|
|
حين تكتب الخطوات نشيدها في البلاد الكبيرة ، قراءة نقدية في تجربة مهند طلال الأخرس ، بقلم بن معمر الحاج عيسى/ الجزائر
مهند طلال الاخرس
الحوار المتمدن-العدد: 8536 - 2025 / 11 / 24 - 00:17
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
«حين تكتب الخطوات نشيدها في البلاد الكبيرة» — قراءة نقدية في تجربة مهند طلال الأخرس.... بقلم بن معمر الحاج عيسى/الجزائر
في زمنٍ تتناسل فيه الكتابات السطحية عن السفر، ويغدو المكان مجرد خلفيةٍ لالتقاط الصور أو استعراض الانبهار السياحي، يأتي كتاب «خطوات صغيرة في بلاد كبيرة» للكاتب الفلسطيني مهند طلال الأخرس ليعيد للرحلة معناها العميق، ويمنح المكان حقّه في أن يكون بطلًا روحيًا لا مجرد مسرحٍ عابر. هذا العمل ليس كتابًا في الجغرافيا، ولا سردًا للانطباعات العابرة، بل هو سيرةٌ وجدانيةٌ لرحلةٍ خارج الجسد وداخل المعنى، رحلةٍ من فلسطين إلى الجزائر، من الذات إلى الآخر الذي يشبهها، من الخطوة إلى الفكرة، ومن المشهد إلى الوعي. يكتب الأخرس كما لو أنه يسير على أرضٍ تُحدثه وتسمع له، فيصير السفر بين السطور مسافةً من الضوء أكثر مما هو عبورٌ في المكان.
منذ الجملة الأولى، يدرك القارئ أن الكاتب لم يأتِ إلى الجزائر كسائح، بل كمحبٍّ يبحث عن ظله في أرضٍ يعرفها بالوجدان قبل أن يراها بالعين. الجزائر بالنسبة له ليست غريبة؛ إنها الوجه الآخر لفلسطين، ومرآتها التي تعكس ملامحها، ولهذا فإن الكتاب كلّه يبدو كوثيقة حبٍّ صامتة بين وطنين جريحين اتحدا في الألم وفي الحلم. يكتب الأخرس بعين من رأى الاحتلال، لذلك يرى الحرية في تفاصيل الآخرين، ويرى البطولة في ملامح الناس العاديين. حين يصف الجزائر، فإنّه يصف فلسطين بطريقةٍ ملتوية، وكأنّه يقول للقارئ إن الوجع العربي واحد، وإن الجمال الذي يُولد من الجراح أكثر صدقًا من الجمال المصطنع.
في نصوص الكتاب، يتجلى المكان ككائنٍ حيّ، يتنفس ويتكلم ويبوح بأسراره. «مقام الشهيد» ليس مجرد نصبٍ تذكاري، بل هو نبض التاريخ ومجسّد الذاكرة التي لا تموت. حين يمرّ الأخرس في «باب الوادي»، يكتب كمن يمرّ في شارعٍ من ذاكرة الطفولة، يسمع أصوات الباعة ووقع المطر وعبق الخبز الطازج، لكنه يسمع أيضًا أنين الأرض التي قاومت ولم تركع. في الجزائر ، المدينة التي تحرس البحر من احلام الغزاة ، يرى وجه الجزائر المعلّق بين الحلم والواقع، بين الصلابة والعذوبة. لا يصف المعالم التي تشتهر بها المدينة فحسب، بل يرى فيها استعارةً جسدية لمعنى التواصل الإنساني بين الماضي والحاضر، بين الجغرافيا والتاريخ، بين الجزائري والفلسطيني، بين الحنين والوجود.
لغة الأخرس في هذا الكتاب تُذكّرنا بلغة الشعراء أكثر مما تُشبه لغة الرحالة، فهي لغةٌ مشغولة بالدهشة، متوترة بالحبّ، مترعة بالإحساس. كل جملة عنده تُنصت إلى ما وراء الأشياء، كأنه لا يريد أن يصف العالم بل أن يعيد خلقه بالكلمات. يقول في أحد المقاطع التي تشبه النَفَس الشعري: «كنتُ أظن أني أسير نحو الجزائر، فإذا بها تسير نحوي، تفتح ذراعيها كأمٍّ تنتظر ابنها الغائب». مثل هذه الجملة لا تصف مشهدًا بل تصنعه، وتكشف كيف يتحوّل المكان عند الكاتب إلى كائنٍ حنونٍ يحتضن الإنسان، وكيف تتحوّل الكتابة إلى فعل انتماء لا إلى فعل توصيف.
الكتاب في جوهره نصٌّ عن اللقاء بين الإنسان والمكان، لكنه أيضًا عن اللقاء بين الذاكرتين الفلسطينية والجزائرية. فحين يكتب الأخرس عن الثورة الجزائرية، فهو لا يكتب عنها كحدثٍ تاريخي، بل كرمزٍ متجدد يوقظ فيه ذاكرة الثورة الفلسطينية، إذ يرى في كل شهيدٍ جزائري امتدادًا لكل شهيدٍ فلسطيني. وحين يتحدث عن بساطة الجزائريين وكرمهم، فإنه يصف تلك الروح العربية التي ما زالت نقية رغم تشوهات السياسة والزمن. لذلك يبدو الكتاب كأنه يعلن: إن العرب ما زالوا قادرين على أن يتعرفوا إلى أنفسهم في وجوه بعضهم.
القيمة الجمالية في هذا العمل تكمن في التوازن الذي يصنعه الأخرس بين العاطفة والمعرفة، بين الشاعرية والوعي النقدي. فهو لا يغرق في الحنين حتى التقديس، ولا يتعامل مع الجزائر كأيقونةٍ جامدة، بل يرى فيها الكائن الحقيقي الذي يعيش تناقضاته اليومية. يرى الفقر فلا ينكره، لكنه يراه بعيونٍ إنسانية، لا بعين الغريب المتعالي. يرى الزحمة والضجيج، لكنه يرى فيها نبض الحياة. يرى العفوية في الناس فيحبّها لأنها تذكّره بأن الإنسان العربي، رغم كل ما خسره، ما زال يملك الدفء في كلماته، والكرم في روحه.
ومن الناحية الأسلوبية، يقدّم الكتاب نموذجًا راقيًا لما يمكن أن نسمّيه أدب الرحلة التأملية، وهو الأدب الذي لا يكتفي بسرد المشاهد، بل يُخضعها لعملية تأملٍ فكريٍّ ووجدانيٍّ عميق. ففي كل محطةٍ يزورها الكاتب، هناك سؤالٌ يطرحه على نفسه وعلى القارئ: ما الذي يجعل المكان حيًّا؟ هل هو التاريخ؟ أم الناس؟ أم العين التي تراه؟ ومن خلال هذه الأسئلة، يتحوّل النص إلى مساحةٍ فلسفيةٍ تُفكّر في معنى الانتماء والذاكرة والهوية. إن «الخطوات الصغيرة» في العنوان ليست سوى استعارة للبحث الوجوديّ، فالكاتب يخطو في المكان كما يخطو في الذات، وكل خطوةٍ هي اكتشافٌ جديد لجزءٍ منه لم يكن يعرفه من قبل.
على مستوى البناء الفني، يتّخذ الكتاب شكل المقاطع القصيرة التي تشبه الموجات المتلاحقة، كل موجةٍ منها تحمل نغمةً جديدة من التأمل. لا توجد فواصل صارمة بين الأنواع الأدبية، فهو نصٌّ يمزج بين المقالة والسرد واليوميات والقصيدة النثرية، مما يمنحه حيويةً خاصة ويجعله مفتوحًا على التأويل. إنه كتاب يمكن قراءته كعملٍ أدبيٍّ بحت أو كوثيقةٍ ثقافية أو كرحلةٍ إنسانية، وفي كل قراءةٍ يظهر وجهٌ جديد له.
ما يلفت في تجربة الأخرس أيضًا هو قدرته على توظيف التفاصيل الصغيرة لبناء المعنى الكبير. فابتسامةُ سائق التاكسي، أو جلسةُ الشاي في مقهى شعبي، أو ضحكةُ طفلٍ في الشارع، تتحول عنده إلى إشاراتٍ رمزية تختصر فلسفة الحياة. هذه التفاصيل ليست عشوائية، بل تُشكل النسيج الحي الذي يبني من خلاله رؤيته للعالم: أن الجمال موجود في البساطة، وأن المعنى يسكن في التفاصيل التي نمرّ بها دون انتباه. وبذلك، يكون الأخرس قد حرّر أدب الرحلات من فخّ الوصف السياحي إلى فضاء التأمل الإنساني.
في قراءةٍ عميقة للعنوان، نجد أن «خطوات صغيرة في بلاد كبيرة» ليست فقط رحلة كاتب في الجزائر، بل هي أيضًا رحلة كل إنسانٍ في هذا العالم الواسع الذي نحاول فهمه بخطواتٍ محدودة. هناك تواضع فلسفي في الاعتراف بأن المعرفة لا تُختصر في القفزات الكبيرة، بل في الخطوات الصغيرة التي نعيد بها اكتشاف العالم والذات. إن «البلاد الكبيرة» ليست فقط الجزائر، بل هي رمزٌ للعالم، للإنسانية، للمساحة التي تتسع للحلم مهما ضاقت الأرض. أما «الخطوات الصغيرة» فهي رمز الإنسان العادي، الكائن الذي يسير بتؤدةٍ لكنه يترك أثرًا لا يُمحى.
ومن زاوية نقدية ثقافية، يمكن اعتبار الكتاب جسرًا بين الأدب الفلسطيني والجزائري، ليس على مستوى الموضوع فقط بل على مستوى الروح الفنية أيضًا. فكما أنتجت الجزائر أدبًا مقاومًا متجذرًا في الأرض والذاكرة، أنتجت فلسطين أدبًا يكتب بالمقاومة كهواءٍ يوميّ، وهنا في هذا العمل يتلاقى الخطّان في نقطةٍ واحدة: الوعي بأن الكتابة فعلُ صمودٍ بقدر ما هي فعلُ حبّ. لهذا لا يبدو الأخرس غريبًا في الجزائر، بل كأنه أحد أبنائها، والكتاب نفسه يبدو كأنه كُتب على ترابها بمدادٍ فلسطينيٍّ ممزوجٍ برائحة زيتون الجليل.
الدهشة التي تصنعها اللغة في هذا النص لا تأتي من البلاغة فقط، بل من صدق التجربة. الكاتب لا يتصنع اللغة ولا يتكئ على الزخرف، بل يكتب بعفويةٍ شاعرٍ يرى العالم للمرة الأولى، وبحكمة إنسانٍ عاش كثيرًا من الفقد فصار يقدّس الجمال حين يجده. لذلك فالنصّ يتأرجح بين الحنين والاحتفاء، بين التأمل والرغبة في التوثيق، فيغدو في النهاية شهادةً على لحظةِ انبهارٍ متواصلة.
من حيث الأثر، يترك الكتاب في قارئه إحساسًا نادرًا بالصفاء، لأن الكاتب نجح في تحويل الرحلة إلى صلاةٍ أدبيةٍ، إلى فعلِ شكرٍ للحياة رغم قسوتها. حين نقرأه، نشعر أننا نرافقه في شوارع الجزائر، نرى ما يرى ونندهش مما يندهش له، لكننا في الحقيقة نسير داخل أنفسنا. هذه هي قوة الأدب حين يكتبه من يؤمن أن الكلمات ليست لتوصيف العالم بل لفهمه.
وفي النهاية، لا يمكن اعتبار «خطوات صغيرة في بلاد كبيرة» مجرد كتاب رحلات؛ إنه بيان أدبي في حبّ المكان والإنسان، شهادة على قدرة اللغة على أن تُعيد بناء العلاقة بين الذات والعالم، ونصٌّ يذكّرنا بأن الكتابة حين تصدر من القلب تستطيع أن تُلغي الحدود بين الأوطان. إن الجزائر في هذا الكتاب ليست مشهدًا بل ذاكرة، ليست وجهةً بل مرآة، ليست وطنًا آخر بل امتدادًا لفلسطين في الروح.
وحين نغلق الكتاب، نكتشف أن الخطوات الصغيرة التي خطاها الأخرس على أرض الجزائر قد صارت فينا نحن أيضًا، وأن «البلاد الكبيرة» ليست سوى الحلم العربي في أن تبقى الروح أكبر من المسافة، وأن تبقى الكلمات قادرة على ترميم ما تهدّمه السياسة. بهذا المعنى، يكتب مهند الأخرس كتابًا لا يُقرأ فقط، بل يُعاش ويُتأمل ويُترك في القلب كأغنيةٍ طويلةٍ عن الحبّ والانتماء.
إنه نصٌّ يشبه الجزائر في كبريائها، ويشبه فلسطين في حنينها، ويشبه الإنسان العربي في بحثه الدائم عن مكانٍ يتّسع لخطواته الصغيرة، وعن وطنٍ لا يزال كبيرًا بما يكفي لحلمه.....
............................................. *«حين تكتب الخطوات نشيدها في البلاد الكبيرة» قراءة نقدية في تجربة مهند طلال الأخرس.... بقلم بن معمر الحاج عيسى/ الجزائر #الجزائر ##فلسطين #خطوات_صغيرة_في_بلاد_كبيرة
#مهند_طلال_الاخرس (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خطوات صغيرة في بلاد كبيرة
-
دلالات العنوان في كتاب خطوات صغيرة في بلاد كبيرة
-
قراءة في كتاب تحت ظل الخيمة -من يكتب يقاوم ومن يقاوم ينتصر-
-
رؤوف مسعد؛ مناضل وكاتب من الزمن الثوري الجميل
-
خطوات صغيرة في بلاد كبيرة؛ مهند الاخرس
-
دلالات العنوان في “تحت ظل الخيمة”
-
تحت ظل الخيمة قراءة نقدية بقلم رائد الحواري
-
الصين؛ عرض عسكري مهيب بمناسبة يوم النصر 80
-
رحلة البحث عن المعنى - سن الغزال -
-
صنع الله ابراهيم، فرادة الاسم والمسيرة
-
غسان كنفاني ، رمز الحضور المكثف 2
-
صباح الخير يا وطن ، رؤوف مسعد
-
الى جدتي هيجر في ذكراها...
-
غسان كنفاني ؛ رمز الحضور المكثف
-
دمشق ؛ رائحة الياسمين الذي لم يَغِب
-
نجم المتوسط؛ رواية تشبه سيرة صاحبها، علي حسين خلف
-
التجربة الثورية بين المثال والواقع، نديم البيطار
-
سيرة ومسيرة عابرة للحدود؛ خوسيه ماخيكا نموذجا
-
وداعاً خوسيه موخيكا
-
قراءة في الفكر السياسي والموقف الوطني عند عثمان ابو غربية، ر
...
المزيد.....
-
بعد تسمم إثر تناول -فطر بري-.. حكم قضائي لفصل أطفال عن والدي
...
-
الإعلان عن -تقدّم جيّد- في محادثات جنيف.. وترامب يتحدّث عن -
...
-
إسرائيل تؤكد مقتل رئيس أركان حزب الله في قلب بيروت
-
انقسام داخلي وحكومة معزولة في فرنسا بعد التصويت على الموازنة
...
-
بنغلاديش تطالب الهند مجددا بتسليم الشيخة حسينة بعد الحكم بإع
...
-
قمة العشرين تختتم أعمالها بأجندة لإصلاح النظام الدولي ورسائل
...
-
العراق - خمسة أحزاب سنية توحد صفوفها بعد الانتخابات
-
يوسف هزيمة: -إسرائيل تسعى الى اتفاق سياسي مع لبنان-
-
أوكرانيا: تعديلات أوروبية على الخطة الأمريكية وروبيو يشيد بـ
...
-
وفد من حماس يبحث بالقاهرة المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق
...
المزيد.....
-
قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير
...
/ رياض الشرايطي
-
نظرية التطور الاجتماعي نحو الفعل والحرية بين الوعي الحضاري و
...
/ زهير الخويلدي
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|