أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السعدية حدو - -فن الرواية- بوصفها مقاومة وجودية: قراءة في رؤية ميلان كونديرا















المزيد.....

-فن الرواية- بوصفها مقاومة وجودية: قراءة في رؤية ميلان كونديرا


السعدية حدو

الحوار المتمدن-العدد: 8426 - 2025 / 8 / 6 - 02:32
المحور: الادب والفن
    


***مقدمة:
كتاب فن الرواية L’art du roman لصاحبه ميلان كونديرا من أكثر التأملات النظرية عمقا في الأدب المعاصر وتحديدا في تقصي ماهية الرواية و وظيفتها في سياق الثقافة الأوروبية. تم اصدار الكتاب سنة 1986 و هو عبارة عن سبع مقالات تأملية مستقلة, و مترابطة موضوعاتيا في نفس الآن و قد تمت كتابتها بين عامي 1979 و 1985. هذا الكتاب يطرح رؤية فكرية وجمالية رصينة للرواية باعتبارها فنا و تقصيا وجوديا. لا يصنف كونديرا نفسه كمنظر روائي بل يصر منذ البداية و يقول:"العالمُ من النظريات ليس هو عالمي. هذه التأملات هي تأملات ممارِس" (ص 7). هنا مكمن تفرد هذا العمل فهو يرفض طرح تصور نظري يؤطر الرواية بقوالب جاهزة بل يكشف عن رؤيته لفن الرواية من خلال ممارسته الروائية ليجعل من التأمل النقدي امتدادا لفعل الكتابة ذاتها.


الهدف من هذه الورقة هو عرض أهم القضايا التي تناولها كونديرا في فن الرواية. هي محاولة للاجابة عن تساؤلات من قبيل : ما علاقة الرواية بالعصر الحديث ؟ و ما هي القدرة المعرفية الفريدة التي يقدمها هذا الفن؟ و كيف تطورت الرواية مع تاريخ أوروبا خصوصا في مواجهة نسيان الكينونة؟

***أزمة الحداثة واختفاء "عالم الحياة":

لنبدأ بهذه النقطة حيث ازمة الحداثة و علاقتها بالرواية. كونديرا في مستهل كتابه يرجع الى الفلسفة و هوسرل على وجه الخصوص عندما تحدث عن أزمة الإنسانية الأوروبية. إذ مع بداية العصر الحديث , ركز العلم على اختزال العالم الى مجرد ارقام و معادلات, الى مجرد موضوع للاستكشاف التقني و الرياضياتي في تجاهل تام لما اسماه هوسرل ب عالم الحياة "عالم الحياة الملموسة (die Lebenswelt)", او بتعبير ادق ما أسماه هايدجر ب" نسيان الكينونة" , نسيان التفكير في ماهية و غائية الوجود نفسه. كنتيجة حتمية لازدهار العلوم و تخصص الإنسان، مما جعله يفقد رؤية العالم ككل و رؤية ذاته.

***الرواية ككشف للكينونة:

في تأملاته لم يقدم كونديرا تشخيصا فلسفيا لمعضلة نسيان الكائن بل قدم الرواية كحل, كرد فعل مقاوم لهذا الأزمة الانسانية. اذاكان كل من الفلسفة و العلوم قد تجاهل و نسي كينونة الانسان فان الرواية من اول بدايتها مع سيرفانتس , في القرن السابع عشر, هي التي حملت على عاتقها مهمة استكشاف هذه الكينونة المنسية. و في كل مرحلة من تاريخ الرواية تكشف لنا هذه الاخيرة جانبا جديدا من الوجود لم يكن مرئيا من قبل. إذ اكتشفت الرواية، بطريقتها و منطقها الخاص، جوانب مختلفة من الوجود: مثلا روح المغامرة واكتشاف العالم الخارجي مع سيرفانتس و دون كيخوتى, و بعدها الغوص في الحياة الداخلية و المشاعر و الرغبات مع ريدشاردسون و مع فلوبير في إيما بوفاري: استكشاف "الأرض المجهولة" للحياة اليومية.و أيضا تدخل ما هو لاعقلاني في حياتنا وقراراتنا مع تولستوى و إدراكنا لكيفية تغير الزمن و استحالة القبض على اللحظة الحاضرة مع بروست و جويس و كأن الرواية لها مهمة خاصة بها وحدها. و في هذا السياق يستشهد كونديرا بهيرمان بروخ الذي قال: اكتشاف ما لا يمكن أن يكتشفه إلا الرواية هو المبرر الوحيد لوجودها، المعرفة هي أخلاق الرواية الوحيدة.
الرواية هنا أشبه بمنارة تضيء عالم الحياة الذي قد به العلماء و الفلاسفة دون أن يلقوا بالا له. وهذا يأخذنا إلى الشخصية الأيقونية دون كيخوتي التي يعتبرها كونديرا نقطة انطلاق أساسية. إذ خرج حرج دون كيخوتي الى عالم لم تعد فيه الحقيقة واحدة مطلقة وواضحة كما في العصور الوسطى. أصبح العالم بقى غامضا مليئا بالحقائق النسبية و المتضاربة. وكل شخصية في الرواية أصبحت تمثل وجهة نظر حقيقة نسبية وليس هناك من يملك سلطة الحكم بين من يملك الحقيقة و العكس. و هذا يسميه كونديرا بحكمة "اللايقين" و ان نتقبل حالة الغموض هذه. إذ طبيعة الإنسانية معقدة ولا يمكن الفصل فيها بين الأبيض والأسود. الرواية من منطلق كونديرا هي مساحة للون الرمادي و للتساؤل تماما كما في الأعمال العظيمة. انا كارينينا مثلا, لا نستطيع الجزم إن كانت ضحية أم مذنبة؟ او شخصية كي عند كافكا, هل هو بريء أم متواطئ؟ الرواية العظيمة ترفض أن تصدر حكما جاهزا و سهلا . هي تقاوم الاحكام الاخلاقية. قد تبدو الرواية مجرد عرض لوجهات نظر مختلف لا غير و يتبادر الى الذهن سؤال الموقف فقط لمن يبحث عن أجوبة قطعية في الرواية. و لكن كونديرا يرى أن قوة الرواية الحقيقية في عدم تأكيد أو تقرير أي إجابة قطعية لأن قوة الرواية تنبع من قدرتها على احتضان التعقيد و اللايقين. الرواية بهذا التصور هي تقاوم الانحياز المتطرف اما ابيض او اسود. هذا المنطق وارد في مجالات اخرى و لكن الرواية ترفض بشدة لان التجربة الانسانية هي اكثر تعقيدا من ان تختزل في صيغة جاهزة لانها تعكس طبيعة الكينونة الإنسانية في غياب اليقين.

***تطور الشخصيات من دون كيخوتي إلى كافكا:

يرسم كونديرا للرواية مسارا مثيرا جدا و مقلقا ايضا. فهو يبدأ من علام دون كيخوتي الذي كان مفتوحا دون حدود ثم يصل الى عالم بالزاك في القرن التاسع عشر حيث العالم محكوم بمؤسسات اجتماعية سلطوية و قاهرة: الشرطة, القضاء, المال حتى من التاريخ نفسه أصبح كالقطار السريع لا يعرف المرء كيف ينزل منه. هنا يضيق الأفق تماما على خلاف أفق دون كيخوتي. أما مع فلوبير و شخصية إيما بوفاري هذا الأفق أصبح شبيها بسور عال. الحياة عبارة عن ملل يومي متكرر. المفر الوحيد المتاح هو العالم الداخلي و احلام اليقظة. هذا المسار يتغير جذريا في القرن العشرين مع كافكا مع شخصية كي في رواية القلعة. القوى الخارجية سواء كانت بيروقراطية, سلطة غامضة, تاريخ او ايا كانت اصبحت كليانية و مسيطرة تماما لدرجة أنها تبتلع العالم الداخلي للشخصية . افكار كي و مشاعره وأحلامه أصبحت تدور حول القلعة و مشاكله معها. لم تعد هناك مساحة لأحلام اليقظة لأن الروح تم ابتلاعها . الروح التي فقدت قيمتها أمام القوة الخارجية الساحقة.

***مفارقات كونديرا:

**كي:
هي مفارقة مرعبة تأخذنا إلى منعطف مهم. المغامرة كفكرة نفسها التي بدأ بها دون كيخوتي , ما مصيرها في هذا المسار الذي رسمه كونديرا؟ يبدو انها وصلت لمفارقة مريرة جدا و مضحكة بشكل ساخر. اذ دون كيخوتي الذي كان يخرج بمحض ارادته و يختار مغامراته و يعيشها يعود بعد حوالي ثلاثة قرون في شكل مساح اراضي في شخصية كي عند كافكا. مغامرته الوحيدة ليست من محض اختياره بل مفروضة عليه و هي عبارة عن مشكلة بيروقراطية تافهة و مبتذلة مع الادارة بسبب خطأ في ملفه. المغامرة تحولت الى محاكاة ساخرة و بائسة.

**شفيك:
يشير كونديرا الى مفارقات اخرى يسميها نهائية في العصر الحديث مثل رواية الجندي الطيب شفيك. رواية كوميديا سوداء عن الحرب العالمية الاولى بكل أهوالها و ماسيها. شفيك و زميله متوجهان إلى الجبهة للقتال دون فهم للسبب و دون اهتمام بمعرفته. الحرب هنا ليست بطولة و مجد و تضحية كما عند تولستوي, بل قوة مجردة غير عقلانية تتحكم في الناس تماما مثل قوة القلعة و المحكمة عند كافكا. قوة تعمل بدون غطاء منطقي او قيمي واضح.

**ديكارت:
الا ان المفارقة الأكثر تراجيدية و عمقا هي مفارقة ديكارت العقلانية نفسها التي بدأت بها الحداثة. العقلانية التي جاءت لتحدث قطيعة و تحرر الثقافة الاوروبية من الخرافات و سلطة القرون الوسطى هي نفسها خلقت فراغا قيميا كبيرا. عندما تم دحر القيم الدينية القديمة و لم يتم تأسيس لنظام قيم إنساني جديد قوب متفق عليه عالميا هذا الفراغ فتح الباب لقوة مجردة و غير عقلانية مثل سلطة الدولة المطلقة و البيروقراطية العمياء أو ارادة القوى المجردة الطامعة في السيطرة الكاملة دون رادع قيمي حقيقي لغطرستها. و كأن العقلانية الصارمة بقطيعتها مع القيم القديمة كانت قد مهدت الطريق بشكل غير متوقع لللا عقلانية الصرفة.


**الحرب:
و اخيرا مفارقة حلم الحداثة الكبير بوحدة إنسانية عالمية و سلام دائم. كونديرا يقر بتحقق هذا الحلم و لكن على نحو غريب و مرعب و ذلك عن طريق حرب عالمية و متحركة باستمرار, الكل يغذيها بدون ارادة حرة. فالوحدة هنا تحققت ليس بالسلام و لكن بالحرب المستدامة.


***خاتمة:
كونديرا في كتابه "فن الرواية" يقدم الرواية كفن أوروبي متفرد و اصيل صرف مهمته هي الغوص في عمق الوجود الإنساني و استكشافه بكل تعقيداته و لا يقينيته غير القابلة للاختزال. الرواية هي تاريخ ذاكرة عالم الحياة الأمين مقاومة كل محاولات الاختزال و التسطيح التي جاءت مع الحداثة و العقلانية المفرطة ومفارقاتها.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شرعنة الرداءة
- -سوناتا الغراب- بين السيرة الذهنية والوهم الروائي: سؤال التج ...


المزيد.....




- أصالة والعودة المرتقبة لسوريا.. هذا ما كشفته نقابة الفنانين ...
- الذكاء الاصطناعي التوليدي.. ضربة موجعة جديدة لقطاع الإعلام ا ...
- نقل الفنان المصري محمد صبحي إلى المستشفى بعد وعكة صحية طارئة ...
- تضارب الروايات حول استهداف معسكر للحشد في التاجي.. هجوم مُسي ...
- ديالا الوادي.. مقتل الفنانة العراقية السورية في جريمة بشعة ه ...
- مقتل الفنانة ديالا صلحي خنقا داخل منزلها بدمشق والتحقيقات تك ...
- القنبلة الذرية طبعت الثقافة اليابانية بإبداع مستوحى من الإشع ...
- بوليود بين السينما والدعاية.. انتقادات لـ-سباق- إنتاج أفلام ...
- الغيتار تحوّل إلى حقيبة: ليندسي لوهان تعيد إحياء إطلالتها ال ...
- سكان وسط أثينا التاريخية منزعجون من السياحة المفرطة


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - السعدية حدو - -فن الرواية- بوصفها مقاومة وجودية: قراءة في رؤية ميلان كونديرا