسية معقدة تُشرف عليها قوى خارجية تسعى إلى إعادة إنتاج تبعيات جديدة وإضعاف الدولة الوطنية. لذلك فإن الخروج من أزمات الطائفية لا يمكن أن يتم عبر حلول جزئية، بل عبر مشروع وطني شامل يقوم على:
تفكيك البُنى الطائفية
بناء مؤسسات عادلة
تجفيف التمويل الخارجي
تعزيز الوعي المجتمعي
حماية الذاكرة الوطنية من الاستغلال الخارجي
إن هندسة الانقسام الطائفي مشروع طويل الأمد، ولذلك فإن مواجهته تحتاج إلى إرادة سياسية، ومجتمع مدني قوي، واستراتيجية شاملة تعيد بناء الثقة بين المكونات المختلفة.
---
المراجع (نماذج أكاديمية معتمدة)
Anderson, B. (2018). Imagined Communities. Verso.
Chomsky, N., & Herman, E. (2002). Manufacturing Consent. Pantheon.
Dodge, T. (2013). Iraq: From War to a New Authoritarianism. Routledge.
Galtung, J. (1996). Peace by Peaceful Means. SAGE.
Haddad, F. (2014). Sectarianism in Iraq: Antagonistic Visions of Unity. Oxford University Press.
Makdisi, U. (2000). The Culture of Sectarianism: Community, History, and Violence in Nineteenth-Century Ottoman Lebanon. University of California Press.
Wimmer, A. (2018). Nation Building. Princeton University Press.
Nasr, V. (2006). The Shia Revival. W.W. Norton.
Phillips, C. (2016). The Battle for Syria. Yale University Press.
Salamé, G. (1994). Democracy without Democrats?. I.B. Tauris.
Varshney, A. (2002). Ethnic Conflict and Civic Life. Yale University Press.
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟