أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حاتم عبد الواحد - هذا اليوم و تلك البلاد















المزيد.....

هذا اليوم و تلك البلاد


حاتم عبد الواحد

الحوار المتمدن-العدد: 8408 - 2025 / 7 / 19 - 09:05
المحور: المجتمع المدني
    


صعودا باتجاه الشمال، كانت مدينة اجداد والدي تبعد حوالي 120 كيلومترا عن بغداد، انها احدى عواصم الخلفاء العباسيين، لم يعلموني في المدرسة هذه المعلومة. كان جهد المعلمين مركزا على صلة الانتساب بين صدام حسين ونبوخذ نصر الثاني الذي يعني اسمه حامي الحدود.
انطلقنا انا وابي منذ الصباح الباكر قاصدين دائرة تجنيدي في المدينة التي تضم سجل الأحوال الشخصية لعائلتي.
كانت الحرب قد بدأت منذ أيام، ففي فجر التاسع عشر من اذار عام 2003 سقطت الاف القذائف الحربية الثقيلة في كل انحاء بغداد، استيقظنا مذعورين، انا ابن الثامنة عشرة اعرف تماما ماذا تعني الحرب، فانا مولود في لجة النار والصواريخ والصراخ التعبوي والاغاني التي تمجد القائد الضرورة طوال سنوات الحرب الثماني مع إيران، وانا الصبي اليافع في حرب تحرير الكويت وها انا متجه الى دائرة تجنيدي حيث أصبحت رجلا عليه ان يكون من حماة الحدود كما يقول الحفيد المزعوم لنبوخذ نصر.
ما إن تجاوزنا بوابة بغداد الشمالية حتى انفتح الأفق امامنا في ذلك الصباح الرمادي، كانت السماء رصاصية سوداء لكثافة الدخان الناتج عن حرق الاف إطارات السيارات داخل وخارج العاصمة كاستراتيجية لتضليل طائرات التحالف الدولي المغيرة على اهدافها، رطوبة صباحات نهاية آذار تجعل المشهد اكثر ضبابية، حيث نسائم الربيع التي ما زالت باردة تهب على الحقول المتروكة، الناس خائفون من مصير غير واضح، وجوه المسافرين مكفهرة متيبسة وعيونهم تمسح المدى وآذانهم منتصبة كرادارات تبحث عن أي إشارة في الأفق.
المشهد أصبح متداخلا و مضببا عندما ابتعدنا اكثر باتجاه الشمال، نهضت امرأة بدينة وبالكاد تنقل رجليها واتجهت نحو السائق وقربت فمها من أذنه فبدأ الباص يبطئ حركته ويتجه نحو حافة الطريق الى ان توقف، فتحت السيدة الباب ونزلت متعثرة باتجاه مزرعة للسلق والفجل ، تتطاول في ما بينهما بعض احراش اطول ،كانت المزرعة المهدورة على الجانب الايمن للطريق، وكانت خالتنا المسنة تبحث عن ساقية عميقة كي تتبول فيها، يبدو انها من مرضى السكري الذين هرشت صفارات الإنذار اسماعهم فجعلتهم يعيشون أياما مكفهرة وملآى بمأساة مركبة، نادى عليها السائق بصوته الاجش:
ــ يا خالة لا داعي للبحث بعيدا، بولي حيث شئت فالوطن مرحاض كبير، والسماء مصهر فولاذ ، ولا وقت لدينا!!
الكلمات المرعبة التي قالها السائق ايقظت في داخلي سؤالا يحتاج الى عشر مكتبات بحجم مكتبة الإسكندرية للإجابة عنها: أنحن ــ انا ووالدي ــ ذاهبان لندافع عن مبولة؟ هل تاريخنا الذي يحتل عشرات الاف الصفحات في كتب التراث والتاريخ مجرد مرحاض عمومي لا نعرف من قضى حاجته البيولوجية فيه، هل انا سأكون أحد مطهري هذا المرحاض من خراء الغرباء لأجعله مرحاضا يعبق برائحة خراء القائد الضرورة؟
كانت المزارع الممتدة في الأراضي الممتدة على جانبي الطريق ذات لون اخضر باهت، في كلا الجانبين كانت الحقول متروكة ولم يسقها الاّ مطر آذار، فمنذ عشرة أيام تقريبا مطرت السماء في مركز العاصمة مطرا اسود ظل اثره على الحيطان البيض كأثر الكحل على خدود حورية باكية، أمسك يد ابي لأشعر بأمان اكثر، ففي هذه اللحظات تشعر بعدائية الكون نحوك، تشعر بعبثية وجودك وغرابة المشهد الذي انت فيه، بدأ الباص يقترب اكثر من مدينة اجدادي، كانت القباب الذهبية للولي الصالح الذي يدعي اجدادي انتسابهم اليه تلوح وراء الضفة الأخرى من النهر بلون قاحل، سنعبر الآن احد السدود التي اُنشئتْ في خمسينيات القرن الماضي من قبل شركة المانية، كان بيت اجدادي قريبا من السد، وكما قال لي والدي فانه كان يقضي أيام شبابه في هذه الضفاف ، يصطاد السمك من النهر و يجلب العرق المستكي من بغداد وينحدر في ليالي الربيع والصيف الى الجرف الاقرب لبيتهم ليستمع الى العتابة المحلية وهو يكرع كؤوس( حليب السباع) ممزوجة بالسمك المشوي على حطب اشجار البساتين المطلة فوق مياه دجلة.
صرنا على بعد كيلومتر واحد من محطة الوصول، لاحت لنا اغرب منائر الدولة العباسية، ( الملوية) تلك المنارة التي تشبه الزقورة البابلية ولكنها ليست مربعة بل اسطوانية بخمس طبقات وقمة موشَّاة بأقواس بابلية أيضا.
كان علينا ان نسلك الطريق الموازي لهذا المسجد الاثري ولمعمل الادوية صعودا نحو الشمال مرة أخرى كي نصل الى دائرة التجنيد.
عندما خرجنا في الصباح من البيت، قرأ المذيع بيانا من القيادة العامة للقوات المسلحة يقول فيه: نداء أخير، على مواليد عام 1984 الالتحاق فورا بدوائر التجنيد من اجل سوقهم الى خطوط المواجهة مع (العدو) وان من سيتخلف عن هذا سيكون مصيره ومصير من يتستر عليه الإعدام بالرصاص!
اقترب والدي من ضابط التجنيد وتحدثا بصوت خفيض لم اسمعه، فيما ظهر فجأة ضابط آخر بشاربين كثين متدليين فوق الفم كله ، وليس فوق الشفة العليا، لدرجة أنك لا تستطيع ان تعرف هل الانسان الذي امامك له فم ام لا، ضغط والدي على كفي بقوة واومأ لي ان ابتعد عنه واتراجع للخلف حتى باب الخروج من مكتب التجنيد.
قال الضابط ذو الشوارب المتدلية: هل جئت بابنك لغرض السوق لمعسكر التدريب؟
تولى الضابط الاخر الجالس خلف المكتب الإجابة عن السؤال: نعم، ولكنهم لم يجلبوا صورا لإنجاز وثيقة التجنيد، كما انهم لا يعرفون فصيلة دم الشاب، سيعودون الى المدينة من اجل إتمام النواقص.
قال الضابط ذو الشاربين الكثين: نستطيع انجاز معاملته ليكون مع رفاقه في السلاح، وبعد ذلك سيقوم ضابطنا الاداريون بلصق صورته في اضبارته الشخصية!
كان مستعجلا ومتحمسا كأنه مالك خراف يريد ارسالها الى المجزرة ليقبض ثمن لحمها.
بعد اقل من عشر دقائق خرج والدي وكنت بانتظاره في ظل أحد الجدران المنزوية، امسك بيدي ولوَح بيده الاخرى للسيارات المارة في الشارع كيما تنقلنا الى موقف الباصات، قال لي: علينا ان نعود الى بغداد حالا.
ـــ ماذا حدث وعن ماذا تكلمتما؟
ـــ ان ضابط مركز التجنيد أحد أصدقائي القدامى، عندما أشرت اليك بالابتعاد عني والرجوع الى الخلف كان يقول لي: ابعد ابنك من هنا قبل ان يراه الضابط السياسي للمركز فيحتجزه بالقوة لإرساله الى مركز تدريب.
ثم أضاف: لقد ارسلنا قبل عشرة أيام وجبة من أبناء المدينة الى أحد مراكز التدريب وبعد أسبوع نقلوهم الى خنادق القتال المتقدمة في (ام قصر) في البصرة في اقصى الجنوب، وقد مات منهم اول أمس أربعة واربعون جنديا من أبناء هذه المدينة، لقد قصف خندقهم الشقي بقنابل تزن الواحدة منها ألف رطل فدفنوا في خندقهم احياء، اما رأيت ان المدينة تكاد تكون خالية من الناس بسبب الحزن الذي لف بيوتها، خذ ابنك وعد من حيث اتيت، وتذكر ان الخائفون لا يدخلون الجنة.
كانت رسالة الضابط لنا واضحة، لذا ما إن وصلنا الى بيتنا في بغداد حتى قرر والدي ان يأخذنا انا وأخي الأصغر واختي وامي الى مدينة ريفية أخرى في شرق البلاد قريبة من الحدود الإيرانية كي نقضي مع عائلة احدى عماته أيامنا التي أصبحت خليطا من أصوات سيارات الاسعاف وصفارات الانذار وزعيق مليشيات الحزب الحاكم وهي تجوب الازقة بحثا عمن يستطيع حمل السلاح، وأصوات المدفعية المضادة للطائرات وانفجارات صواريخ توما هوك اللتي كانت تهز المدينة ليل نهار.
اعترضت والدتي على القرار وقالت: اما سمعتم ما قاله المذيع صباح اليوم، سيعدموننا بالرصاص جميعا. رد عليها والدي: ان وسائل الاعلام التي تعمل من اجل تمجيد الطغاة هي أدوات لتضليل الرأي العام، وفي الغالب ان اخبارها كاذبة، لان الطغاة لا يعرفون الحقيقة ولا يعترفون بها.
في الطريق الى الشرق رأينا كيف تحولت الدبابات العراقية المتواجدة على كتف الطريق الى ركام ورماد، بعضها طارت ابراجها وبعضها شطرت الى نصفين او أكثر، الاف قذائف الهاون وملايين الاطلاقات الخفيفة مبعثرة على ارض المعسكر الشرقي لبغداد، فبغداد محاطة بالمعسكرات ناهيك عمّا في داخلها من معسكرات مليشيات الحزب ومعسكرات المخابرات والامن العسكري والأمن العام والامن الرئاسي. بغداد التي كان اسمها دار السلام أصبحت دار الموت والحرب والدمار.
كان ذلك اليوم يومنا ، وكانت تلك البلاد .



#حاتم_عبد_الواحد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في معنى تجارة الكلمة
- عنزة ولو طارت
- الخوزقة الذكية
- انا متشائل
- فقيهان لا يفقهان
- مليشيات و صواريخ وحشيش
- تفاصيل صغيرة من الصورة الكبيرة
- بلبل ال ( دي. ان . اي)
- الرفسة الاخيرة للثور المعمم
- فيل قريش وابابيل خيبر
- موالي مهدوية العراق
- فيل قريش!
- الارضة القطرية!
- صلعميون بهلويون وطورانيون
- مدافع النَّان
- الوجه وماؤه!
- ابو علي العسكري وتسوركوف
- نتنياهو لا يوزع الشيكلات
- العمامة الفاشستية
- رمتنا حماس بدائها وانسلَّت


المزيد.....




- وزارة الصحة بغزة: الحصار والمجاعة يقتلان 67 طفلًا في قطاع غز ...
- أحداث السويداء.. تركيا تدعو لوقف العنف والأمم المتحدة تطلب ت ...
- مصادر طبية: غزة تشهد مجاعة فعلية.. ومراكز الإغاثة تحولت لمصا ...
- الشرع: الدروز ركن أساسي من النسيج الوطني السوري.. ونلتزم بحم ...
- سيناتور أمريكي: لا ينبغي لواشنطن التواطؤ في التطهير العرقي ب ...
- فيديو يُظهر طفلة فلسطينية تهرب من قصف إسرائيلي على مخيم للاج ...
- -انتهاك غير دستوري- .. القضاء الأمريكي يجمّد قرار ترامب ضد ا ...
- الأمم المتحدة تحذر من أن يصبح الحرمان الجماعي أمرا طبيعيا في ...
- صحة غزة: المجاعة ومجازر الاحتلال قرب مراكز المساعدات تهدد حي ...
- صحة غزة: المجاعة تتفشى في القطاع ونحذر من كارثة صحية وإنساني ...


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حاتم عبد الواحد - هذا اليوم و تلك البلاد