للاإيمان الشباني
الحوار المتمدن-العدد: 8546 - 2025 / 12 / 4 - 19:58
المحور:
قضايا ثقافية
هناك أحداث صغيرة تعبر طفولة الإنسان كأنها لا وزن لها، لكنها تستقر في الذاكرة مثل حجر يسقط في بئرٍ عميق، فتظل أصداؤها تتردد إلى الكبر. كلمة عابرة، نظرة استخفاف، تعليق في غير موضعه، تصبح في المستقبل عقداً، تصرفاتٍ حادة، أو مسافات عاطفية يصعب ردمها. يحدث هذا حين لا نحسن اختيار اللغة ولا الوقت، حين لا نفصل بين مخاطبة طفل ومخاطبة شاب، حين يغيب عنا إدراك تأثير الكلمة على نفس غضّة لا تزال تتشكل.
تستوقفني حكاية رجل في الأربعين، عاش طفلاً لحظة جارحة لم يفهمها أحد، وظلت حاضرة في ذاكرته كلما رأى من كانت سبباً في ألمه. كانت الواقعة في مسبح، والمسبح بالنسبة للأطفال عالم فرح وركض وضحك ومنافسة بريئة. غير أن هذا الطفل عوض أن يعيش لحظة لعب، عاش لحظة انكسار.
كانت معه سيدة قريبة منه، وعن غير وعي أفرغت كلماتها في وجهه كمن يسكب السم بلا قصد. فلما حان وقت الطعام قالت له بخشونة: “إيّاك أن تأكل بيديك”، ثم سخرت منه أمام الأطفال: “أنت أصلاً لم تتعلم في بيتكم آداب المائدة… لا تعرف كيف تمسك الشوكة والسكين، أنتم لم تعتادوا على المطاعم ولا تعرفون هذه التقنيات”. قالتها وكأنها تُلقي حكماً مقدساً منزّلاً.
رفع الطفل يده متردداً ليأكل، وفي حلقه غصّة وفي عينيه دمعة محبوسة، فإذا بها تعود لتوبّخه: “ألا تفهم؟ الشوكة تُمسك باليسرى!”. أجابها بعفوية ما تربى عليه: “نأكل باليمين ومما يلينا”. رمقته بنظرة استهزاء: “أنتم لا تعرفون الإيتيكيت… بلدي.. بلدي…”. وتعالى ضحك الأطفال من حوله، فصار مسرحاً للسخرية لا لفرح السباحة. ضحك طبيعي من أطفال لم يتربَّ كثير منهم على الاحترام؛ فمنهم من نسخ نرجسية والديه، ومنهم من يتباهى بما لا يملك، ومنهم من تعلم المجاملة المفرطة، ومنهم من ورث جرأة لسانٍ لا يعرف حدوداً.
وكان يمكن لتلك اللحظة أن تكون درساً لطيفاً، لو قيل له بهدوء: “هكذا يُمسك بالسكين وهكذا تُمسك بالشوكة”. لكن الفرق واسع بين توجيه رقيق، وتوبيخ يهدم ثقة طفل بنفسه أمام من يكبره ويصغره. هذه التفاصيل الصغيرة تُختزن في اللاوعي، ثم تظهر في الكبر تصرفات غريبة لا نفهم مصدرها.
لهذا تحتاج الكلمة منا إلى حكمة، والنصيحة إلى لطف، واللحظة إلى وعي.
ليست كل عبارة تصلح لكل عمر، وليست كل ملاحظة تُقال في أي وقت.
فلننتبه لما نقول وكيف نقول، حتى تُحسب كلماتنا لنا، لا علينا.
#للاإيمان_الشباني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟