سمير حنا خمورو
(Samir Khamarou)
الحوار المتمدن-العدد: 8539 - 2025 / 11 / 27 - 15:53
المحور:
الادب والفن
مسرحية "نمر الفرات الأزرق" اللحظات الأخيرة للإسكندر الاكبر بمواجهة الموت؛ معركته الأخيرة، لكن ليس في ساحة معركة.
تتناول مسرحية "نمر الفرات الأزرق" Tigre bleu de l’Euphrate تاليف الكاتب المسرحي والروائي الفرنسي لوران كوديه Laurent Gaudé، إخراج الكندي دينس مارلو Denis Marleau، اللحظات الأخيرة للإسكندر الأكبر بمواجهة الموت؛ معركته الأخيرة، لكن ليس في ساحة معركة. قدم هذا العرض الممتع والمثير لفترة قصيرة على مسرحين في باريس، وكانت المسرحية قد نشرت عام 2002 من قبل دار النشر (أكت سود) Actes Sud.
المشهد، جدرانٌ مُغطاةٌ بأغطية بيضاء كقبر؛ سريرٌ ضخمٌ كنعشٍ؛ شخصيةٌ متجمدةٌ مُخبأةٌ، تكاد تكون شبحًا، تكاد تكون تمثالًا. ثم ينبثق صوتٌ مكتومٌ من بعيد، كهفيٌّ، أجشّ، يُلقي كلماتٍ تبدو للوهلة الأولى مبهمةً. بهذه التفصيلة التي تبدو بسيطة، نكون هناك بالفعل، على أبواب اللغز العظيم. تخيّل الكاتب لوران كوديه الإسكندر يمضغ أعشاب، التي ستتيح له تأثيراتها الهلوسية رؤية هاديس، إله الموت. كما قد يتمنى المرء رؤية قاضيه.
من خلال مشهد الافتتاحي يأتي صوت من الخارج يعلن "الإسكندر هو من سيرى الموت وهو لا يزال حيًا / سأخبرك بما كنتُ / وستستوعب كل كلمة / سيجعل الإسكندر إله الموتى شاحبًا / أولًا من الدهشة / ثم من النشوة". لقد حُذّرنا، ستكون القصة ملحمية...بعد صمت طويل نسمع صوت الريح وهمسات غير مفهومة.
وفي إضاءة خافتة، يخرج اولا رأس رجل من بين أغطية بيضاء على سرير واسع، ونسمعه يقول وبجمل متقطعة وبرتابة في بعض الأحيان " في العشرين من عمري، قمت بتشكّيل جيشي الأول. لم أكن سوى سيفٍ وفكي نمرٍ مُلطخين بالدماء. بحثتُ عن عدوي في كل مكان. أنا اليوناني والبربري، أنا القاتل. نعم، أحببتُ الشعر والأصول. تأملتُ جمالَ عمارةِ مدينةٍ قبل أن آمر، دون تردد، بتدميرها. والآن أقترب من الغزو، معركتي الأخيرة والنهائية.
"نمر الفرات الأزرق" نوع من السرد بضمير المتكلم، يروي فيه الإسكندر الأكبر، وهو على فراش الموت، في الثانية والثلاثين من عمره، قصته مخاطبًا الموت مباشرةً، ومع الكلمات الافتتاحية يكشف، عن نفسه كخصم والبطل النهائي بمواجهة الموت.
احداث المسرحية تقع في بابل، 11 حُزَيْران/ يونيو عام 323 قبل الميلاد. الإسكندر الأكبر أصابته الحمى، وينتظر الموت، وهو في الثانية والثلاثين من عمره. هو الذي فتح سمرقند وبابل، واستولى على صور، وهزم داريوس، ملك فارس، وأسس إحدى أعظم الإمبراطوريات في العالم، ولكن حانت ساعة الحساب. يخاطب الموت كفاتح، طالبًا منه ألا يُحاكم "بمقياس الأناس العاديين". مؤمنًا بخلود شهرته، يتحدث كبطل، ويتوقع أن يُعامل على هذا الأساس، أن يتركه الموت ان يرحل سالمًا، أن يُؤخذ دون أن يترك أثرًا، تلك البقية الزائلة من الإنسان العادي. عليه الان في هذه اللحظة أن يروي مصيره الاستثنائي ويقنع إلهه. ها هو ذا، وحيدًا مع ظلّ الموت الحاصد، بالكاد يُرى، لكنه سيبتلعه قريبًا. لا بدّ من أن يُعجب الإله، وليس هناك وقتٌ ليضيعه. في مونولوج وصيته، يشارك أفكاره حول الإنسانية والموت والكراهية والصداقة والرغبة. المسرحية تحكي عن أراضي الإسكندر الشاسعة التي احتلها ، ومعاركه العسكرية، وفتوحاته. ويتذكر حصانه «بوسيفالوس» الذي لم يتمكن لا والده الملك فيليب ولا أي شخص آخر بامتطائه، فأمر الملك بذبحه كونه جامح لا يُروّض. غير أنه طلب من والده أن يسمح له بمحاولة تهدئة روعه وركوبه، فقبل الملك وسمح له أن يحاول ترويضه، فنجح وانصاع له الحصان انصياعًا تامًا. وكيف أن الاب من شدّة ابتهاجه بالشجاعة والتصميم الذي أظهره ابنه، قبّله قائلاً: «يا بنيّ، عليك أن تجد مملكة تسع طموحك. إن مقدونيا لصغيرة جدًا عليك»، ثم اشترى الحصان ومنحه لولده. وعن اكتشافه مخططات لاغتياله ، وعن رجال ونساء على مرّ العصور، يتصارعون مع الطموح وشغف الانتصار، يدركون في أعماقهم أن أقوى سلاح للسيطرة على العقول هو الرغبة.
وهكذا يصور الممثل الوحيد على خشبة المسرح (إيمانويل شوارتز) الإسكندر جادًا وحكيمًا، وأحيانًا غاضبًا ومتعاليًا، وهو يحتضر . وقد سبق وان شاهد موت هفستيون، وهو أقرب أصدقائه إليه، فبعد وصوله إلى همدان، أصيب هفستيون،، بمرض عضال لم يُمهله طويلاً حتى فارق الحياة، كان لوفاته أثر مدمّر عليه، فقد حزن عليه حزنًا شديدًا، وأمر بتحضير محرقة جثث كبيرة في بابل حتى يُحرق جثمانه فيها، وأصدر مرسومًا بالحداد العام.
تتناوب المسرحية حكايات بين استحضار الفتوحات، والمعارك التي خاضها الإسكندر، والأراضي التي اجتاحها العدو، العدو اللدود داريوس الذي انتصر عليه وطرده من بابل. وهكذا، يوازن هذا المونولوج الشعري الطويل بين قوة المحارب وقسوته وتعقيد رجل ذي رغبة خارقة، يستهلكه عطش لا ينضب للغزو نحو الشرق.
فمعاناة الإسكندر ليست إرهاقًا؛ بل على العكس، إنها احتفاء بما لا ينطفئ. يموت لأنه لم يتمكن من بلوغ الرغبة المطلقة التي يمثلها الحيوان الأسطوري الذي وجه جيشه نحو الشرق، حيث حافة العالم، والذي يشبه إلى حد ما الحوت الأبيض: "لقد سكن نمر الفرات الأزرق في بطني جوعًا لا ينتهي، شهية وحشية لا يشبعها شيء". انه القلق من المجهول. هذه مواجهة بين الإسكندر الأكبر والموت. الان يخوض معركته الاخيرة: أن يرى الموت وهو لا يزال حياً، وأن يُطالب إله الموت بأن يكشف له وجهه. ولتحقيق هذا الهدف يسرد قصص طفولته وصباه وكيف كان متلهفا ً ليصبح البطل الذي يعلم أنه يجب ان يكونه. يواجه الاسكندر الذي انتصر على كل اعدائه، هذا الموت الذي يستحوذ على كامل اهتمامه كما هو الحال بالنسبة لكل إنسان يعيش مثل هذه اللحظة.
- "أشاهد ظلكَ يتشكّل على الحائط، ظلكَ ينمو. أعلم أن وجه الإله في الأسفل هو هناك". سأخبرك بما كنتُ عليه، وستُدرك كل كلمة، آملاً ألا أموت سريعاً. نعم، سيجعل الإسكندر إله الموتى شاحباً، أولاً من الدهشة، ثم من النشوة.
تتناوب المسرحية حكايات بين استحضار الفتوحات، والمعارك التي خاضها الإسكندر، والأراضي التي اجتاحها العدو، العدو اللدود داريوس الذي أصبح أخًا بابليًا، والخطابات العاجلة والمؤلمة للموت. وهكذا، يوازن هذا المونولوج الشعري الطويل بين قوة المحارب وقسوته وتعقيد رجل ذي رغبة خارقة، يستهلكه عطش لا ينضب للغزو نحو الشرق.
هوسٌ إسكندر هائل يمنحه من القوة، وبما لا يقل ايضا من الهشاشة، لأنه، حتى لحظاته الأخيرة على سرير الموت ، يغرق في استياءٍ مطلق: "أنا أموت جوعًا وعطشًا ورغبة". لذا، فإن رغبة الفاتح غير المحققة هي عذابه، ونصيبه المؤلم من الإنسانية. هذا هو معنى هذا الاعتراف البطولي العظيم والمتناقض، ولكنه مؤثر أيضًا في تواضعه.
العرض المسرحي من اخراج الكندي مارلو إيمانويل، قدم في مسرح لاكولين ، وجسد شخصية الإسكندر الأكبر ببراعة واقتدار الممثل إيمانويل شوارتز، لا يستغرق الأمر سوى ثوانٍ قليلة لإدراك قوة أدائه، سواءً صرخ أم همس، تنويعات نبرة صوته الفريدة، تنقل ثقل الكلمات وجودة رنينها. الممثل يأسر الجمهور بإيماءات جسده التي تشد وتجذب الجمهور إلى الملحمة، مُضفيةً إيقاعًا على السرد، منحنيًا في ألم لحظاته الأخيرة، ارتعاش ذراعه، والتواء ظهره وكتفه. كل عضلة، حتى أنفاسه تبدو متوترة من الألم، والغضب. ولكن، على العكس من ذلك، عندما يستقيم جسم إسكندر ، في استحضار مآثر الماضي متحررًا من قيود المعاناة، يستعيد عظمته في لقطة أخيرة. من آلام الموت الوشيك إلى انتصارات مآثره الدموية، فإن انتقالاته بين الحاضر والماضي رائعة في إتقانها ودقتها.
وعلى الستائر المحيطة بالسرير يتم عرض صور للاماكن التي عبرها الإسكندر اثناء السرد، جفاف الصحراء وعبور الجبال والأنهار او أجواء الإسكندرية الدافئة . هذه اللقطات والصور تساهم في كسر الرتابة في التكوين الصوري للمشهد العام.
المسرحية تأليف لوران كوديه، إخراج دينس مارلو، بطولة إيمانويل شوارتز، التعاون الفني وتصميم الفيديو ستيفاني جازمان، سينوغرافيا المخرج وستيفاني جازمان، وبمساعدة ستيفان لونجبري، تصميم الإضاءة مارك بارنت، الموسيقى فيليب براولت، الأزياء ليندا برونيل
المكياج والشعر: أنجيلو بارسيتي، تصميم المؤثرات الصوتية جوليان ايكلنشر، تنسيق مونتاج الفيديو بيير لانييل، مساعد المخرج كارول آن بورجون سيكارد. مدة العرض ساعة ونصف.
سبق وان اخرج الكندي دينيس مارلو مسرحية "نمر الفرات الأزرق" على مسرح (كوات سو) Quat’Sous في مونتريال عام 2018. وقد عرضت فترة ولمدة محدودة في مسرح لا كولين La Colline في باريس .
يقول المؤلف عن مسرحيته :
"لا بد لي من القول إنني لم أنوِ قط كتابة مسرحية تاريخية مع "نمر الفرات الأزرق". ليس هذا هو المنظور الذي أردتُ تقديمه للإسكندر الأكبر. ما يثير اهتمامي هو أن كل شيء يحترق ويتدفق في داخله. القوى التي تحمله وتمزقه في آنٍ واحد هي نفسها القوى التي تدفعنا جميعًا. بهذا المعنى، يُخاطب الإسكندر ما يغلي فينا. إلا أن كل شيء معه أعظم وأكثر تطرفًا. هل هو بطل أم وحش؟ تتعايش جميع الأضداد فيه ، وتجعل الإجابة على هذا السؤال مستحيلة. إنه كل شيء في آنٍ واحد."
"أكثر ما يُثير إعجابي في الإسكندر هو أنه لم يجد السلام قط. لم يكن كسب المعارك كافيًا بالنسبة له. ولا إسقاط إمبراطورية أو تأسيس مدن. لقد أراد المزيد. أن يتقدم إلى الأمام، أن يصل إلى أقاصي الأرض. هناك شيء فيه يُميزه عن شخصية الفاتح البسيطة، شيء أكثر غموضًا، وأكثر تصوفًا. رغبته لا تُشبع. هذا ما أردتُ أن أضعه في صميم "نمر الفرات الأزرق": مسألة الرغبة. يُذكرنا الإسكندر بأن الرغبة توتر، لا راحة، حالة من النقص، لا رضا. في لحظة الموت، لا تزال هذه الرغبة مُشتعلة في داخله. الرغبة مرارًا وتكرارًا. الانغماس في المجهول، والقيام بذلك تمامًا، دون أن يترك شيئًا خلفه."
"ما يُثيرني في الإسكندر هو سعيه شبه الغامض شرقًا. لو كان هدفه الحكم، لكان قد توقف بعد هزيمة داريوس. كان ذلك إنجازًا مذهلًا، وكفى ليُرسّخ مكانته في التاريخ. فيه ما هو أكثر. شيءٌ أكثر جنونًا. أكثر جنونًا. لا أعرف إن كان الإسكندر الحقيقي كذلك، لكن لا يهم؛ هذا ما يجعلني أحبه: عطشه الذي لا يُروى، وقدرته على طلب الاختفاء التام رغم امتلاكه كل شيء."
عن الكاتب
ولد لوران غوديه عام 1972 في باريس ، التحق بقسم الدراسات المسرحية بجامعة باريس الثالثة السوربون الجديدة في باريس . هناك، ناقش أطروحة ماجستير بعنوان "موضوع الصراع في الدراما الفرنسية المعاصرة". روائي وكاتب قصص قصيرة ومسرحي، في عام 1996، وفي الرابعة والعشرين من عمره، كتب ونشر أولى مسرحياته، "أونيسوس الغاضب" Onysos le furieux ، التي عُرضت على المسرح الوطني في ستراسبورغ، اخرجها يانيس كوكوس عام 2000. تلت ذلك مسرحيته الثانية "رماد المطر" Pluie de cendres التي عُرضت في استوديو الكوميدي فرانسيز؛ ثم مسرحيته الثالثة بعنوان "معركة الممسوسين" Combat de Possédés في عام 1999. تُرجمت إلى الألمانية وعُرضت لأول مرة في مسرح (شاوسبيل في إيسن) بألمانيا ، ثم في مسرح لاندز في لينز، وقُرئت في المسرح الوطني الملكي في لندن؛ ومسرحية "ميديا كالي" Médée Kali في مسرح (رون بوان) في باريس ؛ ومسرحية "المُضحى بهم" Les Sacrifiées في مسرح (أماندييه) في نانتير؛ ومسرحية "الحصى" Caillasses في مسرح (الشعب) في بوسانغ؛ ومسرحية "رقصة موروب" Danse, Morob في (دبلن) ؛ و"نحن أوروبا" Nous, l’Europe و"الليلة الأخيرة في العالم" La Dernière nuit au monde، اللتان عُرضتا لأول مرة في مهرجان أفينيون عامي 2019 و 2021. كتب 18 مسرحية، وآخر ما صدر له "حتى لو مات العالم أو الرحلة الكبيرة جدًا" الرحلة العظيمة بأكملها" Même si le monde meurt ou le tout grand voyage عام 2023.
كما نشر لوران غوديه 12 رواية حتى الان ؛ روايته الأولى، "صرخات" Cris، عام 2001. وفي العام التالي، فاز بجائزة غونكور طلاب المدارس الثانوية وجائزة المكتبات عن روايته "موت الملك تسونغور" La Mort du roi Tsongor . وفي عام 2004، مُنح جائزة غونكور اهم الجوائز الأدبية الفرنسية عن روايته "شمس السكورتا" Le Soleil des Scorta، وهي رواية تُرجمت إلى أربع وثلاثين لغة. ومؤخرًا، مُنح جائزة كتّاب الجنوب عن روايته "الكلب 51" Chien 51 والتي صدرت عام 2022، تم اعدادها للسينما وأخرجها سيدريك خيمينيز Cédric Jiménez، ويعرض الفيلم حاليا في صالات السينما وحصل على جائزة كاستل عن روايته "باريس، ألف حياة" Paris, mille vies.
منذ عام 2013، سافر بانتظام إلى أماكن مثل بورت أو برنس، وكردستان العراق، وبنغلاديش، وغابة كاليه، ومن هذه التجارب، انبثقت مجموعته الشعرية الأولى "من الدم والنور" De sang et de lumière التي نُشرت عام 2017.
#سمير_حنا_خمورو (هاشتاغ)
Samir_Khamarou#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟