حاتم عبد الواحد
الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 09:40
المحور:
قضايا ثقافية
تلمع مرآة المحيط تحت خط طيراننا ، حتى ان الضوء المنعكس على صفحة الماء قد منعني من متابعة بعض السفن المبحرة في هذا اليم الهائل . كانت الشاشة الداخلية في صالة الطائرة تشير الى ساعتين وثلاث وثلاثين دقيقة للوصول الى المكسيك، البنت ورفيقها اللذان كانا على جهتي اليسرى سألوني عن وجهتي النهائية ، فيما هما قد اخبرنا بانهما رومانيان مسافران من انقرة الى باريس والان هما في طريقهما الى المكسيك كي يواصلا طريقهما من العاصمة شمالا نحو الحدود مع الولايات المتحدة ، حيث ينتظرهما احد المهربين ليدخلهما بطريقة غير شرعية الى داخل احدى المدن الحدودية بين المكسيك والولايات المتحدة ثم يتلاشيان هناك وسط ملايين المهاجرين غير الشرعيين ،كان علي ان افكر في صحن العسل الذي يجذب كل هذا الذباب من جهات العالم اجمع. ولكن لم اتعب نفسي كثيرا في التفكير لانني اولا واخيرا لست ذبابة.
بدأت سطوح البنايات ذات اللون القرميدي تتضح اكثر من نافذة الطائرة ، الشوارع مزدحمة جدا فالساعة كانت تشير الى السادسة وخمس وخمسين دقيقة من مساء يوم من اواخر ايام نيسان، والشمس المكسيكية لا تفارق افقها عند هذه الساعة في هذا الوقت من السنة ، صالة الوصول ملآى بكل الجنسيات، لدي ورقة فيها بعض التعابير الاسبانية الضرورية استطيع عرضها على من اقابلهم في حالة ضياعي ، عند كشك الجوازات تلاقفت الضابطة جوازي كمن وقع على غنيمة، اشارت الى عسكري كان قريبا منها، اخذ جوازي منها وركض باتجاه مبنى بعيد بعض الشيء. فيما بقيت انا واجما امامها دون ان انبس بكلمة، عاد العسكري بعد حوالي خمس دقائق واشار بابهامه بعلامة اوكي، قالت ما عنوان المكان الذي ستذهب اليه؟ وبما انني لا اعرف سوى اسم المنظمة التي سوف تستضيفني فقد عرضت اسمها على الضابطة ، قلبت شفتها السفلى وقالت بانكليزية ركيكة: لا اعرف شيئا يحمل هذا الاسم . قلت لها ان هذا رقم تلفون المنظمة وتستطيعين ان تتأكدي من كل المعلومات، لم تختم جوازي بختم الدخول،انما وضعت الاختام مع بعض الارقام والرموز على اول صفحات دفتر الاقامة التي زودتني به السفارة المكسيكية في الرباط . قفز كلب كبير على حقيبتي الكبيرة والثقيلة وغادرها في طريقه نحو حقائب اخرى، قالت ضابطة صالة التفتيش: ماذا في حقيبتك ؟ قلت : كتب فقط ، وبدون ان تفتحها سمحت لي بالعبور الى بوابة الخروج.
امام حشد هائل من بشر ينتظرون بشرا اخرين سيصلون خلال دقائق من كل جهات العالم، كان علي ان اعثر على اسمي مكتوبا على لافتة ورقية سيرفعها من جاء لاستقبالي، فجأة لمحت اسمي ،كانت بنت نحيلة تنتظرني، اشرت لها برفع ذراعي ، اصطحبتني الى موقف السيارات واركبتني الى جانبها وسلمتني ظرفا مليئا بالنقود، قلت لها : ما هذا؟ ردت : راتبك لهذا الشهر !
احيانا تقدم لنا الفلسفة دروسا فضولية في ابتكار الاسئلة ، لم اعجب يوما بالفلسفة قط ، كنت انظر اليها كمتسول يطالبك في كل لحظة ليس بالنقود وانما بالاجابات المقنعة لمشاكل هذه الحياة اللامقنعة ، كانت الفيزياء درسي المفضل لسببين ، اولا لانها لا تقترف الاخطاء اطلاقا وثانيا لانني اعتقد ان روح الله تتجسد فيها، فهي سيدة الاجابات الضخمة و المقنعة ، والاهم هو انها واضحة حتى للعميان. كنت اريد ان أسأل الشابة التي اصطحبتني لماذا تمنحونني كل هذا المبلغ وانا لم اقدم لكم شيئا ، بالاضافة الى اننا في نهاية الشهر؟
كانت حياتي القاسية قد علمتني ان لا شيء ياتي بالمجان وان ما قبضته الان هو ثمن شيء ساكلف بدفعه عن قريب!
في اول خروجنا من المطار لذعت رائحة الامونيا رئتيّ ، السماء رصاصية مائلة للزرقة ، والشمس اصبحت وراء الافق وان كانت خصلات من جدائلها تبدو متناثرة في الغيوم ، شوارع المدينة تشي بالعبثية وعدم النظام. بعد مسيرة نصف ساعة توقفنا امام مبنى يحتل مدخله مطعم في الهواء الطلق ومكتبة لبيع الكتب، حملوا حقيبتيّ الى شقة علوية تنزوي في نهاية ممر مغلق، طاولة وسرير وتلفزيون وخزانة ملابس وكرسيان، هذا كل اثاثي الذي قد يكون كثيرا، فانا لا احتاج الّا لاداة للكتابة وهدوء العالم.
ردت البنت النحيلة على مكالمة كانت تبدو انها من رئيسها: نعم انه الان في غرفته ، ثم اضافت ، تفاهمت معه بلغة انكليزية ركيكة ، هو لا يتكلم غير العربية . واقفلت الخط . كان حارس البناية و منظفها والذي تشير ملامحه على انه من السكان الاصليين قد شرح لي بالاسبانية التي لا افهم منها اي كلمة، محتويات الثلاجة الصغيرة التي لم الحظها عند دخولي الى مكاني الجديد، ارتفاعها ربما خمسون سنتيمترا وتختبيء تحت حوض المغسلة ، وبجانبه طباخ صغير وحاوية بلاستيك تضم بضع ملاعق واشواك وسكاكين وصحون . كانت تلك اول لحظة التقاء بيني وبين فاكهة المانغا، كبيرة صفراء مشوبة بحمرة موردة ، عضضتها فكانت ذات جلد سميك ، خجلت ان اسال احدا عن كيفية تناولها ، تضعنا الحياة دائما امام حالات ومواقف لا نعرف كيف نتصرف معها ، وفي النهاية تتغلب صفتنا الادمية على كل العوائق وتجد الحلول المناسبة . ولكن عندما نتخلى عن هبة وجودنا التي تميزنا ،نتحول الى الات او بهائم لا تفقه الا لغة الاستجابة المبرمجة. دخلت السرير مبكرا بعد رحلة استغرقت اكثر من عشرين ساعة ،طرت فيها فوق ثلاث قارات ، من المغرب الى فرنسا فالمكسيك ،عند ساعات الصباح الاولى من يومي الاول صحوت على اهتزاز عنيف في سريري، مع صوت احتكاك خشب ارضية الشقة التي اسكنها ، كانت اشارة شؤم ان ابدأ اول يوم لي هنا بزلزال . لم استطع النوم بعدما نزلت الى الشارع لاجد مئات الاشخاص قد تركوا اسرتهم ايضا وهم نصف عراة او عراة بالكامل كما رايت ذينك الشابيين الملتحفين بملاءة بيضاء متلاصقين كجسد واحد ! لم اكن اعلم ان كانا يرتجفان من برودة الفجر ام من الخجل؟
بعد بضع ساعات وجدت نفسي امام شاب طويل بعينين اوربيتين وملامح ممثل هوليودي، مستعد للتضحية بكل شيء مقابل عدم خسارته لقيراط من شهرته او سنتا من وارده الشهري،ولاحقا علمت ان لياليه لا يطفيء فيها المصباح الاحمر الصغير الذي يزين اعلى سريره، جلست على الكرسي المقابل لمكتبه ،
كانت ضحكته المصطنعة نذير شؤم آخر ، بدأ يشرح بالانكليزية لانه ربما كان قد فهم من اتصاله بموظفته امس انني افهم ما يقول، قلت بتعبير احفظه من المرحلة الابتدائية I don’t understand !!
ضحك مرة اخرى واشار لي بحركة من اصابعه مسائلا عن استلام نقود . هززت رأسي بالايجاب ، اصطحبتني بنت اخرى اكثر اكتنازا من العاملات في ذات المنظمة ، فهمت انها ستكون مسؤولة عن حياتي في المكسيك طوال سنتين، في جولة كان قد اوعز بها الاوربي ذو العينين الزرقاوين، وعند الباب قالت لي : ارجو المعذرة هل هناك مانع ان يكون حبيبي معنا في هذه الجولة؟ لم امانع ، الوقت كان صباحا، وربما الساعة قد جاوزت التاسعة قليلا، عربة خشبية ملآى بالورد يدفعها صاحبها باتجاهنا، قلت هل هذا ورد حقيقي ام صناعي ، ردت : حقيقي ،فقلت لها : ولكنه بلا رائحة ولهذا اعتقدت انه صناعي ، عدت بلمح البصر الى بغداد في هذه الايام من السنة حيث رائحة زهر البرتقال والليمون تجعل الهواء مثقلا بالاريج الذي يملأ خلايا الناس ، بغداد التي تحولت منذ ان نشر الاسلام السياسي عباءته عليها الى كيس قمامة اسود تفوح منه العفونة وتسيل من ثقوبه دماء الضحايا المغدورين، والمتنورين المعارضين ، والمؤمنين بان الانسان اهم من ربه ،طالما اننا في فقاعة موقوتة اسمها الحياة ، لا نعرف متى تضغط اصبع الرب على زر اطفاء مصباحها.
#حاتم_عبد_الواحد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟