أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حاتم عبد الواحد - ديك المزبلة















المزيد.....

ديك المزبلة


حاتم عبد الواحد

الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 09:10
المحور: المجتمع المدني
    


فاحت رائحة التراب في الزقاق، كان وميض البرق يتكسر فوق زجاج النافذة الوحيدة في غرفتنا، وصرير السقف الخشبي بدأ يصبح أكثر شدة، ومن شق في الباب الخشبي نظرت امي نحو السماء الصدئة.
ــ لا تخافوا فهذه العاصفة المطرية لن تؤذي احدا لأنني رأيت " سيف الله " مقوسا في السحب السوداء، ان هذه السنة ستكون سنة خير، فيما بدأت المآذن تكبر باسم الله، وتعالى صراخ مدوٍ من مكان قريب في الزقاق، كان اللغط وصوت الارجل الراكضة في الوحل واضحا، وبكاء وليد راح يزداد توحشا رغم قرقعة الرعود.
ساعدونا في اخراج هؤلاء المساكين، اتى صوت الشيخ " ابو البركات " مبحوحا، فيما كانت الجلبة تتصاعد متضخمة، وابي الملتحف ببطانية عرسه يهدئ من روعنا:
ــ اظنهم يبالغون في الامر، ربما اسقطت العاصفة حجرا من حائط بيت جارتنا فجرح عابرا في الزقاق، لا تخافوا ... لا تخافوا.
تابع الشيخ " ابو البركات " هياجه
ــ ماذا فعل هذا الصبي المسكين لتأخذه ايها الرب؟ انه الوحيد الذي حفظ قرآنك. أغضبت عليه لأنه هرب من احتفال التخرج الذي جرى يوم امس في الجامع؟؟؟
وبدأت استعيد حكاية رواها لي جدي الهارب من اسره القفقاسي، عندما لاذ بقرية على الحدود الروسية الايرانية ، كان الناس مزارعين بسطاء ، يتامى وعجائز واطفال ببطون منفوخة من الجوع ، وكان هناك فتاة في الثانية عشرة يتيمة الابوين تعيش في كنف جدتها المقعدة ، الحياة تكافلية بينهما ، فالفتاة تتلقى المعونات الغذائية من لصوص القرية الذين يعطفون عليها وعلى جدتها المقعدة ، والجدة تطبخ وتخبز في فرن ارضي ، وبين حين واخر يجود عليهما كبير لصوص القرية وفاسقيها بشيء من الدقيق الذي يسرقه من بيادر اغنياء قرىً اخرى ، فتعجنه الفتاة وتقرب الجدة نحو الفرن لتخبزه ، استمر هذا الوضع طويلا وتمنى اهل القرية ان تموت العجوز لتتحرر الفتاة من تقديم هذه الخدمات المجانية لجدتها، وحصل ذات صباح ان تعالى الصراخ في بيت العجوز، ظن الناس انها ماتت ، وعندما وصل كل رجال القرية الى باحة بيتها وجدوا ان الفتاة الصغيرة هي التي ماتت ، فرفع ارذل اراذل القرية وافسق فاسقيها وكبير سراقها راسه نحو السماء صارخا وممتعضا :
ــ انا الذي أنجس الهواء والظل والماء لا افعل فعلتك هذه.
نشيج بكاء جارتنا يتصاعد جنائزيا، منهكا، وعيناي تدوران في الغرفة من سقفها الى بلاطاتها الحجرية، كانت الحيطان مزينة بصور رجال مقدسين واماكن مقدسة، قفزت نحو الموقد النفطي الذي تعد امي طعامنا عليه، كان عاليا لا أستطيع الوصول اليه لإطفائه، وفجأة ساد هدوء مريب ودخلت امي الى فناء الغرفة منكسرة واهنة، ورائحة رئات الخروف التي نسيتها امي في المقلاة تملأ منخريَّ.
قالت بصوت مشحون بالانكسار: لقد ماتوا، ضربهم الله بسيفه الذي رايته مقوسا في السحاب.
انقضت العاصفة فكانت طوابير من الحمالين وعمال ازالة الانقاض يفترشون اكوام الحجارة ويزيحون الاطيان التي انهدت على رؤوس جيراننا، ماتت الام وولدها اليافع، زميلي المقرب في المدرسة، ولم ينج من الحادث الا طفل في المهد، هو ثمرة زواج الام من رجل آخر بعد وفاة زوجها الاول، سقط السقف الخشبي بما عليه من طبقات الطين والقصب والبردي فوق جسر المهد الذي كان ينام فيه الطفل، فشكل فجوة منعت الركام من دفن ابن الثلاثة أشهر، البغال تروح جيئة وذهابا برنين اجراسها الجنائزي. وعلى ظهورها الانقاض، ابناء الحي يجمعون من بين اكوام الطين والتراب ما تبقى من اغراض رخيصة، صحون من الالمنيوم، طناجر نحاسية صدئة، صور صغيرة لمراقد مقدسة، قلائد من الخضروات المجففة منذ الصيف، وبضعة كتب مدرسية ممزقة الاغلفة، هذا كل ما سيرث ابن الثلاثة أشهر عن عائلته.
لم يحل وقت الغروب الا وكان ابي يلقن زميلي ووالدته بقلب أقسى من جلد التمساح اثناء دفنهم في المقبرة القريبة، لان مقابرهم كانت بعيدة عن العاصمة والشوارع مغمورة بالوحول والسيول، كنت الى جانبه لألقي نظرة الوداع الاخير على زميلي، وقف ابي كالببغاء على ارض المقبرة وردد ما ردده الوعاظ قبل ألف سنة بوجه عابس ونظرات متطفلة.
الغي نشيد الصباح المدرسي في اليوم التالي، والقى مدير المدرسة خطبة نعي ودعانا الى سماع تقرير كتبه مدرس مادة الدين لإدارة المدرسة ليلة الحادث.
جاء في التقرير " ان زميلكم الذي مات يوم أمس بحادث انهيار سقف بيتهم، قد كان منذ عودته من العطلة الصيفية الماضية يلح علينا في معرفة الفرق بين موت جنود الاسلام وموت جنود اعدائه، ولم يتوقف عن معرفة مصيرهم والى اين سيذهبون، اللجنة ام للنار؟
ولأنه يتيم وليس له الا امه فقد أنكر عليكم حتى اباءكم مرارا، وكان يقول كلنا ابناء الحياة. وهي التي تمنحنا كرامة وجودنا، فانتبهوا ايها التلاميذ لوساوس الشيطان والا كان مصيركم كمصيره.
كانت عينا مدير المدرسة تلاحق وجهي النحيل، بينما كنت احاول دسه وراء قامات زملائي الاطول مني، ورياح كانون الحادة كالموسى تسلخ جلود انوفنا، حتى اصبحت مثل انوف المهرجين في سيرك يقدم حفلاته في القطب الجنوبي، فيما بدأت اذاننا تتورم من البرد، نظرت الى السماء الملبدة مترقبا قطرة مطر او بريق رعد كي ننصرف الى فصولنا الدراسية قبل ان يطالبني المدير بالوقوف امام زملائي وأدلي بشهادتي التي لا تسره ولا تسر مدرس مادة الدين ولكن السماء كانت بخيلة، نزع زميلي المسيحي ارام صليبه ودسه في جيبي.
ــ لا تخف ما ذنبك انت؟
وغرقت في دوامة الخوف والرفض، كنت أحس بأعضائي تغادر مكانها، مشتيها ان اتقيأ، وحواسي مشوشة، فاذا بيد ابن جارتنا وزميلي الذي قتلته العاصفة تمتد نحوي وتأخذني بعيدا، حتى وضحت الرؤيا. فاذا انا في بناء شاهق، فاخر، يعبق برائحة المطر وهو يعانق امنا الارض، شرفات بأنواع غير محدود من الزهر المحفوف بطيور لم ار مثلها من قبل، ألوان مطرزة بلون ناعم من الموسيقى، ممرات لا متناهيه يكسوها السجاد الاحمر، نساء بارعات الجمال والحركات يرحن جيئة وذهابا دون صوت، سلالم تؤدي الى سلالم ثم الى سلالم اعلى، مبوقون وطبالون، جنود يحملون على اكتافهم فؤوسا واقواسا.
كانت القاعة الكبرى في وسط البناء تشع بضوء مألوف لدي، فكلما كنت اجلس على عتبات سلم بيتنا متأملا حقيقتي ووجودي، يطلع من صدري قنديل كبير يغمرني بضوئه مبددا وحشة العالم، ومحيلا كل الموجودات التي تحيطني الى غبار لا قيمة له.
تقدمت مرتعشا وابن جارتنا الذي مات في العاصفة يسحبني سحبا صوب السلم المؤدي الى القاعة الكبيرة، لم اعد استطيع تذكر ساقيي من الدهشة والترف ، كما انهما قد تحولتا من الرهبة الى خيطين واهيين ، كان همس ضحكة ودودة قد تناهى الى اسماعنا ، ولم نكد نقترب اكثر من الباب الرئيسي حتى احاطنا فتيان بأعمارنا ودلفوا بنا الى الداخل ضاحكين.
ــ اهلا بكم في مملكتي، ملأت هذه الجملة المكان وكأنها تخرج من كل حجر في ذلك البناء الفاخر، اجلسونا على ارائك من ريش، وامتلأ المكان بعطر شفيف، وراح ابن جارتنا يقدمني بلباقة لا تخلو من تمرس، هذا زميلي الذي سيحاول مدير المدرسة ان يجعله شاهد زور عليّ، اعلم انه مثلي لا يريد ما يراد له، ولا يؤمن بقتل بريء من اجل بريء اخر، وجاءني الصوت عميقا ثابتا من خلف ستار على يمين القاعة:
ــ ماذا يعمل ابوك؟
قلت: انه ملقن موتى.
فبادرني
ــ وماذا يلقنهم؟
قلت يلقنهم دينهم وربهم ونبيهم وشهادة ان لا إله الا الله وان محمد رسول الله كي يدخلوا الجنة.
جلجلت قهقهة عالية هزت المكان
فرد علي:
ومن اوصاه بهذا؟
قلت: الله هو الذي اوصاه.
بدأ الحجر والشجر والنساء والجنود يقهقهون مع قهقهة السيد القابع خلف الستار، وشعرت بالإحراج قبل ان تمتد يد دافئة الى وجهي لترفعه الى الاعلى بعد ان سقط من الخجل.
ــ إني انا الله. ولم اوص احدا بما ذكرت، فقل لكل من جعل نفسه وكيلا عني ان الله يقول لكم: اتعظوا من ابيكم الاول الذي لا اعرفه الا سارقا وزانيا، ومن اخيكم الاول الذي لا اعرفه الا قاتلا!
كانت برودة جسدي كافية لسقوطي على ارضية باحة المدرسة، لم افق الا بعد يوم في فراشي الرث، لأرد على اسئلة والدي ومدير المدرسة الذي رابط في غرفتنا ليعرف ماذا حصل لابن جارتنا ولماذا الله انتقم منه؟
: تشجع يا ولد انها مجرد لسعة برد قال والدي، بينما كنت احس شيئا كبيرا ينمو في صدري ويرفع دثاري الى اعلى، وبدأت اخطط الرحلة النهائية للوصول الى تلك المملكة، ساقف على اعلى شرفة فيها واطلب من الخدم ان يأتوني بكل تفاح الدنيا ، ثم انادي بمرور كل النساء اللواتي خلقن في الارض والسماء من تحت شرفتي العالية ، وعندما ارمي بتفاحة على اي منهن، فسيكون على الجنود ان يأتوا بها الى قصري الذي سيكون بلا شك من اعلى قصور مملكة الله ، لأنني لم اقتل ولم ازن ولم اسرق ولم اشهد زورا ، ولكن ماذا افعل لو رفضت احداهن طلبي ؟؟ لالا.. الله سوف يتدخل على الفور ويرغمها على قبولي، هل الله يرغم الناس؟ ربما، ولكنني متقين انه لن يحتاج لشيء من هذا، فحسب ما تعلمته في كتب المدرسة ان الله رحيم يحب الرحماء، والله متسامح ولا يرغم احدا على شيء، اذن تستطيع اي فتاة اختارها ان ترفض طلبي؟
نعم فهي بالتأكيد لها حرية كحريتي في الاختيار.
لا... انني ابالغ في هذا، فنساء مملكة الله خلقن خصيصا ليمتعن الذين يختارهم الرب الى جانبه.
اذن، الى اين ستذهب القبيحات منهن؟؟
وتذكرت ما قاله مدرس الدين عن الذين يذهبون الى الجنة، قال ان الله سيجعلهم غاية في الجمال وريعان الشباب. وقبل ان انتهي من حواري مع نفسي الهائمة، صاح الديك فوق المزبلة القريبة من بيتنا فانسدلت ستارة احلامي وخرجت من جسدي حشرات تشبه نثيثا من الثلج تتطاير صوب السقف وهي تردد ستبقى حمارا ايها الولد.



#حاتم_عبد_الواحد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نحو شجرة الكرز
- في معنى تجارة الكلمة 3
- في معنى تجارة الكلمة 2
- هذا اليوم و تلك البلاد
- في معنى تجارة الكلمة
- عنزة ولو طارت
- الخوزقة الذكية
- انا متشائل
- فقيهان لا يفقهان
- مليشيات و صواريخ وحشيش
- تفاصيل صغيرة من الصورة الكبيرة
- بلبل ال ( دي. ان . اي)
- الرفسة الاخيرة للثور المعمم
- فيل قريش وابابيل خيبر
- موالي مهدوية العراق
- فيل قريش!
- الارضة القطرية!
- صلعميون بهلويون وطورانيون
- مدافع النَّان
- الوجه وماؤه!


المزيد.....




- إسرائيل.. قضاة ومسئولون سابقون يعارضون قانون إعدام أسرى فلسط ...
- الأمم المتحدة: 127شهيدا مدنيا في لبنان بضربات إسرائيلية..
- -من الإغاثة إلى الموت-.. جدل حول مؤسسة غزة الإنسانية بعد إنه ...
- -من الإغاثة إلى الموت-.. جدل حول مؤسسة غزة الإنسانية بعد إنه ...
- العفو الدولية تتهم الدعم السريع بارتكاب جرائم حرب في مدينة ا ...
- جنين.. الجيش الإسرائيلي يعلن قتل فلسطيني واعتقال 5
- فلسطين توقّع اتفاقية البرنامج الوطني التشاركي للصناعة مع منظ ...
- -المنظمات الأهلية- تطالب بإنقاذ النازحين ورفع الحصار عن غزة ...
- اغتيال سلطان الغني في جنين واعتقال خمسة متعاونين معه
- حماس: غزة تغرق في الخيام بسبب الأمطار ونطالب العالم بالإغاثة ...


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حاتم عبد الواحد - ديك المزبلة