|
|
الحزب الشيوعي العراقي والافراط في الوطنية
حميد كوره جي
(Hamid Koorachi)
الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 00:10
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
يكمن "داء" الحزب الشيوعي العراقي (حشع) في مبالغته في التركيز على الشعارات الوطنية، مما أدى إلى تجاهل أساسه الطبقي والدخول في ساحة منافسة ليست ميدانه الأيديولوجي الطبيعي. هذا التركيز المفرط على الخطاب الوطني، وتأجيل الخطاب الطبقي، يُعد خطأً استراتيجياً يتعارض مع الأساسيات الفكرية للماركسية التي ترى في الشيوعيين طليعة الطبقة العاملة. إن "ساحة الوطنية" التي اختار الحزب أن ينافس فيها مشغولة أصلاً من قبل تيارات وطنية وقومية وطائفية تستغل الشعارات الوطنية كغطاء لمصالحها في التحكم بمقدرات البلد والفساد. محاولة الحزب للاندماج في هذه الساحة أدت إلى إضعافه وفقدان عمقه المميز، ليصبح شبيهاً بالكثير من التيارات التي ترفع شعارات مماثلة دون مضمون حقيقي يخدم الفئات الكادحة. وقد باتت شعاراته في الوطنية والتحرر الوطني باهتة بعد المشاركة في العملية السياسية التي قادتها أمريكا والدخول تحت "الوصاية الأمريكية" والمشاركة في مجلس الحكم الذي أداره بريمر، على الرغم من أن الحزب كان يرفض هذه السياسة قبل عام 2003.
الجذور التاريخية للحزب الشيوعي العراقي تُشير إلى أن التنازل للوطنية على حساب الطبقية ليس وليد الصدفة أو ظروف ما بعد 2003، بل هو تفسير "مشوه" متأصل في فهم الحزب لدوره الوطني منذ التأسيس. تُبرز المقولة المنسوبة إلى مؤسس الحزب، سواء كان فهد أو أحد القادة البارزين في المرحلة التأسيسية، فكرة عميقة تعكس التقاطع بين القيم الوطنية والمبادئ الشيوعية. حيث يقول المؤسس: "كنت وطنياً وعندما أصبحت شيوعياً ازددت مسؤولية تجاه وطني". تظهر هذه العبارة بوضوح كيف أن الشيوعية بالنسبة لتلك الحقبة لم تكن مجرد أيديولوجيا منفصلة عن الأرض والوطن، بل كانت تجسيداً لالتزام أعمق بالعمل على تحقيق مصالح الوطن من خلال رؤية شاملة لتحرر الشعب وتحسين ظروفه. إنها تمثل تأكيداً على أن الشيوعية لا تتعارض مع الوطنية، بل تنبثق منها وتُثريها عبر إدراك علمي للتحرر الوطني والتغيير الاجتماعي.
لكن إذا تعمقنا أكثر، نجد أن هذا الترابط التاريخي بين الوطنية والشيوعية قد أسيء استخدامه في سياقات الحاضر. ففي الوقت الذي كانت فيه المقولة الأصلية تعبر عن ارتباط المصير الوطني بالمصير الطبقي، حيث يرى الشيوعي رسالته في خدمة طبقة الكادحين من أبناء وطنه تحقيقاً للتحرر الكامل، نجد أن تأويلاتها الحالية تسير في اتجاه مختلف. لقد أصبح هذا التراث الفكري وسيلة لتبرير الانغماس الأعمى في شعارات وطنية فضفاضة لا تحمل مضموناً طبقياً أو نضالياً حقيقياً. وتعرض هذا الإرث إلى تشويه بهدف تطويعه ليصبح مُبرراً لتحالفات لا تخدم أهداف الحزب الأساسية ولا مطالبه الجذرية.
ما يجري اليوم يعكس تحوّلاً خطيراً في مسار الحزب الفكري والسياسي. إذ إن التركيز الحالي على شعارات مثل "الإصلاح" أو "بناء الدولة المدنية" في إطار تحالفات مع قوى برجوازية مبتذلة أدّى إلى تغييب المهمة الأساسية التي قامت عليها الشيوعية منذ البداية، وهي النضال الطبقي ومواجهة الطبقة المستغِلة. بدلاً من الإصرار على تغيير جذري وشامل للبنية الاقتصادية والاجتماعية بما يخدم الكادحين، صار سقف الطموحات منخفضاً ومحصوراً بالمطالبة بتحسينات سطحية وحقوق عامة وحريات دون المساس بالجذور العميقة للظلم الاجتماعي.
هذا التوجه السياسي الحالي يُعتبر بمثابة تراجع عن مسيرة التغيير الراديكالي التي بشّر بها المؤسسون الأوائل. فهو يتجسد في خطاب يبدو ظاهرياً وفياً للوطنية ولكن يحمل بداخله ضعفاً شديداً في مواجهة الطابع الاستغلالي للنظام القائم. بنظر النقاد، فإن هذا التحريف للرسالة الأصلية للحزب يؤدي إلى خسارة جوهر المشروع الشيوعي الذي يسعى إلى البناء على أسس عادلة تخدم طبقة الكادحين دون تنازلات تخدم النخبة البرجوازية.
وبذلك يتبدى أن المشكلة الحالية لا تقتصر على اختيارات سياسية عابرة أو تحالفات محدودة، بل تمتد إلى الجذر الفكري والسياسي للحزب. فهي تعكس تراجعاً عن الالتزام برؤية المؤسسين التي كانت تربط بين التحرر الوطني والاجتماعي كهدفين لا ينفصلان. وبالتالي، فإن هذا النقد المُوجه يعيد التركيز على ضرورة استعادة الأهداف الأصيلة للشيوعية التي تسعى لإعادة هيكلة المجتمع من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية بصورة حقيقية وغير قابلة للتجزئة
تتجلى المشكلة الأكبر في إهمال أو تأجيل الفرز الطبقي الواضح. هذا الإهمال أفقده القدرة على التمايز عن الأحزاب الليبرالية والقومية والدينية التي تشترك جميعها في إدارة نظام سياسي قائم على أسس برجوازية فاسدة. بدلاً من الانحياز الصريح للعمال والفلاحين والمحرومين، انشغل الحزب بقضايا عامة مثل بناء الدولة المدنية والسلم المجتمعي، وهي ذات الشعارات الفضفاضة التي ترفعها قوى أخرى.
إن النهج الذي يتبناه الحزب لم يتغير جذرياً ليناسب التحديات المتسارعة بعد عام 2003. فالتمسك بالمبالغة في التوجه الوطني على حساب البعد الطبقي يبدو استراتيجية متأصلة، ربما تعود إلى خبرات العمل ضمن الجبهات الوطنية التاريخية. لكن فترة ما بعد 2003 فرضت ضرورة التمييز الحاسم بين القوى المناهضة للفساد والاحتلال (المعبرة عن الشعب) وبين القوى المهيمنة على السلطة (البرجوازية المتنفذة). عدم اتخاذ موقف حاسم أدى إلى ضعف قدرة الحزب على استثمار التغيرات لخدمة مشروعه. الأزمة الحالية هي أيديولوجية وتنظيمية، حيث تخلى الحزب عن أصالته الطبقية لصالح الانخراط في مشهد سياسي يتمحور حول "الإصلاح" و"الوطنية"، وهو مشهد تتحكم فيه قوى برجوازية فاسدة.
إن نتائج هذا النهج كانت وخيمة، أبرزها التحالفات السياسية المريبة. فالتحالف مع تيار ديني، مثل تحالف "سائرون" مع التيار الصدري، ليس مجرد خطأ تكتيكي عابر، بل هو نتيجة طبيعية ومباشرة لهذا النهج التقليدي.
عندما يُخفف الحزب من حدة خطابه الطبقي (صراع العمال ضد البرجوازية) ويستبدله بشعارات عامة كـ ”بناء الدولة المدنية" أو "الإصلاح"، فإنه يتخلى عملياً عن الحاجز الأيديولوجي الذي يفصله عن التيارات الأخرى. هذه الشعارات تخلق مساحة التقاء واسعة بما يكفي لاحتواء تيارات ذات طابع شعبوي لكنها رجعية في مضمونها الفكري والاقتصادي.
النتيجة الأكثر خطورة هي تلاشي الفروق في تصور الجماهير. فعندما يتحالف حزب شيوعي علماني مع تيار ديني شعبوي، يدرك الجمهور أن كلا الجانبين يتقبلان بعضهما البعض كجزء من المنظومة السياسية القائمة. ويفقد الحزب هويته كـبديل جذري عن النخب الحاكمة ويتحول إلى مجرد لاعب في "المحاصصة" ومحاولات "الإصلاح" من الداخل.
يسعى الحزب لتبرير استراتيجيته بالادعاء بأن الواقع العراقي الحالي (ما بعد 2003) خالٍ من الطبقات التقليدية (عمال وبرجوازية) كما تحددها النظرية الماركسية الكلاسيكية، وبالتالي يجب تأجيل الصراع الطبقي وإعطاء الأولوية لـ "مهام التحرر الوطني" (مكافحة الفساد، بناء الدولة). يُعتبر هذا الادعاء حجة ضعيفة ومتناقضة مع الواقع إذ إن الاستغلال قائم ومباشر لأن غالبية العراقيين كادحون ويتعرضون لاستغلال ممنهج من قبل "قوى مهيمنة" تستحوذ على الثروات وتوجهها لخدمة مصالحها الخاصة (حثالات البرجوازية الجديدة أو الكومبرادورية الطائفية). وإن الطبقية لا تغيب إذ إن هذا الاستغلال الواسع يؤكد وجود طبقة مستغِلة جديدة، مما يجعل الحديث عن انعدام الطبقة العاملة أمراً غير مقنع. لذا، يصبح من الضروري على الحزب الشيوعي أن يُعيد صياغة دوره وفق سياسة صريحة وشفافة. يجب أن يتركز موقفه على الدفاع القوي والمباشر عن حقوق ومصالح الكادحين والمستَغَلّين، بدلاً من الشعارات الوطنية الفضفاضة. إن مكافحة الفساد وإصلاح الدولة هي في جوهرها مواجهة حاسمة مع البرجوازية الفاسدة المهيمنة، وهذا هو الصراع الطبقي الذي يجب أن يتبناه الحزب.
إن جوهر الطموح والغرض الوجودي للحزب الشيوعي العراقي في الوقت الحالي يظهر أنه لا يطمح إلى تحقيق قيادة أو حكم فعلي، بل يكتفى، مثلما كان دائما، بالسعي نحو تحقيق الحد الأدنى من المكاسب الوجودية والإدارية. هذا النهج فالحزب لم يضع نصب عينيه أبداً هدف السيطرة على السلطة أو قيادة المجتمع بشكل جدي، مما يجعله بعيداً عن الأهداف التقليدية للأحزاب الثورية الشيوعية التي تتمثل في إقامة "ديكتاتورية البروليتاريا". يبدو أن الحزب يتبنى حالة من الرضا تجاه واقعه الحالي، على الرغم من كم الانتقادات التي توجّه له بسبب هذا النهج، وهو أمر يُفسَّر بأنه انعكاس لتواضع أهدافه الحالية التي لا تتماشى مع الطموحات الثورية الشاملة.
الأهداف التي يسعى الحزب لتحقيقها اليوم لا تتجاوز كونه يسعى لضمان "الحرية التنظيمية"، مثل حرية العمل السياسي ووجود مقرات له في أنحاء البلاد، إلى جانب حرية التعبير والنشر داخل الإطار السياسي الليبرالي الفوضوي القائم، من دون أن يظهر أي استعداد لتحدي أو تغيير هذا الإطار بشكل جذري. وبالإضافة لذلك، هناك تركيز واضح على تحقيق مكاسب مادية لفئات معينة من أعضائه ومناضليه السابقين، مثل الحصول على رواتب تقاعدية لهم، مما يبرز الطبيعة النفعية والإدارية التي أصبحت تطغى على أولوياته مقارنة بالمبادئ الأيديولوجية الكبرى.
يمكن رؤية هذا التحول في سياق غياب الدعم الأيديولوجي الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وابتعاد الصين عن النموذج الاشتراكي التقليدي. هذه التغيرات جعلت الحزب واقعاً تحت تأثير بنية النظام الرأسمالي العالمي المهيمن، بحيث تخلى عن مساعيه لتقديم مشروع أيديولوجي عالمي كبير، مقتصراً على دوره كفاعل ثانوي يسعى فقط للبقاء والحفاظ على مكتسباته البيروقراطية ضمن هذا النظام.
من هنا، يبدو الحزب وكأنه قد تحول من افتراض كونه طليعة ثورية تهدف إلى التغيير الجذري للنظام إلى مجرد هيئة سياسية ذات طابع إداري وبيروقراطي تسعى للحصول على الاعتراف وتأمين الامتيازات المالية والاجتماعية لأنصارها وسجنائها السياسيين من الحقبة البعثية. هذا التوجه يوضح لماذا يقاوم الحزب أي دعوات جادة لإجراء تغييرات جوهرية في نهجه أو استئناف دوره الريادي ضمن مسار ثوري حقيقي.
Malmö
2025-1206
#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)
Hamid_Koorachi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترامب والتناقضات الهيكلية في الديمقراطية الليبرالية الغربية
-
-التفوق الزائف-: كيف يفرّغ العنصريون إحباطهم العالمي في حقد
...
-
وهم الحضارات الكبرى: تفكيك الأسس الدينية والثقافية للتمايز ف
...
-
ترامب يفقد السيطرة: هل هذه بداية النهاية؟
-
الفردوسي ودوره المحوري في سياق التاريخ الثقافي الإيراني
-
الترجمة الأيديولوجية: بين أفيون -الشعب- و -الشعوب-
-
التباين الجمالي بين الشعر العاطفي والسياسي
-
فجر الاعترافات
-
التأطير الأحادي للإبداع -2
-
التأطير الأحادي للإبداع -1
-
الأزمة الهيكلية في بلدان الشرق الأوسط
-
الترجمة العربية: تحريفات لأسباب إيديولوجية
-
أسباب ضعف السلع الاستهلاكية في الاتحاد السوفيتي
-
الأهمية المستمرة لكتاب -رأس المال- في عصر الرقمنة
-
الشوفينية الفارسية أمام تحديات العقلانية والأممية
-
حقبة الركود السوفيتية
-
بين مزيج الأمواج والذكريات
-
ركود الأغنية العربية: بين أسطورة الماضي وتحديات الحاضر
-
أزمة اليسار في العالم العربي: تحديات الهيمنة القومية والليبر
...
-
ضرورة تحريم التقية: بين رخصة الضرورة وخطرها على المجتمع
المزيد.....
-
بعد مقتل أبو شباب المتهم بالتعاون مع إسرائيل، غسان الدهيني ي
...
-
-متهوّر وغير كفوء-.. انتقادات متزايدة تلاحق وزير الحرب الأمر
...
-
بوعلام صنصال يتسلم جائزة -سينو ديل دوكا-.. ويأمل بالإفراج عن
...
-
مصدر يمني: السعودية سحبت قواتها من قصر عدن الرئاسي ومواقع أخ
...
-
اجتماع أميركي سوري بشأن السويداء في عَمان
-
خطة هروب جاهزة لكندا.. فرنسيون قلقون من حرب محتملة مع روسيا
...
-
توقيف 4 نشطاء لطخوا صندوق عرض التاج البريطاني بالطعام
-
لو باريزيان: ماذا وراء تصريحات بوتين ضد أوروبا؟
-
هل تمثل محاكمة الهيشري مدخلا للعدالة الدولية في ليبيا؟
-
نجل بولسونارو يعلن نفسه وريثا سياسيا لوالده ومرشحا لرئاسة ال
...
المزيد.....
-
نعوم تشومسكي حول الاتحاد السوفيتي والاشتراكية: صراع الحقيقة
...
/ أحمد الجوهري
-
عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها
/ عبدالرزاق دحنون
-
إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )
/ ترجمة سعيد العليمى
-
معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي
/ محمد علي مقلد
-
الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة
...
/ فارس كمال نظمي
-
التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية
/ محمد علي مقلد
-
الطريق الروسى الى الاشتراكية
/ يوجين فارغا
-
الشيوعيون في مصر المعاصرة
/ طارق المهدوي
-
الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في
...
/ مازن كم الماز
-
نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي
/ د.عمار مجيد كاظم
المزيد.....
|