حاتم عبد الواحد
                                        
                                            
                                                
                                        
                    
                   
                 
                
                 
                
                
                 
                 
              
                                        
                                        
                                      
                                        
                                        
                                            الحوار المتمدن-العدد: 8512 - 2025 / 10 / 31 - 08:21
                                        
                                        
                                        المحور:
                                            قضايا ثقافية
                                        
                                        
                                            
                                        
                                        
                                     
                                      
                                        
                                        
                                        
                                        
                                            
    
    
 
                                       
                                        
                                        
                                
                                
                                   
                                        
                                            
                                              مرت الليلة الأولى هادئة، والهارب من المدينة التي غزتها حشود اللصوص والقتلة والمرتزقة يتغرغر الان بكاس نبيذ من ماركة كابرنيت سوافيكنون المعصور في معصرة من معاصر سفوح جبال الانديزالتشيلية، كانت اخر مرة قد كرع فيها كأس نبيذ عراقيا قد ذكرته بتلك الكروم الدانية قطوفها في مزارع مدينة دهوك الشمالية، حيث تترامى الدوالي على السفوح المطلة على شوارع المدينة مثل سجاجيد ضوئية ملونة، تمتد في الأفق كقوس قزح زاهي.
المساء والظلمة في هذه المدينة موحشان. رغم رسائل التطمين التي استلمتها من المنظمة التي اهتمت بإخراجي من تابوت بلادي، هل يمكن ان يكون الموت في بلادك أكثر بريقا ورحمة من الحياة في منفاك؟ لقد سمعت الكثير عن هذه المقولات الافلاطونية لكني لم أكن لأصدقها كما احسست بصدقها هذه الليلة في هذا المكان الذي لا ينطبق عليه إلّا   وصف منفى ما وراء بحر الظلمات.  
كانت الغرفة فقيرة كاي ملجأ عمومي ، سرير هرم ووسائد واغطية فوق الشرشف الذي لا احد يعلم عدد الأجساد التي نامت عليه الا الله ، بقع دم قديمة قد تحول لونها الى ما يشبه القهوة المسكوبة كانت عند حافة المفرش، وهي اشارة الى عملية جماع مع امرأة كانت في دورتها الشهرية، مروحة عمودية متهالكة لطرد بعوض أواخر نيسان، خصوصا وان المبنى عبارة عن دار قديمة اعيد ترميمها، تحتل مؤخرتها ادغال متشابكة من سيقان الخيزران وفسيلة نخل وشجيرات ورد تحيط بحوض نافورة صغيرة يلتصق في قعرها الجاف غبار اسود، لونه اقرب للإسفلت او للرصاص القديم المطحون ، والذي عرفت فيما بعد انه الهباء الجوي الذي يختلط بمياه الامطار اثناء هطولها الكثيف في الفترة من نيسان الى تشرين الأول من كل عام ، نحن قريبون اذن من خط الاستواء.
الرحلة من اكادير في جنوب المغرب الغربي الى مدينة مكسيكو ستي استغرقت حوالي 18 ساعة  ، لان طائرتي كانت ستطير من مطار سلا الواقع على بعد 8 كيلومترات الى الشمال من العاصمة المغربية، ثمَّ الى باريس ومن باريس سنعبر المحيط الاطلسي محلقين ربما فوق أراضي بريطانيا العظمى وكندا والولايات المتحدة، نزولا حتى مرابع الازتيك، ولكن كان اخطر ما في هذه الرحلة هو السفر من اكادير الى الرباط، حيث كل يوم تقريبا تسقط حافلة في الوديان التي ما تفتأ تظهر في المدى بعد اقل من ثلاثين دقيقة من الانطلاق باتجاه الشمال المغربي، ومما يزيد المخاطر، ان كثيراً من سائقي تلك الحافلات هم من متعاطي الافيون، حيث يباع الافيون المغربي وزيت الخشخاش  الأخضر في كل زوايا المدن المغربية بسعر بخس، حيث لا يتجاوز سعر عبوة تقارب مائتي ملمتر عشر سعر ليترمن زيت الزيتون او زيت الأركان. كنت قد بدأت التهيؤ لرحلتي هذه في تمام الساعة الرابعة فجرا. حيث كان عليَّ ان أصل العاصمة الرباط للبحث عن فندق قريب من المطار الصغير الذي ستقلع منه طائرتي. ولأنني غريب عن المدينة فقد قادني سائق التاكسي الى فندق قال لي عنه انه نظيف وآمن وهادئ، حيث ستكون رحلتي من مطار شارل ديغول نحو منفاي المكسيكي في الساعة الحادية عشرة صباح اليوم التالي.
صرفت 200 دولار في محطة الاتوبيسات عندما وصلت الى العاصمة من اجل دفع نفقات الطريق الى المطار والمبيت والطعام، خصوصا وان رحلتي الى باريس ستبدأ في الساعة السادسة صباحا، وفي نيسان يكون هذا الوقت وقت غبش، انها ليلة واحدة فقط، وصلت الفندق ودفعت اجرة ليلة وصعدت بصحبة أحد الشباب العاملين الى غرفتي، كان تعب الطريق قد اخذ مني الكثير من الجهد حيث كنت اجلس في الحافلة التي اقلَّتني من اكادير الى هنا في مقعد محاط بخمسة مقاعد يشغلها شبان ليبيون. بقوا طوال الطريق يتقافزون في ظلمة ممر الحافلة مازحين مع بعضهم بصوتهم العالي، وأحيانا مازحين مع المغربيات العازبات الوحيدات المسافرات وحدهن بأيديهم. كانت المائتا دولار قد جلبت لي 1600 درهم، دفعت منها 600 للمبيت في الفندق، واعطيت عامل الفندق الذي ساعدني في حمل حقيبتي بعض الدريهمات واحتفظت بالمتبقي لآخر نزهة في هذه المدينة المتماوجة بين العروبة والفرنسة. وما كنت أدرى ان العامل سيعود مرة أخرى الى الغرفة بعد خروجي ليسرق ما تركت من دراهم في الغرفة الا عندما هممت بدفع اجرة التاكسي الذي اوصلني في فجر اليوم التالي الى المطار.
عند المساء كان لي موعد مع صديق قديم، شاءت ظروفه ان يكون لاجئا في كندا لبعض الوقت، ولكن لسبب لا اعرفه تم ابعاده من كندا بعد حين، ولأنه كان متزوجا من مغربية ولديهما اسرة، فقد فضل العودة الى بلد زوجته على العودة الى بلده الاصلي، رغم ان كثيرا من شخصيات حكومة ما بعد الدكتاتور صدام حسين كانت تحمل ذات اللقب العائلي لصديقي القديم.
جلسنا في مقهى باليما الذي افتتح في عام 1932، في فترة الاحتلال الفرنسي، واتخذ اسمه من اول حرفين من كل اسم من أسماء العوائل الثلاث التي اسسته، وهي عائلة باردي وعائلة ليوريل وعائلة ماتياس، ورغم عمره الذي بلغ خمسا وسبعين سنة حينها، الا ان اناقة وكلاسيكية الاطلالة ستعيد أي مرتاد للمكان لبهجة الأماكن الباريسية التي كانت سائدة في منتصف سنوات القرن الماضي. الباحة المشجرة والمطلة على اهم شوارع العاصمة الرباط، والصالونات العلوية المطلة على مبنى البرلمان تجعل من زوايا المقهى العريق مجالس نقاش بين البرلمانيين الذين لا يسع نقاشهم التوقيت الرسمي للبرلمان.
نطَّ أمامنا رجل متوسط القامة بعدستين متفاوتي السمك، دعاه صديقي القديم لقدح شاي، تكلما في أمور عدة لا اعرف فحواها، كان عراقيا يتكلم لهجة اميل الى لكنتها، وما ان غادر حتى قصَّ علي صديقي تاريخ صديقه، وكيف انه كان موظفا في السفارة العراقية في الرباط، وكيف بادرــ بمجرد سماعه بسقوط نظام الدكتاتور صدام حسين ـ الى طلب اللجوء في المغرب لأنه كان زوجا لمغربية أيضا، قال: انه يخاف العودة الى بغداد لأنه ــــ وكما يعلم كل عراقي ـــ كان بالتأكيد يعمل لمصلحة الاستخبارات العراقية، ولكن الآن أصبح والد مطربة مشهورة. تقيم حفلاتها في دبي والقاهرة وبيروت وتكسب جيدا رغم ان صوتها ليس جيدا بما يكفي!!
استلقت الشمس على خدّ البحر الممتد في الأفق البعيد، وشعرت بوخزة في القلب، فانا دخلت لبيت هذا الصديق مرتين. وبالتأكيد سيجعل من هاتين المرتين تاريخ عار سيلاحقني طوال المتبقي من حياتي، وهذا ما حدث، وكانت الاحاجي والقصص التي سمعتها من أصدقاء مشتركين اخرين يعيشون في منافٍ أخرى، تتوزع على القارات الخمس تكفي لكتابة مجلدين ضخمين، وكل هذا قد طرق اذنَيَّ خلال السنة الأولى فقط من وصولي للمكسيك ، أمّا الان فلدي روايات وحكايات ومغامرات تشرح بتقنيات القصّ الحديث كيف بادر صديقي القديم لإنقاذي من التشرد في المغرب ــ وانا للحقيقة لم اكن ادري انني كنت على شفير التشرد هناك ــ ولكنني نجوت كما يبدو بسبب رفعة روحه الساطعة التي انقذت روحي المطفأة من الضياع.
طليقتي التي تعيش مع عشيقها في دمشق كانت قد ضبطت مكالمتها على الساعة التاسعة ليلا بتوقيت الرباط. هذا يعني ان الوقت في دمشق هو منتصف الليل. والطريق الى الفندق لا يستغرق أكثر من خمس عشرة دقيقة مشيا من مركز المدينة، كنت قد اكلت بعض السلطة وشربت عصير الليمون في أحد الاكشاك المنتشرة على جانب أشهر شوارع العاصمة، والذي يحمل اسم الملك. وداعبت بروح مرحة احدى مومسات الليل المنتشرات على الأرصفة مثل المصابين بالعمى في هذه المدينة ذات النكهة والعطر الغريب.
قالت يجب ان تتماسك وتبدأ حياتك من جديد وبشجاعة، ورققت طبقة صوتها وقالت: انا واولادك ننتظر منك حبل نجاة! 
لم أكن حتى هذه اللحظة افهم ما الذي دفع رجلا جرمانيا يسكن قريبا من القطب الشمالي، الى مد يد العون لي؟ لقد علمتني الحياة طوال خمسين عاما ان لا شيء بالمجان، ولا كلمة لطيفة ستسمعها ان لم يكن قائلها يبحث عن ثمن مضاعف. لقد خلطت  لي طليقتي سمَّ الفئران بمرق البطاطا في تلك الظهيرة التموزية من اول صيف نعيش فيه تحت الاحتلال، لا حكومة ولا قانون ولا شرطة ولا شعور بالأمان، ولا حب ، كانت الكراهية تمتد على شكل سلاسل من حجر مصهور يكتسح حدود حارات مدينتنا القديمة ، كانت تلك اللحظات فرصتها كي تظفر بذلك المحامي الذي كان يعمل لدى محام اخر كمنظف مرحاض، ذلك المحامي الذي لا يعرف عن تاريخه شيء سوى انه كان يتردد على حلقات الدراويش التي يعقدها ملتحون سلفيون في احدى تكايا بغداد، والآنَ تريد مني ان أكون ذلك الهر الشرس الذي سيقضي على كل الفئران التي تقرض ايامها وجسدها وبقية الضوء التي استطاعت الاحتفاظ به من ايامها معي.
كانت مكاتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين قد منحتني ورقة اعتراف تشهد بأنني لاجئ في الأراضي السورية في عام 2004، وبقيت اراجع مكاتب هذه المفوضية دون ومضة امل بخلاص قريب واجتمعت مرة بموفدة اوربية لحقوق الانسان، وكشفت لها عن ظهري المشوي مثل سيخ شاورما، وفخذيَّ المشويتين اللتين بدتا الى حد بعيد كفخذي دجاجة سيئة التغذية،  وقلت لها: يا عزيزتي لو حصل لك معشار ما حصل لي فهل ستعودين مرة أخرى الى بلدك؟ فهزت رأسها بالنفي وأضافت اننا نسعى جاهدين لتحسين حياة الناس في كل بلد من بلدان العالم الثالث وما عليك الا ان تصبر أكثر، قلت لها يا عزيزتي لو كانت برامجكم تهدف الى تحسين ميتات الناس في العالم الثالث لكانت اهدافكم أسمى! نعيش سنين لا تضاهي سنين حياة سلحفاة بحرية او نسر جبلي، ونموت عدة ميتات ــ أحيانا في يوم واحد ــ وأنتم مشغولون بتطوير نمط الحياة، انه هدف لا يستحق العناء، ما يستحق التخطيط هو مشروع تحسين ميتات شعوب العالم الثالث؟! 
                                                  
                                            
                                            
                                          
                                   
                                    
      
    
  
                                        
                         #حاتم_عبد_الواحد (هاشتاغ) 
                           
                          
                            
                          
                        
                           
                          
                         
                
                                        
  
                                            
                                            
                                             
                                            
                                            ترجم الموضوع 
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other 
languages
                                        
                                            
                                            
                                            
الحوار المتمدن مشروع 
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم 
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. 
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في 
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة 
في دعم هذا المشروع.
 
  
                                                               
      
    
			
         
                                         
                                        
                                        
                                        
                                        
                                        
                                         
    
    
    
                                              
                                    
                                    
    
   
   
                                
    
    
                                    
   
   
                                        
			
			كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية 
			على الانترنت؟