محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8556 - 2025 / 12 / 14 - 02:57
المحور:
قضايا ثقافية
الطائفية: ذاكرة جمعية مشحونة بالذكريات السلبية
دراسة أكاديمية في جذور الذاكرة الطائفية وأثرها على الاجتماع السياسي المعاصر
ملخّص
تُعدّ الطائفية أحد أخطر أشكال الانقسام الاجتماعي لأنها ترتكز على ذاكرة جمعية مشحونة بالذكريات السلبية التي تتغذى على الصراعات التاريخية، والأحداث الدموية، والخطابات الإحيائية، والتصورات المسبقة بين الجماعات. وتبرز خطورة هذه الذاكرة في قدرتها على إعادة إنتاج العنف وعرقلة بناء الدولة الوطنية، وإعاقة المصالحة، وتشكيل أنماط مستمرة من التوترات المجتمعية. تبحث هذه الدراسة في طبيعة الذاكرة الطائفية، وكيف تتكون، والعوامل التي تُبقيها متقدة، إضافة إلى دورها في صنع الطائفية السياسية المعاصرة. كما تناقش العلاقة بين الذاكرة السلبية والهوية الجمعية، وتقدم نموذجًا لآليات تفكيك هذه الذاكرة عبر سياسات تعليمية وثقافية وعدلية تهدف لبناء مجتمع متماسك يتجاوز الإرث الطائفي.
---
1. مقدمة
تعيش المجتمعات متعددة الهويات ضمن شبكة معقدة من التفاعلات التاريخية والثقافية التي تشكل وعي أفرادها وانتماءاتهم. وفي سياق هذه التفاعلات، تتكون ذاكرة جمعية تمثل مخزونًا رمزيًا من الخبرات الماضية، بعضه إيجابي، لكن الجزء الأكبر منه، في المجتمعات التي شهدت صراعات مذهبية أو دينية، سلبي ومشحون بالعنف والخوف والتمييز.
الذاكرة الجمعية ليست مجرد سجل للأحداث الماضية، بل هي مورد سياسي يمكن توظيفه في لحظات التوتر، كما هي في الوقت ذاته مصدر هام لبناء الهويات. وعندما تكون الذاكرة الجمعية مبنية على الأساطير المؤسسة والمظالم التاريخية، ومعززة بخطابات التحريض، تتحول إلى طائفية اجتماعية وسياسية تُعيد إنتاج ذاتها.
تكمن أهمية دراسة الطائفية باعتبارها ذاكرة جمعية سلبية في أن أغلب النزاعات المعاصرة لا تُنتج من "صفر"، بل تُستدعى من مخزون طويل من الأحداث، بعضها وقع قبل مئات السنين، لكن أثره ما زال حاضرًا بقوة في دواخل الجماعات.
ومن هنا تتناول هذه الدراسة الأسئلة التالية:
– ما طبيعة الذاكرة الطائفية؟
– كيف تتكون؟
– ما علاقة الذاكرة بالهوية السياسية؟
– كيف تُستخدم الذاكرة السلبية في الصراعات الحديثة؟
– وكيف يمكن للمجتمعات تفكيك هذه الذاكرة وإعادة صياغتها نحو مستقبل أكثر استقرارًا؟
---
2. الإطار المفاهيمي: الذاكرة الجمعية والطائفية
2.1 مفهوم الذاكرة الجمعية
قدّم موريس هالبواكس (Halbwachs) الإطار النظري الأساسي لمفهوم الذاكرة الجمعية، مبينًا أنّ الذاكرة ليست فردية بالكامل، بل تُبنى في إطار الجماعة، وتتشكل وفق حاجاتها وقيمها ومصالحها.
الذاكرة الجمعية بذلك ليست محايدة ولا صحيحة بالضرورة، بل هي اختيار انتقائي لما ترغب الجماعة أن تتذكره، وللطريقة التي تريد أن تتذكره بها.
2.2 الطائفية كذاكرة اجتماعية
في السياقات الطائفية، تصبح الذاكرة الجمعية شكلًا من أشكال "الهوية الصراعية" التي تُستدعى عند كل أزمة. تتحول الذاكرة هنا إلى:
– أرشيف للمظلومية
– قائمة تاريخية للعداوات
– تفسير ثابت للآخر
– سردية تمزيق لا سردية تعايش
يشير الباحثون إلى أنّ الطائفية ليست مجرد اختلاف عقائدي، بل هي بناء اجتماعي وسياسي تغذيه الذاكرة السلبية ويتم إعادة إنتاجه عبر مؤسسات التربية والإعلام والسياسة.
2.3 الذاكرة السلبية مقابل الذاكرة الإيجابية
الذاكرة الإيجابية تبني الانتماء؛
الذاكرة السلبية تبني الانقسام.
وفي المجتمعات الطائفية، تغيب الذاكرة المشتركة وتظهر "ذاكرات متوازية"، كل جماعة ترى نفسها ضحية والأخرى جلادًا.
---
3. جذور الذاكرة الطائفية: كيف تتكون الذاكرة السلبية؟
3.1 الصراعات التاريخية كمنبع أولي
الصراعات القديمة تترك آثارًا أكبر من الواقع، لأنها غالبًا ما يعاد سردها عبر:
– المبالغة
– الأسطرة
– الانتقاء
– الهويات الدينية المتنافسة
يتم إحياء أحداث الماضي من خلال الروايات الشفوية، أو الكتب الدينية، أو الكتابات التاريخية، بحيث تتحول الأحداث إلى "جرح مفتوح" متوارث.
3.2 دور الصدمة الجمعية
تعرّف الصدمة الجمعية بأنها الأحداث التي تترك أثرًا طويلًا على وعي الجماعة، مثل الاضطهاد أو التهجير أو الحروب.
هذه الصدمات تتحول إلى روايات تأسيسية لا تُنسى، تُدرَّس وتنشَر وتُستخدم لإثبات "خطر الآخر".
3.3 دور النخب السياسية
النخب الطائفية تلعب دورًا كبيرًا في إحياء الذاكرة السلبية لأنها تستفيد منها كأداة تعبئة، وتستخدمها في:
– الانتخابات
– الحروب
– التفاوض
– التوظيف
– توزيع الموارد
تسعى هذه النخب دائمًا إلى تفعيل ذاكرة الصراع لأنها تمنحها شرعية سياسية.
3.4 دور الإعلام والتعليم
الإعلام يعيد تشكيل الذاكرة اليومية عبر:
– خطاب الكراهية
– إعادة إنتاج الت stereotypes
– التركيز على مظاهر العنف الطائفي
أما التعليم، فيعيد بناء الذاكرة طويلة الأمد عبر مناهج التاريخ واللغة والدين.
3.5 العوامل النفسية
الخوف، التعصب، الحذر، الانغلاق، كلها عناصر نفسية تسهم في ترسيخ الذاكرة السلبية لأنها تخلق "آليات دفاع جماعية" تحذر من الآخر.
---
4. الذاكرة الجمعية والطائفية: آليات التفاعل والتأثير
4.1 صناعة العدو
الذاكرة السلبية تجعل الجماعة تبني تصورًا ثابتًا لعدوها، غالبًا عبر:
– شيطنته
– استحضار جرائمه الماضية
– تصويره كتهديد دائم
– نزع الإنسانية عنه
4.2 بناء الهوية عبر التضاد
في الطائفية، الهوية تتشكل عبر "ما لسنا عليه"، أي أننا نعرف أنفسنا عبر تحديد المختلف لا المتشابه.
الذاكرة السلبية هنا تؤسس لتعريف الهوية على أساس الخوف والتمييز.
4.3 إعادة إنتاج الطائفية في السياسة
الذاكرة السلبية تُنتج:
– محاصصة
– حروب أهلية
– انقسامات حزبية
– ولاءات قبل الدولة
– تعطيل الديمقراطية
فتصبح السياسة نفسها "حرب ذاكرات".
4.4 أثر الذاكرة السلبية في العلاقات بين الجماعات
تخلق الذاكرة السلبية سلوكيات مثل:
– عدم الثقة
– الانعزال
– تبادل الاتهامات
– رفض المصاهرة أو التعامل الاقتصادي
– تحقير الآخر
وتصبح العلاقات بين الجماعات صفرية.
---
5. الذاكرة الطائفية في الواقع العربي المعاصر
المنطقة العربية شهدت خلال القرن الماضي سلسلة صراعات طائفية غذّت الذاكرة الجمعية، مثل:
– الحرب الأهلية اللبنانية
– الصراع في العراق
– الأحداث الطائفية في سوريا
– العنف المسلح في اليمن
– التوترات في البحرين
– التفكك المجتمعي في السودان
هذه الصراعات لم تكن مجرد أحداث سياسية، بل تحولت إلى "مخزون شعوري" يتجدد باستمرار عبر:
– روايات الحرب
– المجازر
– التهجير
– الاعتقال
– فقدان الثقة
– تطييف الإعلام
وأصبحت الذاكرة الطائفية جزءًا من الوعي الشعبي والسياسي.
---
6. الطائفية والذاكرة: من الماضي إلى الحاضر
6.1 كيف تُستحضر الذاكرة في لحظات التوتر؟
عند كل أزمة سياسية أو اقتصادية، يتم استدعاء الماضي.
فعلى سبيل المثال، تُستحضر أحداث عمرها مئات السنين لتبرير تحركات اليوم.
هذا الاستدعاء ليس بريئًا، بل وظيفي، وغالبًا ما يتم عبر:
– رجال الدين
– مواقع التواصل
– الإعلام
– المناهج
– الحكايات الشعبية
6.2 دور الذاكرة في استمرار الحروب الأهلية
الدراسات تشير إلى أن الدول ذات الذاكرة الطائفية المشحونة أكثر عرضة للعودة إلى الحرب.
فالذاكرة هنا ليست فقط ماضٍ بل "وقود" للصراع المستقبلي.
6.3 الطائفية الاقتصادية
الذاكرة السلبية قد تترجم إلى:
– احتكار اقتصادي
– حرمان جماعة من الموارد
– تفضيل أبناء الطائفة في الوظائف
– تكوين شبكات اقتصادية مغلقة
وهذا بدوره يعزز الانقسام.
---
7. نحو تفكيك الذاكرة السلبية: مقاربات عملية
7.1 العدالة الانتقالية
تُعد إحدى أهم الأدوات لتفكيك الذاكرة المتورمة. وتشمل:
– كشف الحقيقة
– المحاسبة
– تعويض الضحايا
– إصلاح المؤسسات
من دون هذه الأدوات تبقى الذاكرة مفتوحة وتستمر الطائفية.
7.2 التعليم كأداة لإعادة بناء الذاكرة
المناهج الجديدة يجب أن:
– تدرّس التاريخ من منظور نقدي
– تعزز قيم التنوع
– تبرز القواسم المشتركة
– ترفض التحيزات
7.3 الإعلام الوطني المسؤول
الإعلام قادر على تفكيك أو تعميق الذاكرة السلبية.
ولذلك يحتاج إلى:
– سياسات ضد خطاب الكراهية
– محتوى يجمع لا يفرق
– سرديات وطنية جديدة
7.4 بناء ذاكرة مشتركة بين الجماعات
عبر:
– مشاريع ثقافية
– روايات مشتركة
– تخليد الضحايا جميعًا
– تماثيل السلام
– متاحف ذاكرة وطنية
هدف هذه المشاريع هو تحويل الذاكرة من ذاكرة انقسام إلى ذاكرة شفاء.
7.5 إحياء قيم المواطنة
المواطنة تتجاوز الذاكرة الطائفية عبر:
– مساواة كاملة
– انتماء للدولة لا للطائفة
– سيادة القانون
– توزيع عادل للموارد
7.6 الحوار المجتمعي
إقامة حوارات على مستوى المدارس، الجامعات، القرى، المدن، بين أفراد الجماعات المختلفة يساعد في:
– تفكيك الصور النمطية
– بناء ثقة
– كشف الحقيقة
– إعادة تشكيل الذاكرة
---
8. نماذج دولية للتعامل مع ذاكرات سلبية
8.1 رواندا
بعد الإبادة، تمت إعادة بناء الذاكرة على أساس:
– الاعتراف
– المصالحة
– المحاكم الشعبية (قاشاكا)
– سردية وطنية جديدة
8.2 جنوب إفريقيا
لجنة الحقيقة والمصالحة أعادت صياغة الذاكرة بعيدًا عن العنف وأوجدت سردية مشتركة.
8.3 البوسنة
فشلت في بناء ذاكرة مشتركة لأن التقسيم السياسي عزز ذاكرات متوازية.
8.4 أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية
نجحت لأنها:
– واجهت الهولوكوست
– اعتمدت العدالة
– أعادت بناء خطاب وطني مشترك
– منعت التحريض عبر القانون
---
9. خاتمة
إن الطائفية ليست مجرد اختلاف ديني أو عقائدي، بل هي ذاكرة جمعية متخمة بالذكريات السلبية التي تعيق بناء المجتمعات وتشل قدرة الدولة على النهوض.
وتشير الأدبيات إلى أنّ الذاكرة السلبية، إذا لم تُعالَج عبر سياسات شاملة، ستظل تعيد إنتاج العنف وتغذي الانقسام وتمنع بناء دولة المواطنة.
الخروج من الطائفية يتطلب:
– سياسات عدالة انتقالية شجاعة
– إصلاحًا تعليميًا وإعلاميًا
– بناء ذاكرة وطنية مشتركة
– خطابًا دينيًا إنسانيًا
– دولة قانون قوية
– حوارًا مجتمعيًا مستمرًا
إنّ تحرير المستقبل يبدأ بتحرير الذاكرة من قيود الماضي، وإعادة بناء سردية وطنية قادرة على جمع أبناء المجتمع بدل تفريقهم.
---
المراجع
1. Halbwachs, Maurice. On Collective Memory. University of Chicago Press.
2. Anderson, Benedict. Imagined Communities. Verso.
3. Lederach, John Paul. Building Peace. USIP.
4. Horowitz, Donald. Ethnic Groups in Conflict. University of California Press.
5. Varshney, Ashutosh. Ethnic Conflict and Civic Life. Yale University Press.
6. Gurr, Ted Robert. Peoples Versus States. USIP Press.
7. Rothstein, Bo. Quality of Government. University of Chicago Press.
8. Nora, Pierre. Realms of Memory. Columbia University Press.
9. Bar-Tal, Daniel. Collective Memory and Conflict. Journal of Social Issues.
10. UNDP Reports on Social Cohesion, various years.
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟