أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حاتم عبد الواحد - نحو شجرة الكرز















المزيد.....

نحو شجرة الكرز


حاتم عبد الواحد

الحوار المتمدن-العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 09:18
المحور: قضايا ثقافية
    


اعترضت والدتي على القرار وقالت: اما سمعتم ما قاله المذيع صباح اليوم، سيعدموننا بالرصاص جميعا.
رد عليها والدي: ان وسائل الاعلام التي تعمل من اجل تمجيد الطغاة هي أدوات لتضليل الرأي العام، وفي الغالب ان اخبارها كاذبة.
في الطريق الى الشرق رأينا كيف تحولت الدبابات العراقية المتواجدة على كتف الطريق الى ركام ورماد، بعضها طارت ابراجها وبعضها شطرت الى نصفين او أكثر، الاف قذائف الهاون وملايين الاطلاقات الخفيفة مبعثرة على ارض المعسكر الشرقي لبغداد، فبغداد محاطة بالمعسكرات ناهيك عمّا في داخلها من معسكرات مليشيات الحزب ومعسكرات المخابرات والامن العسكري والأمن العام والامن الرئاسي. بغداد التي كان اسمها دار السلام أصبحت دار الموت والحرب والدمار.
لا حقائب لنحزمها في هروبنا الكبير، العاصمة كالسافانا الافريقية، أمواج بشرية تحفر ممرات الطرق الترابية الخارجة من القرى والقصبات القريبة، كالبقر الوحشي في رحلته عبر المروج القاحلة بحثا عن البقاء، كانت رغبة والدتي ان نصلي صلاتنا الأخيرة قبل ان نخطو الخطوة باتجاه البساتين البعيدة، لا وقود ولا غذاء ولا أغطية، ملابس رثة ورثناها من عصر الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بعد دخوله الى الكويت ودام لأكثر من عشر سنوات قاحلة.
ـــ لا اريد ان أصلَّي، قال والدي.
ـــ هل لديك مشكلة مع الدين في هذا الوقت العصيب؟ سألته والدتي.
ـــ مشكلتي ليست مع الدين وانما مع المتديّنين.
ـــ ولكنهم لم يؤْذوك بشيء، وكان جدك رجلا ذا نسب يتصل بنسب الرسول كما يشاع!
ـــ كلهم كاذبون، فهؤلاء اللصوص يجعلون من الله كلبا أجرب يسوِّرُ بِبوله كل مكان يمر به، كي تستولي جراؤه المقدسة بعد ذلك على كل شيء.
ــ لم أفهم.
ويتمتم والدي ويهذي كمجذوب: ومتى كنتِ تفهمين.
ـــ لا أستطيع ان أوضح لك الأمور فالعالم الذي تعيشين فيه لا تتجاوز مساحته عشرة سنتيمترات مضروبة بخمسة مثلها، دعينا نغلق بابنا على خيبتنا التي سنتخلى عنها وراء حيطان هذه الغرفة بمعية اليأس والذل. ونادى علينا مشيحا بوجهه صوب الغروب المُدمَّى بالجرح السماوي النازف.
ـــ هيا يا شباب، وربت على كتفي وكتفي اخي واختي، كان متاعنا كيسا مصنوعا من خيوط القنب الهندي مليء بملابسنا واحذيتنا وقطعتين من الاسفنج ذات مقاس متر عرضا ومترين طولا لننام عليها بعد ان نغطيها بشرشف بلاستيكي ليحمينا من الرطوبة، الوقت شتاء، والوطن كله أصبح بركة من وحل او بركة من خراء كثيف كما قال السائق للعجوز المريضة في طريق رحلتنا الى دائرة تجنيدي، وبعض ورق الكتابة، وكتابين مغلفين بعناية بكيسين بلاستيكيين كان والدي لا يفارقهما.
ـــ لقد نسينا صورنا. هكذا صرخ والدي ملسوعا.
ـــ وهل نحن الآن بحاحة الى صور؟ ردت عليه والدتي.
قال لي: خذ مفتاح الغرفة وعند الطبقة السفلى لخزانة الملابس ستجد صندوقا حديديا صغيرا مرسوماً على غطائه العلوي قصرا انكليزيا من قصور مقاطعة كنت، عرفت فيما بعد انها قلعة ليدز، هناك ألبومان للصور، جيء بهما.
ـــ لا وقت لدينا، الليل سيحلُّ ونحن لا نملك وسيلة نقل لنهرب.
ـــ الحرب أداة لتدمير الزمن الجميل يا امرأة، والصور هي ضوء متجمد، ان كسر فلن يصلح. دعينا نحافظ على الضوء المتجمد الذي قد يكون لنا ملاذاً في أيام قادمة شديدة الظلمة.
ادخل الى الغرفة وانا لا اكاد أرى شيئا، ثمة نقطتان من ضوء تتأرجحان خلف الستارة التي تفصل غرفتنا عن بيت مالك الغرفة، كان هناك شباك يطل من غرفة المالك على الحديقة المفترضة للبيت والتي تحولت الى غرفتنا، كان لصاحب البيت بنت مطلقة لها بنت شابة، كان طليقها قد أشفق على والدها العجوز.
ـــ سأطلق ابنتك ولكني اكراما لك سأدع ابنتي تعيش مع أمها الى يوم موتك، انها وديعة عندك. كانت الغرفة التي وراء الستارة والتي يفصلها عنَّا شباك قديم مغلق بلوح خشبي رقيق وتغطيهما ستارة هي غرفة المطلقة وابنتها، الثقبان المضيئان هما ثقبان في اللوح الخشبي الرقيق يستمدان الضوء من فانوس نفطي كانت المطلقة تستعمله للإضاءة طوال أيام الحروب التي خضناها من اجل كرامة الوطن الذي قد نجد فيه أي شيء الا المواطنة والكرامة.
استعين بعود ثقاب فتلمع فوق الشباك تلك اللوحة المؤطرة باطار خشبي متواضع جدا ، اللوحة عبارة عن صورة مطبوعة بالألوان لجبل يعلو قمته ثلج ناصع البياض وفي اسفله بحيرة زرقاء تنتصب على جانبها شجرة كرز مثقلة بالأزهار الوردية، يبدو انه فصل الربيع، لقد بدأت حياتي كطفل صغير مع هذه الصورة اللوحة، ولكنني الآن بدأت للتو ادرك ما حولي متأملا تلك اللوحة الصغيرة كعالم غير متناهِ، كانت غرفتنا تلك هي كل العالم الذي نعيش فيه، غرفة بصفة مسكن عائلي خالٍ من أي وسيلة ترفيه للأطفال او للكبار سوى تلك الكتب المرصوفة بعبث واضح فوق رفها الحجري الذي يطوقها. يمتد على حائطها الطولي الموازي لشباكها الكبير الذي كان بمثابة الحائط الاخر، حائطاها الاخران هما الشباك الذي يفصلنا عن بنت مالك البيت المطلقة، وحائط مشترك مع دكان نجار يعمل مخبرا لدى أجهزة امن الدولة، وفسحة مغطاة بسقف من التوتياء تمتد من باب الغرفة الى باب المرحاض والحمام، لم يكن عندنا جهاز تلفزيون ولا ثلاجة، هناك سرير حديدي متهالك، ومقعدين طويلين من الخشب وشجرة الكرز والحلم الكبير الذي يتدلى من اغصانها كانت هي كل الأشياء الجميلة في ذلك المكان الكالح. وطالما كنت احلم ان اكون بداخل تلك اللوحة!! راعيا تحتها، او عصفورا فوق اغصانها، او ورقة ندية من اوراقها الخضراء الزاهية، نشأت في اسرة متواضعة ماديا ولذلك كانت مشاكلها تتناسل، لم تكن عندي خبرة بالحياة ولاكن احساسي كان يقول لي دائما ان تلك الاسرة سوف تنهار يوما ما، احلامي وطموحاتي كانت تكبر وتتسع بشكل يومي ولاكن الواقع المحيط بي يسوء ويتدهور هو الاخر وبشكل يومي، لا شي يدعو للتفاؤل.
اسمع خشخشة وراء اللوح الخشبي الفاصل، والمح بريق عين من خلال أحد الثقوب.
ـــ هل اتيت بالصور؟
ـــ ها هي، ولكن يبدو ان هناك من يراقبنا يا والدي.
يكركر والدي بصوت عالٍ، يكركر ويكاد ينبطح على الأرض، ويسالني بأنفاس متقطعة:
ــ هل رأيت أحدا؟
ـــ لاح لي على ضوء عود الثقاب بريق عين من خلال ثقب في اللوح الخشبي الفاصل بيننا وبين غرفة ابنة مالك البيت.
بريق عين واحدة ام بريق أربع عيون. ويغيب في دوامة عاتية من الضحك الهستيري.
ـــ لم انتبه جيدا ولكنني لمحت عينا واحدة فقط.
لم يعجبهن الفلم! هكذا قال لي بجدية صارمة.
ـــ أي فلم يا والدي، فنحن بلا تلفزيون وليس هناك كهرباء في كل البلد.
ـــ همس في اذني: سأقص عليك الحكاية عندما نكون لوحدنا، فليس من الحكمة ان اشرح لك ما حدث لك الآن.
وتابعنا طريقنا مشيا نحو المجهول، المساء يهبط كرغوة سوداء تتدلى من شجرة عملاقة تستطيع ان تظلل كل العالم، لا أضواء سوى أضواء سيارات الحكومة، الخوف هو الشحنة الكهربائية الوحيدة التي تدب في حياتنا، نحن في اليوم الثالث او الرابع من الحرب.



#حاتم_عبد_الواحد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في معنى تجارة الكلمة 3
- في معنى تجارة الكلمة 2
- هذا اليوم و تلك البلاد
- في معنى تجارة الكلمة
- عنزة ولو طارت
- الخوزقة الذكية
- انا متشائل
- فقيهان لا يفقهان
- مليشيات و صواريخ وحشيش
- تفاصيل صغيرة من الصورة الكبيرة
- بلبل ال ( دي. ان . اي)
- الرفسة الاخيرة للثور المعمم
- فيل قريش وابابيل خيبر
- موالي مهدوية العراق
- فيل قريش!
- الارضة القطرية!
- صلعميون بهلويون وطورانيون
- مدافع النَّان
- الوجه وماؤه!
- ابو علي العسكري وتسوركوف


المزيد.....




- الخارجية السعودية تشعل تفاعلا بجملة استخدمتها في بيانها ضد ز ...
- متى ستُنشر -ملفات إبستين-؟ وهل ستخضع للتنقيح؟
- الاتحاد الأوروبي يخصص 88 مليون يورو كمساعدات للسلطة الفلسطين ...
- أوكرانيا: زيلينسكي يدعو إلى -سلام مشرف- وسط خطة أمريكية تتضم ...
- لقاء غامض يفجر الجدل.. البيت الأبيض يعلق على -اجتماع القدس- ...
- مصر.. -خناقة- علاء مبارك وهجوم ساويرس على مصطفى بكري بذكرى م ...
- السعودية.. ثمن -شنطة- الأميرة ريما بلقاء محمد بن سلمان وترام ...
- فيديو وتحليل نظرة إعلامية سعودية أمام محمد بن سلمان لحظة توب ...
- البيت الأبيض يعلق على منشور ترامب عن -إعدام- نواب ديمقراطيين ...
- بعد ثلاثة قرون.. علماء يقتربون من اكتشاف كنز سفينة غارقة


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حاتم عبد الواحد - نحو شجرة الكرز