سمير حنا خمورو
(Samir Khamarou)
الحوار المتمدن-العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 14:01
المحور:
الادب والفن
لقاءات الصدفة في الفيلم الياباني "السفر والحياة اليومية" للمخرج شو مياكي، شخصيات تعيش الوحدة والحزن.
"السفر والحياة اليومية" Tabi to Hibi الفيلم الياباني الفائز بجائزة الفهد الذهبي في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي لعام 2025، يحمل عنوانًا دوليًا هو "موسمان، غريبان" Two Seasons, Two Stran، سيناريو وإخراج شو مياكي Sho Miyake. السيناريو مقتبس من قصتي مانكا manga ( قصة مصورة يابانية). "السيد بن وكوخ الإسكيمو"، و"إطلالة على شاطئ البحر" من أعمال الرسام والكاتب "يوشيهارو تسوجي" Yoshiharu Tsuge، الذي يُعتبر في اليابان رائدًا في مجال كتابة ورسم القصص المصورة. قام المخرج بتعديل في القصتين بشكل طفيف بتحويل فنان مانكا إلى كاتبة سيناريو، ومع ذلك، فقد حافظ على عمق الموضوع ولغته البصرية. حوِّل المخرج شو مياكي قصتي مانكا إلى فيلم مُتقطّع الحلقات، يُصوِّر فيه العملية الإبداعية لكاتبة سيناريو تدعى "لي" تحاول استيعاب ما يحدث في حياتها، وردود أفعال من هم حولها. فيلم هادئ، إنساني، ويُلقي نظرة ساخرة على عملية السرد نفسها.
وبفوزه بجائزة الفهد الذهبي، تفوق هذا الفيلم على 17 فيلمًا آخر عُرضت في المسابقة الدولية في هذه الدورة. وهو الفيلم الياباني الرابع الذي يفوز بهذه الجائزة، بعد فيلم "نذير الحب" (Ai no yokan) للمخرج ماساهيرو كوباياشي Masahiro Kobayashi عام 2007، وفيلم "موجو" (Mujō) عرض باسم "هذه الحياة العابرة" This Transient Life للمخرج أكيو جيسوجي Akio Jissoji عام 1970، والفيلم الكلاسيكي "بوابة الجحيم" Jigokumon للمخرج تينوسوكي كينوجاسا Teinosuke Kinugasa عام 1954، وهو العام الذي بدأت فيه منح لجنة تحكيم النقاد الدوليين الجوائز الرئيسية الثلاث.
يتكون الفيلم من حبكتين مستقلتين، أو جزئين احدهما في الصيف والآخر في الشتاء. يلعب الموسمان في الفيلم أدوارًا مختلفة. "الصيف" من وحي خيال الشخصية الرئيسية، "لي" كاتبة السيناريو الكورية (شيم إيون كيونغ)، التي تعمل على كتابة أحدث سيناريو لها . في الجزء الأول، تعيش أزمة كتابة، وتحاول التخلص منها، والتواصل مع الثقافة اليابانية الغريبة عليها والتي تعيش داخلها. تُكتب قصة داخل القصة حرفيًا: مقطعًا لفظيًا يابانيًا مكتوبة بقلم رصاص على ورقة، قبل أن تتحول هذه المشاهد إلى فيلم حزين داخل فيلم. تأخذنا القصة الأولى إلى شاطئ البحر في الصيف، حيث نشاهد لقاءً حسيًا بين شخصيتين، شاب وشابة.
يتناوب السرد في الفيلم بين أفكارها وكتاباتها وقصة مراهقين غريبين وحيدين، ناجيسا (يومي كاواي)، وناتسو (مانساكو تاكادا) وهو شاب يزور أقاربه، يلتقيان صدفةً ويقضيان يومًا معًا على شاطئ البحر ناءٍ خلال فصل الصيف، ولكنه غائم وممطر في الوقت نفسه. كانت الشابة قد وصلت لتوها إلى البلدة الهادئة لقضاء عطلةٍ سريعة، تتضمن زيارةً للمتحف المحلي، بينما مكث ناتسو هنا لفترةٍ أطول بعد حثٍّ من أحد أقاربه على الاستمتاع بشاطئ البحر. يحدث تواصل على الفور بينهما، ويتحدثان بصراحةٍ عن قصص الطفولة الحزينة، والطرق الفعّالة للتغلب على الاكتئاب، وشعور تقبّل حياة شخصٍ آخر. قصتهما هي ما تكافح لي لتجسيدها على الورق. وهما بطلا فيلمها.
يروي ناتسو لناجيسا قصةً مرعبةً من طفولته، عن لقاءٍ بجثتي أمٍّ وطفلها الغريقين. تعتقد أنها قصةٌ حزينةٌ أكثر منها مرعبة. يلتقيان مرة اخرى في اليوم التالي، ويتشاركان الحلوى ويسبحان في البحر المتلاطم الهائج، حيث تُبرز قصة حبّ بينهما، وعلى الرغم من نهايتها السعيدة ظاهريًا، ولكنها مصحوبة بإحساس غامضٌ لا يمكن تفسيره بالهلاك. تجد الحياة أوجه تشابهٍ غريبةً مع الخيال، حيث تواجه لي أيضًا مأساةً مفاجئةً مثل ناتسو بعد عرض الفيلم وتحليله.
يغطي التصوير النابض بالحياة لهذا الشاطئ الساحلي الساحر كل مشهد بدرجات اللون الأزرق والأخضر، بينما يظل المونتاج تأمليًا ونابضاً بالحياة ولكنه سريع. لا يخفي المخرج "مياكي" أن هذا الفيلم ليس حقيقيًا. غالبًا ما يقطع إلى لي، كاتبة السيناريو، وهي في صدد كتابة ما نشاهده.
عندما تجلس لي في الجامعة أمام طلاب السينما، إلا أن الفيلم النهائي لا يحظَ قبولا جيدا في عرض جامعي. يعلق احدهم أحدهم على فيلم الصيف الذي شاهدوه للتو: «ليس فيه تحديًا فكريًا، بل مُحفِّز للحواس فقط...يمكن للمرء ان يقول مثير»، بينما تشعر لي بعدم الارتياح عند مناقشة كتابتها للأفلام مع مجموعة من الطلاب وأستاذهم، فإن حواراتها الداخلية مع ذاتها واضحة وعميقة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بصراعها الدائم مع الكلمات. شيء يتعاطف معه الكُتّاب حول العالم. كما في مثل هذا المونولوج الطويل التأملي: "تحدث في الحياة أشياء لا يمكن وصفها بالكلمات. تُذهِلني المفاجأة والحيرة بعيدًا. أريد فقط أن أقف هناك للأبد، بعيدًا عن الكلمات. لكن الكلمات دائمًا ما تُسيطر عليّ دون أن تفشل. الحياة اليومية تدور حول تسمية الأشياء والمشاعر من حولنا والاندماج معها . عندما قدمتُ لأول مرة إلى اليابان، كان كل شيء من حولي مليئًا بالغموض والخوف. الأشياء والمشاعر التي كانت طرية وطازجة في السابق قد حل محلها الكلمات وطغت عليها الآن. أنا في قفص من الكلمات. ربما يكون السفر هو محاولة للابتعاد عن الكلمات."
مع انتهاء قصة الفيلم داخل الفيلم، ينتقل فيلم "السفر والحياة اليومية" إلى بطلته الفعلية. بعد العمل على قصة ناجيسا وناتسو، تجد لي نفسها في حالة من الجمود الإبداعي والوجودي؛ أولًا، لم يُحرز سيناريوها الجديد الذي يركز على النينجا تقدمًا يُذكر، معتقدةً أنها لا تمتلك إلى أي موهبة حقيقية، وأن أسلوبها الوحيد للتعبير هو الكلمة المكتوبة.. وتستنتج بعد وفاة زميل لها "الحياة اليومية تدور حول تسمية الأشياء والمشاعر من حولنا والاندماج بها".
كما لو كانت مندفعة بأمر غامض ، نراها تسافر إلى منطقة شتوية مُغطاة بالثلوج في الجزء الثاني. عالمٌ مختلفٌ تمامًا، بصريًا ولوانيًا وطقسيًا، عن الجزء الأول. لكنها لا تزال تُكافح لإيجاد الكلمات، مُحاولةً كتابة سيناريو جديد، هذه المرة عن النينجا. ولكن لعدم قدرتها على إيجاد سكن في المدينة، تُجبر على الإقامة في نُزُل قديم في قرية جبلية يُديره بينزو (شينيتشي تسوتسومي). وعندما تلتقي به في مشهد ليلي ساحر تتسأل لي: "هل يُمكن أن يكون هذا مكانًا لفيلمها القادم ؟"، وعلى الرغم من مظهره الفظ، يتفهم وحدتها القاسية، بينما تبدو حياته بمثابة مادة واعدة للكتابة. والأهم من ذلك، وكما حدث مع ناجيسا وناتسو، بعد ترددهما الأولي، نشأت بين لي وبينزو علاقة وطيدة. وبينما كان اللقاء الأول صامتًا وحسيًا، دفعها الثاني إلى التأمل في حياتها. الحياة تُعيد صدى الخيال من جديد بطرق غامضة.
يصوّر فيلم فصل "الشتاء " الحياة الحقيقية لبطلة الرواية، التي تبحث عن الهدوء والسكينة خلال عطلتها، بينزو مفتون بعملها ويسعده تقديم النصائح لها. لا يُحبّذ كثرة الكوميديا في النص، فهو يُفضل الدراما ذات الفكاهة اللطيفة. ويقول "على أي حال، أفضل الأفلام هي تلك التي تُصوّر الحزن الإنساني.".
ويجد كل منهما راحة في وحدة الآخر. تسأله عن سبب وجوده وحيدًا في قرية مهجورة - سؤالٌ غير متوقع موجهٌ للرجل ولنفسها - فيُبرر ذلك بأن الجميع قد رحلوا. بينما تقلق لي على مستقبلها، يحاول بينزو الهروب من ماضيه.
يُلمّح المخرج مياكي إلى هذه الوحدة الدائمة التي تُحرّك أبطاله من خلال قواعد بصرية وإيماءات واضحة ومُثيرة، حيث غالبًا ما يختار المصور السينمائي يوتا تسوكيناغا اللقطات الواسعة الثابتة، مما يسمح للشخصيات بالاندماج، إن لم يكن الاختفاء، في الخلفية - مساحات مليئة بالحدود والمشاعر الضمنية. وبالمثل، تُسهم الموسيقى التصويرية المؤثرة ل "هاي سبيك" والمونتاج البارع للمونتير "كيكو أوكاوا" في تجسيد هذه البيئة العاطفية.
ينجح المخرج في إدارة هذا الصمت العميق بين الشخصيات، مما يجعل الفيلم الهادئ مثيرا للاهتمام في غموضه، غموض آسر. جميع شخصياته، الخيالية والحقيقية، تعاني من سوء الحظ. بينزو، الذي هجرته زوجته وطفله. لي، التي تمر بأزمة إبداعية. الشاب والشابة على ضفاف البحيرة، غير محظوظين في الحب. هنا، يتجلى حزن الكاتب يوشيهارو تسوجي، كاتب المادة الأصلية، الذي بلغ به الاكتئاب حدًا جعله يتوقف عن نشر المانكا عام 1987، وهو في قمه شهرته وانتشاره.
فيلم شو مياكي الياباني الجميل، الرقيق، والمليء بالتأملات، يدور حول رحلتنا في الحياة، وصولاً إلى الكتابة وصناعة الأفلام. كما أنه يسلط الضوء على كيف أن بعض أهم الروابط، وأكثر تأملاتنا إقناعًا وتاثيرا، يمكن أن تحدث أو تنشأ من خلال لقاءات غير متوقعة، لقاءات عرضية، وعابرة، صدفة ومع غرباء. كما يتميز الفيلم بالدفء تجاه الحالة الإنسانية القلقة التي تمسك بالإنسان وهو يحاول ان يبدع ، كما يسرد الفيلم الحكاية بهدوء مع إيقاعات متناسقة، مما يجعله عملا سينمائيا مؤثرا وعميقا . هذا النوع من الأفلام لا يكتفي بتجسيد وإضهار المشاعر بأسلوب ملموس على الشاشة، بل يشترك الجمهور باسقاط مشاعره تجاه الأبطال. يسود الفيلم شعورٌ بالسكون والسكينة التي تخفي قلق الشخصيات، ووحدتهم الثقيلة، وانفصالهم عن الواقع والعالم. يتمتع جميع الممثلين بالقدر المناسب من الأناقة والحرج والقسوة ليعكسوا عزلة واغتراب شخصياتهم. إنه فيلم مدروس ومُنسجم مع شخصيتين صامتتين، يأملان في كتابة فصل التالي من حياتهما. لا يتخذ هذا الفيلم منحىً ميلودراميًا ولا يندفع نحو نهاية متواضعة، بل مدمرة وشاعرية. بالنسبة لفيلمٍ يتحدث كثيرًا عن الكلمات، فإنه ينجح في التعبير عن الكثير من الاحاسيس رغم قلة الحوارات . ومع هذا، ان الفيلم أسلوب سرده ليس سهلاً .
بطولة الممثلة الكورية الرائعة شيم إيون كيونغ بدور لي، شينيتشي تسوتسومي بدور بينزو، ويومي كاواي بدور ناجيسا، مانساكو تاكادا بدور بناتسو، وشيرو سانو. يتميز الفيلم ببساطة وجمال لا يُوصف، قريب من قصيدة شعر.
اخراج وسيناريو شو مياكي، مقتبس من قصتين "منظر على شاطئ البحر" و"السيد بن وكوخه الجليدي"، للكاتب الياباني يوشيهارو تسوجي. التصوير السينمائي يوتا تسوكيناغا، مونتاج كيكو أوكاوا. مدة الفيلم ساعة و 29 دقيقة.
عُرض الفيلم في مهرجان سان سيباستيان السينمائي الدولي الثالث والسبعين في 25 أيلول/ سبتمبر 2025. كما تنافس في قسم المنافسة في مهرجان بوسان السينمائي الدولي الثلاثين في 19 أيلول 2025 على "جوائز بوسان". وعُرض أيضًا في مهرجان ساو باولو السينمائي الدولي في 20 تشرين الاول /أكتوبر، وفي 27 تشرين الاول 2025، في مهرجان هونك كونك السينمائي الآسيوي، وسيُعرض بمهرجان ستوكهولم السينمائي الدولي لعام 2025 في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر، وبمهرجان الهند السينمائي الدولي السادس والخمسين في تشرين الثاني 2025. وتم اختياره للمنافسة في مسابقة الأفلام الروائية الآسيوية بمهرجان سنغافورة السينمائي الدولي السادس والثلاثين، في 3 كانون الأول /ديسمبر 2025. كما سيُنافس في قسم مسابقة البحر الأحمر في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، وسيُعرض في 8 كانون الأوّل 2025.
عن المخرج وكاتب السيناريو شو مياكي
وُلِد مياكي في هوكايدو، اليابان، عام 1984. "السفر والحياة اليومية" هو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج "شو مياكي"، وقليلٌ من المخرجين المعاصرين يدركون تمامًا أثر الوحدة والرغبة في التواصل الإنساني كما يفعل هذا المخرج، خاصة عند المرأة. ففي فيلمه الفريد عن الملاكمة "صغير، بطيء لكن ثابت" Small, Slow But Steady، يتتبع قصة كيكو ملاكمة شابة محترفة تعاني من ضعف السمع وتجد الدعم في مدربها المُسن الذي يُعاني من مشاكل صحية ويفقد بصره. عُرض ضمن مسابقة مهرجان لوكارنو عام 2022. وعرض فيلمه الثاني "كل الليالي الطويلة" All The Long Nights، في مهرجان برلين عام 2024 . تعاني ميسا فوجيساوا من متلازمة ما قبل الحيض مرةً شهريًا. خلال هذه الفترة، تحاول السيطرة على انفعالها وفهم زملائها في العمل. وتُقيم صداقة غير متوقعة مع رجل يُصاب بنوبات هلع متكررة. ومن أعماله الاخراجية الأخرى الفيلم الوثائقي الموسيقي "قمرة القيادة" The Cockpit، الذي عرض في مهرجان سينما الواقع في باريس.
#سمير_حنا_خمورو (هاشتاغ)
Samir_Khamarou#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
