محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 01:22
المحور:
قضايا ثقافية
الهندسة الدستورية للمحاصصة الطائفية في مرحلة ما بعد الحرب: بُنى إعادة الإنتاج، الآليات القانونية، والنتائج الاجتماعية والسياسية
المقدمة
تشكّل مرحلة ما بعد الحرب واحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخ الدول والمجتمعات، إذ تتقاطع فيها قضايا إعادة الإعمار مع مشروعات بناء الدولة، وإقامة توازنات سياسية جديدة، ومعالجة آثار العنف والانقسامات الاجتماعية العميقة. وفي ظل هذا التعقيد، تتجه العديد من الدول — بمبادرة محلية أو بإشراف خارجي — إلى اعتماد الهندسة الدستورية للمحاصصة الطائفية كصيغة سياسية مؤقتة أو دائمة لإدارة التنوع الاجتماعي ووقف العنف.
غير أنّ المحاصصة الطائفية ليست مجرد آلية لتوزيع المناصب، بل هي هندسة دستورية ممنهجة تُعاد من خلالها صياغة الدولة، والمؤسسات، والقوانين، والعلاقات السياسية بين المجموعات، بما يجعل الهوية الدينية/المذهبية أو الإثنية معيارًا للتمثيل السياسي، وأساسًا لتوازن السلطة. وتطرح هذه الهندسة أسئلة عميقة حول مستقبل الدولة المدنية، وأثرها على الاستقرار طويل الأمد، وقدرتها على تفكيك أدوات الحرب أو إعادة إنتاجها بأشكال سياسية وقانونية جديدة.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الهندسة الدستورية للمحاصصة الطائفية من منظور أكاديمي شامل، من خلال تتبّع جذورها الفكرية، واستعراض نماذج عالمية (لبنان، العراق، البوسنة، قبرص، رواندا)، وتقييم أثر هياكل المحاصصة على إعادة بناء الدولة، ومناقشة البدائل المحتملة في سياق الانتقال السياسي. كما تعتمد الدراسة على الأدبيات الحديثة في دراسات الدستور، الانتقال السياسي، الهندسة المؤسساتية، السلم الأهلي، وإدارة التنوع.
---
أولًا: الإطار المفاهيمي للهندسة الدستورية الطائفية
1. تعريف المحاصصة الطائفية
المحاصصة الطائفية هي نظام لتوزيع المناصب والسلطات السياسية وفق نسب محدّدة بين الجماعات الدينية والمذهبية والإثنية. وتقوم على فكرة أن الجماعات، لا الأفراد، هي الوحدات الأساسية للتمثيل السياسي. وتختلف عن التعددية السياسية المدنية التي تمنح الفرد حقّ المشاركة بغضّ النظر عن انتمائه.
2. الهندسة الدستورية للمحاصصة
الهندسة الدستورية للمحاصصة الطائفية تعني تحويل هذا التوزيع إلى:
نصوص دستورية
قوانين انتخابية
مؤسسات دولة قائمة على التوازن الطائفي
محاكم، مجالس تشريعية، أجهزة تنفيذية تُبنى على الهوية
صلاحيات توزّع وفق انتماءات طائفية
وتتم عادة بتوافق داخلي أو بتدخل خارجي عبر الأمم المتحدة، القوى الكبرى، أو أنظمة الوصاية.
3. خلفيات اعتماد المحاصصة في مرحلة ما بعد الحرب
غالبًا ما تُطرح المحاصصة الطائفية في لحظات:
انهيار الدولة المركزية
الحرب الأهلية الممتدة
انعدام الثقة بين المجموعات
رغبة الفاعلين الخارجيين في خلق توازن مستقر
غياب مشروع وطني جامع
ويتم ترويجها بوصفها "حلًا واقعيًا" لإيقاف العنف، رغم أنها غالبًا تتحوّل إلى هيكل دائم.
---
ثانيًا: الأسس النظرية للهندسة الدستورية الطائفية
1. نظرية التوافقية (Consociationalism) – أرند ليبهارت
المنظّر الأساسي للمحاصصة الطائفية هو ليبهارت (Lijphart)، الذي قدّم نموذجًا يتضمن أربعة عناصر:
1. حكومة ائتلافية واسعة تشمل كل المكونات
2. فيتو متبادل بين المجموعات
3. تقاسم نسبي للموارد
4. حكم ذاتي لبعض المناطق أو الجماعات
تُطبّق هذه النظرية غالبًا في دول التعدد الشديد، مثل لبنان والعراق والبوسنة وبلجيكا.
2. الانتقادات النظرية
تنتقد أدبيات عديدة المحاصصة باعتبارها:
آلية لتجميد الهويات
خلق نخب طائفية جديدة
تكريس الانقسام بدل معالجته
منع نشوء أحزاب مدنية
استبدال الصراع المسلح بصراع داخل المؤسسات
(انظر: Horowitz, 2000 Rothchild & Roeder, 2005)
---
ثالثًا: أدوات الهندسة الدستورية للمحاصصة الطائفية
1. الدستور
الدستور هو الحاضنة الأساسية للمحاصصة عبر:
تقسيم السلطات بين الطوائف
تحديد حصة كل مجموعة في البرلمان
النص على مناصب حصرية (مثال: رئيس جمهورية مسيحي، رئيس وزراء مسلم…)
تحديد آليات اتخاذ القرار (الثلث المعطّل في لبنان مثالًا)
2. القانون الانتخابي
القوانين الانتخابية الطائفية تعتمد على:
دوائر مبنية على الأساس الطائفي
لوائح تضمن انتخاب ممثلين عن كل طائفة
أصوات موزّعة بطريقة تمنع هيمنة مجموعة واحدة
منع الأحزاب المدنية من المنافسة العادلة
3. المؤسسة العسكرية والأمنية
تُهندس الأجهزة الأمنية وفق توازن صلب:
توزيع القيادات
نسب التجنيد
وحدات مختلطة
خطوط حمراء تمنع إصلاح الجهاز دون توافق طائفي
4. القضاء
قد يتم:
إنشاء محاكم طائفية
توزيع القضاة وفق الولاءات
خلق منصب "قاضي مذهبي"
5. الاقتصاد
يُعاد بناء الاقتصاد عبر:
حصص طائفية في الوزارات السيادية
تقاسم المشاريع والخدمات
دعم شبكات رجال أعمال مرتبطين بطوائفهم
تحويل المساعدات الدولية إلى قنوات طائفية
---
رابعًا: نماذج ودراسات حالة
1. لبنان: النموذج التاريخي للمحاصصة
لبنان هو المثال الأبرز للهندسة الدستورية الطائفية منذ:
الميثاق الوطني 1943
اتفاق الطائف 1989
أ. توزيع السلطات
رئيس الجمهورية: مسيحي ماروني
رئيس الوزراء: مسلم سنّي
رئيس مجلس النواب: مسلم شيعي
ب. النتائج
استقرار هش
شلل مؤسساتي
تعزيز زعامات طائفية
انهيار اقتصادي نتيجة صراع الزعامات
2. العراق بعد 2003: محاصصة مفروضة خارجيًا
فرض الاحتلال الأمريكي نظامًا يقوم على:
شيعة – سنة – أكراد
مجلس الحكم قائم على نسب
تقاسم الوزارات
جيش وأجهزة أمن أعيد تشكيلها وفق الولاءات
النتائج
صراع مستمر
صعود جماعات مسلّحة
فساد بنيوي
اعتماد أكثر على الدعم الخارجي
3. البوسنة والهرسك: الطائفية الدستورية وفق اتفاق دايتون
تقسيم الدولة إلى:
فدرالية الكروات والمسلمين
جمهورية صرب البوسنة
مع:
ثلاث رئاسات
برلمانان
كيانات منفصلة
المحصلة
توقفت الحرب
لكن الدولة بقيت مشلولة سياسيًا
4. قبرص: نموذج الانقسام الدستوري المستمر
رئيس قبرصي يوناني
نائب رئيس قبرصي تركي
تعطيل الدولة بعد رفض التعديلات
ثم انفصال 1974
5. رواندا بعد الإبادة 1994: النموذج المضاد للمحاصصة
على عكس النماذج السابقة:
ألغت رواندا المحاصصة
منعت الإشارة إلى الهويات
اعتمدت المواطنة أساسًا للسياسة
النتيجة
واحدة من أنجح تجارب إعادة البناء بعد الحرب
رغم الانتقادات التي تتهم النظام بالمركزية المفرطة
---
خامسًا: تأثير الهندسة الدستورية للمحاصصة الطائفية على إعادة بناء الدولة
1. إعادة إنتاج نخب الحرب
في الدول التي تعتمد المحاصصة:
تتحوّل ميليشيات الحرب إلى أحزاب سياسيّة
يدخل أمراء الحرب إلى البرلمان والحكومة
يتم أسطرَتة دورهم بوصفهم "حماة الطائفة"
2. استدامة الفساد
المحاصصة تؤدي إلى:
حمايات طائفية تمنع المحاسبة
توزيع المناصب بشكل غير مهني
شبكات محسوبية
اقتصاد حرب مقنّع
3. شلل المؤسسات
صعوبة اتخاذ القرار
الفيتو المتبادل
تعطيل الموازنات
حكومات مؤقتة لا تنجز شيئًا
4. إضعاف الهوية الوطنية
تصبح الطائفة أهم من الوطن
ويتحوّل الولاء من الدولة إلى الزعيم
مما يؤدي إلى تفكك الذاكرة الجمعية
5. الارتهان للقوى الخارجية
كل طائفة تبحث عن راعٍ خارجي
مما يفتح الباب للتدخلات الجيوسياسية
ويحيل الدولة إلى ساحة صراع مفتوح
---
سادسًا: تقييم تجربة المحاصصة في مرحلة ما بعد الحرب
1. الإيجابيات (على المدى القصير)
وقف الحرب
احتواء المخاوف
بناء توازن يمنع الاستفراد
طمأنة الأقليات
توفير منصة لإعادة توزيع السلطة
2. السلبيات (على المدى الطويل)
هندسة دائمة للانقسام
دولة هشة
مؤسسات فاشلة
عدم وجود حياة سياسية طبيعية
إحباط أي مشروع وطني
تعميق الانقسامات التاريخية
---
سابعًا: بدائل المحاصصة الطائفية
1. النموذج المدني – المواطنة الدستورية
مساواة كاملة
قانون انتخابي غير طائفي
دولة لا تعترف بالهويات السياسية الطائفية
2. التمثيل النسبي بدون حصص
يتيح لكل فئة أن تتمثل دون خلق “محاصصة”.
3. اللامركزية الإدارية غير الطائفية
توزيع سلطات محلية
لكن وفق الجغرافيا لا الطائفة
4. العدالة الانتقالية
كشف الحقيقة
الاعتذار
المحاسبة
جبر الضرر
إصلاح المؤسسات
5. تحصين المؤسسات الأمنية
جيش وطني جامع
منع الميليشيات
تدريب موحّد
عقيدة أمنية وطنية
---
الخاتمة
تُعدّ الهندسة الدستورية للمحاصصة الطائفية أداة فعالة في لحظة وقف الحرب، لكنها تتحوّل — في معظم التجارب — إلى قيد تاريخي يمنع بناء الدولة الحديثة. إنها تُنتج استقرارًا سطحيًا يقوم على التوازن بين جماعات متنافسة، وتُعيد إنتاج الماضي في بنية الدولة، وتحول الدولة إلى تحالف بين زعامات لا إلى مؤسسات.
إن تجاوز هذا الإرث يتطلب:
مشروعًا وطنيًا جامعًا
عقدًا اجتماعيًا جديدًا
مؤسسات دولة مدنية
إصلاحًا دستوريًا تدريجيًا
تعليمًا يعيد صياغة الذاكرة الجمعية
تفكيك بنى الحرب
وإنهاء الارتهان للخارج
إن الخيار بين دولة المواطنة أو دولة المحاصصة ليس خيارًا إداريًا، بل هو خيار وجودي يحدد مستقبل السلم الأهلي والهوية الوطنية.
---
المراجع الأكاديمية (مختارة)
Lijphart, A. (1977). Democracy in Plural Societies. Yale University Press.
Lijphart, A. (2004). Constitutional Design for Divided Societies. Journal of Democracy.
Horowitz, D. (2000). Ethnic Groups in Conflict. University of California Press.
Rothchild, D., & Roeder, P. (2005). Sustainable Peace. Cornell University Press.
Makdisi, U. (2000). The Culture of Sectarianism. Berkeley.
Dodge, T. (2013). Iraq: From War to a New Authoritarianism. Routledge.
Bose, S. (2002). Bosnia after Dayton. Oxford University Press.
Paris, R. (2004). At War’s End. Cambridge University Press.
Salamey, I. (2014). The Government and Politics of Lebanon. Routledge.
Wimmer, A. (2018). Nation Building. Princeton University Press.
Sisk, T. (1996). Power Sharing and International Mediation. USIP.
Galtung, J. (1996). Peace by Peaceful Means. SAGE.
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟