السعدية حدو
قارئة مهتمة بنقد نقد تحليل الخطاب
(Saadia Haddou)
الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 21:45
المحور:
الادب والفن
استيقظت هذا الصباح على غير العادة، ليس بسبب منبّه يصرخ في أذني ولا بسبب جلبة الباعة في الشارع، بل لأن ظهري كان يؤلمني وكأنني نمت ليلة كاملة فوق أحجار التاريخ القاسية. حاولت التمطي، فسمعت طقطقة مفاصل غريبة، كأن جسدي هيكل خشبي قديم يقاوم الحركة. مددت يدي أبحث عن هاتفي، فوجدته قد شاخ قبلي: شاشة متشققة، هيكل متآكل، وتطبيقات ذات أيقونات غريبة لم أسمع عنها من قبل، ورسائل واردة مؤرّخة بعام لم أصل إليه بعد في حسبتي الزمنية.
نهضت مترنحا، أجر قدمين ثقيلتين نحو المرآة. آه، يا مرآتي الغادرة! لم تكن تعكس صورتي المعهودة، بل وضعت لي وجها يشبه وجه ذلك العجوز الذي يبيع الجرائد عند ناصية الحي. تجاعيد عميقة حفرت خرائطها حول فمي وعيني، وشعر أبيض كطحين مسكوب بإهمال فوق رأسي. حتى عيناي، تلك التي كانت تلمع بالفضول بالأمس، بدتا ذابلتين وكأنهما نجتا من حرب طويلة لم أشارك فيها.
"مستحيل!" صرخت بصوت أجش غريب عني، وأنا أفتّش في جيوب نعاسي عن تفسير منطقي. "لقد نمت نصف ساعة فقط! أتذكر تماما أنني ضبطت الغفوة".
لكن الساعة الحائطية، التي كانت تتدلى ببرود كالمخبر السري، وتتحرك عقاربها ببطء مستفز، أجابتني بضحكة ميكانيكية قصيرة، وقالت: – "نصف ساعة بتوقيتك الشخصي... لكنها عشرون عاما بتوقيتي المحلي".
حاولت عبثا أن أضغط زر الإعادة، بحثت عن أي زر مخفي يعيد المشهد للوراء كما أفعل مع مقاطع الفيديو، لكن الساعة هزّت عقاربها بازدراء وقالت بصوت معدني أجوف: – "نعتذر منك، الزمن لا يدعم خاصية (Undo) يا عزيزي. نحن نعمل بنظام اتجاه واحد إجباري نحو الفناء. إذا كان لديك اعتراض، جرب أن تشتكي لمكتب الإدارة، علهم يعوضونك بقسيمة تأخير أو دقيقة إضافية".
سقطت جالسا على حافة السرير، والغبار يتطاير من الأغطية المهترئة. بدأت أعد خسائري: عشرون عاما مرت في غفلة عين... ماذا عن طموحاتي التي أجلتها؟ عن عنفوان شبابي؟ عن قلبي الذي كان يظن نفسه محصنا في العشرين؟
وهنا سمعته، ذاك الصوت الذي لم أره قط، لكنني متأكد الآن أنه كان جالسا في الزاوية المعتمة يراقبني طوال الوقت: الزمن نفسه. قال لي بنبرة محايدة تشبه نبرة موظف أرشيف قديم: "عزيزي، أنت تبالغ في دراميتك. لم أسرق منك شيئا... أنت فقط نسيت أن تراقبني، وانشغلت بالهوامش. أنا لم أتسلل كاللصوص، أنت من ترك الباب مفتوحا على مصراعيه".
أجبته بحنق وقد بدأت الدموع تتجمع في تجاعيد عيني: – "وهل يُعقل أن تسرق أعمار الناس خلسة ثم تلومهم على الإهمال؟ أين العدالة في هذا؟". قهقه بصوت يشبه حفيف الرمال وقال: "العدالة؟ مفردة بشرية لطيفة. أما أنا، فلعبتي المفضلة هي الاستمرار فقط، وأمارسها ببراعة منذ آلاف السنين".
سكت قليلا، ثم خطر ببالي سؤال لم يخل من سخرية اليائس: – "طيب... بما أننا نتحدث، هل لديك عرض ترويجي؟ خصم على السنوات مثلا؟ اشتر عقدا وخذ عاما مجانيا؟ أي شيء يعيد لي ما فقدته؟". صفّق الزمن ببطء شديد، وقال: – "يعجبني حسك التجاري رغم المأساة... لكن للأسف، نحن مؤسسة احتكارية لا تقبل المساومة".
********************
قررت أن أتعامل مع الأمر بجدية وإصرار. ارتديت معطفي الذي أصبح واسعا على جسدي الضامر، وذهبت لمكتب خدمة الزبائن الزمنية. كان المبنى يقع في نهاية الشارع الرمادي، وبدا تصميمه مثل دائرة حكومية خرجت من بطن ساعة رملية عملاقة. الأرضية مغطاة بغبار القرون الذي يكتم صوت الخطوات، والجدران تتقشر منها أوراق تقويمات لأيام قديمة منسية، ومصابيح السقف تتدلى وتومض بضعف كأنها دقائق تحتضر وتلفظ أنفاسها الأخيرة.
في قاعة الانتظار، رأيت بشرا يجلسون بصمت مطبق، يحملون تذاكر بأرقام فلكية. هذا يريد استعادة لحظة وداع، وتلك تريد حذف كلمة قالتها في لحظة غضب. تجاوزتهم واتجهت نحو الشباك.
استقبلني موظف لا يشبه الكائنات المعروفة: نصفه العلوي إنسان يرتدي بدلة رمادية ضيقة خانقة، ونصفه السفلي مدمج في آلة كاتبة صدئة ضخمة. كلما تنحنح، خرج من شق في صدره ورق أصفر باهت مكتوب عليه معاملة قيد الانتظار.
ابتسم بملل روتيني، ودون أن يرفع بصره عن أوراقه قال: – "أهلا بك في إدارة الزمن وشؤون الفقد. ما سبب زيارتك؟". قلت بانفعال وأنا أضرب بيدي على الكاونتر الخشبي: – "لقد فقدت عشرين عاما وأنا نائم! سرقت مني خلسة! أطالب بإعادتها فورا، أو تعويضي بمهلة إضافية!".
توقف عن الكتابة، وأخذ يدق بأصابعه المعدنية على لوحة مفاتيح عتيقة بارزة من ذراعه، ثم أجاب ببرود: "فهمت.. شكوى من الفئة (ج). هل لديك إيصال؟". شهقت مذهولا: "إيصال؟! كيف تريدني أن أحتفظ بإيصال لأعماري؟ هل يولد الإنسان وفواتيره في يده؟!". رفع حاجبيه المعدنيين وقال بنبرة آلية: "عذرا، هذه هي السياسة واللوائح. لا يمكننا معالجة أي شكوى، مهما كانت مأساوية، دون إيصال رسمي مختوم يثبت ملكيتك للوقت المفقود".
صرخت حتى اهتزت خيوط العنكبوت في الزوايا: "لكن هذه حياتي! شبابي! أحلامي التي لم تتحقق!". ابتسم ابتسامة بيروقراطية عريضة تكشف عن أسنان تشبه التروس الصغيرة وقال: "يا سيدي، لا داعي للانفعال ورفع الصوت. الزمن سلعة استهلاكية مثل رغيف الخبز أو علبة الثقاب. عندما تستهلك لا تعاد ولا تستبدل".
نهضت مغتاظا أطرق الأرض بقدمي، لكن قبل أن أغادر البوابة، مال الموظف نحوي بجدعه البشري، وهمس بصوت خافت يخرج كأنه صرير من بين تروس حنجرته: "اسمع يا سيدي.. لا حل لك هنا في القنوات الرسمية. الدولة لا تعيد ما تأخذه أبدا. لكن.. إذا كنت تملك الجرأة وتبيع ما تبقى من روحك، اذهب إلى المنطقة الصناعية، خلف مصنع الساعات القديم المهجور. هناك سوق سوداء تبيع ما لا نبيعه نحن". غمز لي بعينه الزجاجية اليسرى، ثم عاد ليضرب على آلته الكاتبة بعنف متجاهلا وجودي تماما.
********************
اتبعت النصيحة ومشيت في أزقة المدينة الخلفية حيث يتكاثف الضباب. وصلت إلى المنطقة الصناعية، المكان كان أشبه بورشة ساعات كونية لا تهدأ. الرائحة هنا خليط من الصدأ، وزيوت التشحيم، ورائحة الندم النفاذة. الصوت المسيطر ليس صياح الباعة المعتاد، بل تكتكة إيقاعية مجنونة تصدر من ملايين العقارب والتروس التي تدور في آن واحد، صوت يجعلك تشعر جسديا أن عمرك يتسرب من مسام جلدك قطرة قطرة.
على بسطات معدنية باردة، كانت تعرض البضائع الممنوعة. ليست فواكه أو خردوات، و لا حتى مواد مهلوسة, بل كانت قوارير زجاجية تحتوي على بطاريات زمنية مضغوطة تشع بضوء أزرق باهت، وعدادات رقمية تومض بأرقام تتناقص بسرعة جنونية.
بائع بعين واحدة يرتدي عدسة مكبرة صرخ في وجهي وهو يلوح ببطارية: "بطاريات شباب إضافي! أصلية ومكفولة! مشحونة بطاقة الأمل الكاذب. تكفي لثلاث سنوات من الطيش والمغامرة!". وعلى الجانب الآخر، بائع يعرض "كبسولات ندم مضغوطة" صائحا: "ساعة غضب مركزة! هل تريد تدمير حياتك؟ احرق جسور علاقاتك في خمس دقائق فقط مع هذه الكبسولة!".
توغلت أكثر في السوق، حيث البضائع أكثر غرابة وبؤسا. لمحت سيدة حزينة تجلس في الظل، تبيع دقائق بكاء مستعملة، وقد علقت لافتة صغيرة بخط مرتجف تحذر من أن بطارياتها ضعيفة. وإلى جوارها، كان رجل يترنح سكرا، يلوح لزبائنه بـ كبسولات نشوة سريعة الذوبان، يهمس لمن يقترب منه بأن مفعولها سحري رغم الصداع الأبدي الذي تتركه. تجاهلت عجوزا متلصصا يعرض عدادات ملل ثقيل بأسعار زهيدة، وطفلا مشاغبا يركض بين الأرجل بقطع غيار للمستقبل غير مضمونة.
تجاوزتهم جميعا واقتربت من امرأة عجوز تجلس القرفصاء في الزاوية البعيدة، تبيع دقائق نادرة معلقة على خيوط نحاسية مثل قلادات رخيصة. سألتها وصوتي يرتجف: "يا خالة... هل أجد عندك عشرين عاما كاملة؟ سأدفع أي شيء". ضحكت، وصوتها يشبه احتكاك ترسين صدئين يحتاجان للتزييت: "عشرون عاما دفعة واحدة؟ أنت طماع يا بني. من يملك عشرين عاما لن يبيعها لك ولو بكنوز الأرض. لكن انظر... عندي دقيقة بكاء نادرة استخلصتها من عاشق هجرته حبيبته مؤخرا. بطاريتها ضعيفة، لكنها تفي بالغرض لتغسل بها قلبك".
فتشت في جيوبي، أخرجت ما بقي من نقود وذكريات، ودفعتها لها. مدت يدها المتغضنة التي تشبه جذع شجرة ميتة وسلمتني الدقيقة المغلفة في قصدير لامع. في اللحظة التي لمست فيها أصابعي غلاف الدقيقة، دوت صفارات الإنذار في أرجاء السوق. أضواء حمراء غمرت المكان، وصوت مكبرات صوت ضخمة يصرخ من السماء: "كبسة زمنية! حملة تفتيش! الجميع يثبت مكانه! بحوزتكم وقت مهرب وغير خاضع للضريبة!".
حاولت الهرب، ركضت بين البسطات، لكن عقارب عملاقة هبطت من السقف مثل قضبان السجن وحاصرتني من كل اتجاه.
********************
اقتادوني مكبلا بالأصفاد بتهمة حيازة وقت غير مرخص ومحاولة التلاعب بالقدر إلى المحكمة العليا لشؤون الزمن. كانت القاعة دائرية، جدرانها مغطاة بساعات من كل العصور.كان القاضي كائنا مهيبا، عجوزا طويل اللحية، لكن لحيته لم تكن شعرا، بل كانت مصنوعة من آلاف عقارب الساعات المتشابكة التي تدور بلا توقف. المدّعي العام, كان ساعة منبه حمراء ضخمة، تصرخ بصوت مزعج كلما فتحت فمها للمرافعة. أما كاتب الجلسة فكان دفتر مواعيد ضخم بأرجل، يسجل كل هفوة وكل ثانية صمت.
قال القاضي بصوت يشبه هزيم الرعد القادم من بعيد: "أنت هنا أيها المتهم لأنك بددت عشرات السنوات في التافه من الأمور، تركتها تسقط من يدك كالرمل، ثم حين نفد رصيدك، حاولت شراء المزيد بطرق غير شرعية من السوق السوداء".
حاولت الدفاع عن نفسي، وقفت وصرخت: "أنا الضحية! الزمن سرقني وأنا غافل! لم ينبهني أحد!". لكن القاضي لم يكترث، رفع مطرقته الثقيلة عاليا وقال بحسم: – "الجهل بالقانون الزمني لا يعفيك من العقوبة. يحكم عليك أن تعيش جميع أزمانك ومراحلك العمرية دفعة واحدة… ستشعر ببراءة الطفل، وتهوّر الشاب، وخيبة الكهل، وألم الشيخوخة… الآن وفي لحظة واحدة!".
هوى بالمطرقة. لم أسقط في هاوية مكانية، بل سقطت في فوضى حواسي. شعرت بتمزق في خلاياي وجيناتي. فجأة، تقلص جسدي وتجعد في آن واحد. شعرت أنني طفل عجوز. جلدي يترهل بسرعة مذهلة بينما أسناني اللبنية تسقط في فمي، ظهري ينحني من ثقل الشيخوخة بينما يداي الصغيرتان تبحثان عن لعبة. كنت أصرخ بصوت رجل حكيم جرب الحياة، لكن الدموع التي تنزل على خدي كانت دموع رضيع جائع لا يفهم شيئا. كان عذابا يفوق الوصف، أن تجتمع المتناقضات في جسد واحد.
********************
بينما أنا أتلوى في هذا العذاب الزمني، وتمزقني تناقضات المراحل، ظهر الزمن أمامي مرة أخرى، ببدلته الأنيقة وابتسامته الباردة المعهودة. اقترب مني ومد لي ورقة وقلم حبر: "يؤلمك هذا، أليس كذلك؟ يمكننا إيقاف هذا العبث فورا، بشرط توقيعك هنا".
حاولت التركيز و قرأت العقد بعينين زائغتين، إحداهما شابة والأخرى كليلة: "أوافق أنا الموقع أدناه على التنازل التام عن الماضي بذكرياته، وعن المستقبل بآماله، والعيش محبوسا في قفص الحاضر المستمر، دون ضمانات أو وعود".
تحت وطأة جسد يشيخ ويعود طفلا في اللحظة نفسها، أدركت أن الكرامة ترف لا يملكه من يعبث مع قوانين الكون. وقعت بيدي المرتجفة التي كانت يد طفل ويد كهل في آن واحد. فجأة.. توقف الألم. سكنت العاصفة في جسدي. عادت الأزمان إلى أماكنها الطبيعية، لكنني شعرت بفراغ هائل في صدري، كأن أحدهم أطفأ الضوء داخلي.
أخذ الزمن الورقة و طواها بعناية ثم ضعها في جيبه وقال: "مبروك! لقد ربحت حياتك واستعدت استقرارك… لكنك خسرت معناها. من الآن فصاعدا، أنت كائن اللحظة فقط".
********************
قذفوا بي خارج المحكمة إلى الشارع الخلفي. جلست على حافة الرصيف البارد. كل اللحظات هدأت، السيارات تمر، الناس يمشون، لكن لا شيء بقي كما كان. فقدت القدرة على الحنين للماضي، وفقدت القدرة على التطلع للغد.
ضحكت بقهقهة عالية، نصفها صرخة ألم، ونصفها استسلام تام. ظهر الزمن لمرة أخيرة، يلوح بعقربه من بعيد وهو يبتعد: "تذكر يا صديقي، اللحظة الوحيدة التي تملكها هي (الآن)... أوبس! لقد مضت، أصبحت ماضيا. وهذه أيضا مضت. في الحقيقة، أنت لا تملك شيئا، أنت فقط تستأجر اللحظات... والإيجار مستحق الدفع فورا".
ابتسمت ببلادة، وجلست أراقب المدينة العبثية و السوق الميكانيكي و الباعة و الناس الذين يركضون خلف ساعاتهم… ضحكت وأنا أُسرق علنا، وضحكت وأنا أحاول استعادة ما سرق مني، وضحكت وأنا أستسلم للنهاية.
#السعدية_حدو (هاشتاغ)
Saadia_Haddou#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟