أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حازم كويي - الأحزاب اليمينية تُحوِّل القسوة إلى أمرٍ عادي















المزيد.....


الأحزاب اليمينية تُحوِّل القسوة إلى أمرٍ عادي


حازم كويي

الحوار المتمدن-العدد: 8535 - 2025 / 11 / 23 - 14:20
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ترجمة وإعداد:حازم كويي

تُبيّن المؤرخة الأمريكية داغمار هيرتسوغ* في مقالها الذي نشر مؤخراً«الجسد الفاشي الجديد» مدى الترابط التاريخي الوثيق بين العنصرية والإباحية وكراهية ذوي الإعاقة، وكيف تعود هذه الأنماط القديمة لتظهر بقوة مُقلقة في الحاضر. وكيف تستخدم القوى اليمينية في الولايات المتحدة وألمانيا، العُنصرية وصور العنف الجنسي وكراهية ذوي الإعاقة كأدواتٍ للتعبئة والتأثير السياسي.
ففي الحقبة النازية، جرى تسييس اللذة، من جهة عبر تشجيع العلاقات الجنسية بين من يُعتبرون «آريين»، ومن جهة أخرى عبر تصوير الرجال اليهود «الخطيرين» بصورةٍ إباحية وعدائية. وفي الوقت نفسه، كانت إهانة الأشخاص ذوي الإعاقة وإبادتهم محور السياسة اليوجينية للنظام.

وتشرح هيرتسوغ أن مفهوم «الجسد الفاشي الجديد» ليس مجرد فكرة تأريخية، بل إنه يعود اليوم بصورةٍ مثيرة للقلق. وتُشير إلى أن حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) يُعيد توظيف هذا المنطق المزدوج نفسه:
فـاللاجئون يُقدَّمون كتهديدٍ جنسي، بينما يُشوَّهون الأشخاص ذوو الإعاقة وإقصاءهم من المشاركة المجتمعية.
وتضيف أن حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) يستخدم استراتيجيات فاشية ـ أو بدقة أكبر، استراتيجيات فاشية ما بعد حداثية. فقد أشار بريمو ليفي منذ عام 1974 إلى أن كل عصر يُنتج شكله الخاص من الفاشية. واليوم نراها في هيئةٍ ساخرة وذكية في الأداء.
التعريفات الكلاسيكية للنازية أو الفاشية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، كانت تشمل قومية متطرفة، وعنصرية، وعنفاً ضد الخصوم السياسيين والأقليات «غير المرغوب فيها»، واستخدام الدعاية والرقابة. كُل هذه السمات لا تزال حتى اليوم من الخصائص الجوهرية للفاشية.
وفي الولايات المتحدة نرى ذلك بوضوح: الديمقراطية وعمليات التفاشي تتعايشان جنباً إلى جنب ـ ونحن نشهد هذا كل يوم.
تلك السمات مهمة، لكن مجرد قائمة تحقق لا تُوصِل إلى جوهر المسألة. فالعنصر الحاسم هو وعد اللذة ـ أي التمتع الخاص بخرق المُحرّمات، وتمجيد الجماعة الذاتية، والرفض العدواني لمبدأ المساواة والتضامن الإنساني. في النهاية، يشكّل هذا هجوماً على قيم الثورة الفرنسية: الحرية، والمساواة، والأخوة.

إن هذا الرفض العدواني لمبدأ المساواة في الحقوق الإنسانية يُعد اليوم سمةً محورية للفاشية الجديدة. ويضاف إليه نوعٌ من التحلّل من القيود، أي إعطاء الإذن بالاعتداء على الأضعف وتجاهل قواعد الإنسانية والتعاطف البشري.
وتتحدث داغمار كثيراً عن مفهوم «الجسد الفاشي الجديد»، وتشير به إلى كلٍّ من الواقع المعاصر وفترة الحكم النازي. فكيف تميز هذا المفهوم عن «الجسد الفاشي القديم»؟
فهي ربما ستستخدم تعبير «الفاشية القديمة»، وكما يسميه أومبرتو إيكو بـ «الفاشية البدئية» رغم أنه يمكن القول إن أول أشكال الفاشية الحقيقية كانت تنظيم كوكلوكس كلان (KuKlux-Klan)، وهي منظمة إرهابية من العُنصريين البيض تأسست في ستينيات القرن التاسع عشر بعد هزيمة الجنوب في الحرب الأهلية الأمريكية.

أما الخلفية التاريخية المباشرة للفاشية الألمانية فترجع إلى تسعينيات القرن التاسع عشر. مثالٌ على ذلك هو مُنظّر العِرق ألفريد بلوِتس (Alfred Ploetz)، الذي ألّف كتاباً بعنوان «كفاءة جنسنا»في هذا الكتاب، عارض بلوِتس فكرة حماية الضعفاء، وصاغ مصطلح «نظافة العِرق» ،وهو المقابل الألماني لكلمة «اليوجينية»
كان بلوِتس عنصرياً إلى حدٍّ مروّع، إذ زعم أن البيض أكثر تطوراً من السود، وأن السود أكثر تطوراً من الغوريلا، وأن «الفرع الجرماني» من «الآريين الغربيين» هو الأعلى تطوراً على الإطلاق. إنه عمل واسع النطاق، لكن منذ صفحاته الأولى يتناول أيضاً موضوع الجنس.
بلوِتس يشير إلى الإسبارطيين الذين كانوا يقتلون الأطفال المرضى أو الضعفاء أو ذوي الإعاقة. وفي الوقت نفسه يصف ممارساتهم الجنسية: فقد كانوا يرقصون عُراة، ويمارسون العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج. وإذا كان هناك رجل مُسنّ ثريّ متزوّج من امرأة شابة، وأُعجب بـرجلٍ شاب «شجاع»، فإنه كان يسمح له بمضاجعتها حتى ينجب منها طفلاً «نقيّاً» من «بذره النبيل»، بينما يتبنّى الزوج ذلك الطفل ويعتبره ابنه.
صاغ بلوِتس خيالاً حول شكل مدينة فاضلة قائمة على نظافة العِرق ـ أي خطة أولية استند إليها النازيون لاحقاً. كان هناك مزيج عاطفي متشابك بين وعد اللذة والرغبة في الموت، وممارسات «اليوثاناتية»، والتحرّش الجنسي المثير للانتهاك. باختصار، كان ذلك حلماً مشحوناً جنسياً لأمة خالية من ذوي الإعاقة وقوية الأداء.
كانت السياسة الجنسية للنازيين بعيدة كل البعد عن الرقابة أو التحفظ، فقد دعمت وأسست للسعادة الجنسية المغايرة، لكن فقط للأشخاص الآريين غير المُعاقين وغير المثليين. ولم يكن بلوِتس الوحيد، فحتى لدى إرنست هايكِل (Ernst Haeckel)، عالم الأحياء الألماني الآخر، يمكن العثور على أفكار مماثلة.
لكن في العهد النازي ـ على عكس الإسبارطيين ـ تم قتل المثليين أيضاً.
في البداية، كان لدى هتلر أصدقاء مثليون. لاحقاً، ولإسباب مختلفة، أراد إقصاء الـ SA (شبيبة الحزب النازي شبه العسكرية) لضمان دعم الجيش وسلطته كقائد(macht Führer). كان على إرنست روم، قائد ال SA، أن يُقضى عليه لأسباب سياسية- تكتيكية، واتضح أن الحجة المعادية للمثليين كانت فعّالة جداً وسهلة الفهم لدى العامة.
ثم تولى هاينريش هيملر السلطة ـ وهنا يظهر عامل الصدفة أو الاحتمالية: كان هيملر مهووساً بالكراهية ضد المثليين وطبّق سياسة صارمة ضدهم. وكانت هذه السياسة مُتجذرة أيضاً في كراهية المثليين الموجودة مسبقاً لدى السكان.
إذا نظرنا اليوم إلى كيفية إستمالة بعض الرجال المثليين من قبل أقصى اليمين (سواء من قبل AfD "حزب البديل من أجل ألمانيا" أو مثلًا لدى فانسJ.D. Vance نائب الرئيس الأميركي عندما يتحدث عن «المثليين الطبيعيين»)، بينما يشن حرب ضد المتحولين جنسياً ومن لا يتوافقون مع المعايير الجندرية، فإننا نرى صحة ما قاله ثيودور دبليو. أدورنو عام 1950: أهداف الكراهية قابلة للاستبدال. فالمشكلة الحقيقية ليست في الهدف، بل في الاحتياجات النفسية وحسابات السلطة لدى الكارهين أنفسهم.
بمعنى آخر، يمكن تخيّل أن «الجسد الفاشي البدئي»» قد تم تصوره في تسعينيات القرن التاسع عشر، و«الجسد الفاشي الجديد» في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وما نراه اليوم عند AfD أو ترامب وآخرين يمكن اعتباره النسخة «ما بعد الفاشية».
نعم، هذه إمكانية تتكرر داخل الديمقراطيات. كنا نظن أن مثل هذه البشاعات السخيفة قد انتهت، وأنها لم تعد مقبولة اجتماعياً. لكن لا، ها نحن هنا مجدداً.
وتضيف داغمار، إن عنصر النقاء لم يعد يلعب الدور المركزي اليوم. ففي بعض الحالات، يُدرج أشخاص من ألوان بشرة مختلفة ضمن المجموعة الجديدة، وحتى بعض التجاوزات الجنسية تُعرض كجزء من اللذة نفسها. إذن، الأمر لا يقتصر على المحافظة أو التمسك بالتقاليد، بل العنصر الغالب الآن هو التظاهر بالقوة والسيطرة والهيمنة.
لقد شهد AfD تطوراً واضحاً في لغة صورِها البصرية:
أولاً، كانت هناك مرحلة مرحة ومرتبطة بالدعابة ـ عنصرية ضمنياً، لكنها مُجنسة بطريقة لُعبية، مع صور نساء جميلات على الشاطئ، وشعارات مثل: «الحجاب؟ نحن نفضل البكيني» أو «الحجاب؟ أنا أفضل الخمر البوردو»، أو «ألمان جدد؟ نصنعهم بأنفسنا»، مُصوّرة مع بطن امرأة حامل مغرية وجذابة جنسياً.
ثم جاءت مرحلة التخويف: تحذير من الرجال ذوي البشرة«البُنية» و«السود» كتهديد جنسي ـ وهو موضوع تستخدمه أحزاب أخرى أيضاً ـ لكن ما يُميّز AfD هو مرافقة هذا التحذير بعرض أجساد نسائية عارية. هذا هو ما يُسمّى فعلياً «العنصرية الجذّابة جنسياً». مثال: ظِل رجل يحمل سكيناً يُهدد امرأة شقراء مُقيدة إلى جهازالتدفئة، كما في أفلام الرعب.
في عام 2019، عرض حزب AfD مُلصقاً ضخماً يحمل الرسالة: «حتى لا تتحوّل أوروبا إلى « Eurabien»وتعني (صيغة نظرية المؤامرة التي صاغتها الكاتبة البريطانية غيزيل لتمان،تحت أسمها المستعار،تصف رؤية مستقبلية مُهددة،مفادها أن أوربا ستكون تحت سيطرة العرب.المترجم). كانت الصورة مُستوحاة من صورة استعمارية لجان- ليون غيروم: رجال داكنو البشرة يفحصون أسنان امرأة عارية ـ لوحة كانت في القرن التاسع عشر تُعرض كإباحية للرجال البيض لأنها تمكّن من الجمع بين اللذة والغضب معاً. نفس المنطق ظهر في دعاية النازيين مثل مجلة Stürmer، حيث كانت النساء العاريات تُصوَّر وكأنهن مُهددات من رجال يهود. في الماضي كانت إباحية معادية للسامية ـأما اليوم فنجد إباحية معادية للمسلمين في مثل هذه الصور.
أحدث التطورات تجاوزت التخويف، والآن نحن أمام حزب AfD الألماني يُعبر عن المتعة من تأذية الآخرين. مثال: فيديو بالذكاء الاصطناعي لأغنية «Remigration Hit» مع لحن جذاب يقول: «هي، الآن حان الوقت، سنطردهم جميعاً». الفيديو لا يظهر أي تهديد، بل رجالاً مُضطهدين ومهانون يُفترض أن لهم خلفية مهاجرة ـ أفريقية أو عربية ـ يتم حشرهم في مئات الطائرات بواسطة طيارين «آريين» ومضيفات راقصات، ثم يُطردون بعيداً في السماء الزرقاء. هذه الصورة تعبّر عن التفاخر بالنصر والسيطرة المطلقة.
وتضيف من إن أحزاباً ألمانية أخرى تلجأ أحياناً إلى موضوع التخويف، لكن لغة صورها أقل «جاذبية جنسياً» بكثير مقارنةً بـ AfD. من يُشبه استراتيجية AfD أكثر، هي وزيرة الأمن الداخلي الأمريكية، كريستي نويم. على سبيل المثال، ظهرت وهي تتخذ وضعية سيطرة أمام رجال مهاجرين محتجزين في أقفاص ـ وتم تعرية أجسادهم خصيصاً للتصوير.
السبب الجوهري في هذه الأزمة، يرتبط بالمرحلة التي وصل إليها النظام الرأسمالي اليوم. كثير من الناس يشعرون بعدم الأمان، وأنهم لا يتقدمون إلى الأمام، ويطرحون أسئلة وجودية أساسية: ما معنى حياتي؟ ماذا أملك؟ ماذا أستطيع أن أحقق؟ويبدو المستقبل مغلقاً، وهذا يولّد إحساساً بالتهديد الوجودي.
هنا تدخل الخطابات اليمينية التي تروّج لـ«الرجولة الحقيقية» القائمة على التستوستيرون(هرمون جنسي) والسيطرة. فهي من جهة تتظاهر بالتحذير من المسلمين المهاجرين بوصفهم يقمعون النساء، لكنها في الوقت نفسه تعيد إنتاج تراتبية جندرية خاصة بها وتغذي خيالات القوة والهيمنة الذكورية.
في إطار «الجسد الفاشي الجديد»، يكتسب هذا كله معنى: إنّه جسد مُتَخيَّل متوتر جنسياً، مهووس بالقوة الذكورية، ويحوّل أزمة الرجولة في ظل الرأسمالية إلى مشروع سياسي قائم على السيطرة والعنف والتمييز.
يتجذر هذا القلق في فهم الفرد لهويته الجنسية ووجوده. عندما يصبح العمل والحياة الجنسية صعباً، أو عندما يعجز الشخص عن العثور على شريك أو عيش حياة ذات معنى، تنشأ أزمة عميقة. وفي هذه الحالة، تصبح الإجابات البسيطة جذابة جداً.
ما تسميه سيمون ستريك بـ «عالم الرجال» (Manosphere) يوضح كيف ينحدر بعض الرجال إلى السياسة اليمينية: فهم يبحثون على مواقع المساعدة الذاتية عن نصائح حول كمال الأجسام، التغذية، الفيتامينات، والتحسين الذاتي، وكذلك عن إجابات على أسئلة مثل: «كيف أقترب من النساء؟» أو «كيف أتقدم مهنياً؟». هناك عروض متكررة لـتحسين الحياة تُسهّل على الأفراد الانزلاق نحو أيديولوجيات يمينية شعبوية ومتطرفة.
من خلال هذه العروض، يصبح من الأسهل على الناس الانجراف إلى الرسائل اليمينية: «الرجال بُنيوالبشرة يأخذون منك كل شئ» أو «هم كسالى، يحصلون على إعانات، وأنت مضطر للعمل». تصبح الشكوك الوجودية وكأنها تجد إجابات سهلة وسريعة.
ثم تظهر شخصيات مثل إيلون ماسك، التي تبدو غريبة نفسياً، لكنها ناجحة بشكل مذهل ـ صورة مثالية يرغب كثيرون في محاكاتها: مال، سلطة، نساء، أطفال، وذكاء مزعوم. وفي الوقت نفسه، ينتهك القيم التقليدية ويعرض نفسه حسب الحاجة إما كمفكر حكيم أو كضحية مصاب بالتوحد والاكتئاب. ويستغل كل فرصة متاحة للتلاعب والتأثير على الآخرين.
توضّح هذه الأمثلة كيف تستند الخطابات اليمينية الحالية إلى الصور النمطية التاريخية المُحددة. فعلى سبيل المثال، في طلب إحاطة للبرلمان الألماني عام 2018، تناول AfD ادعاءات حول «زيجات محارم» في العائلات المهاجرة ـ وهو موضوع ظهر سابقاً في الخطاب المعادي للسامية في عشرينيات القرن العشرين، حيث كان يُزعم أن هذه الممارسات تؤدي إلى زيادة عدد الأطفال ذوي الإعاقات العقلية.
كان كارل بايندينغ (قانوني) وألفريد هوخه (طبيب نفسي) قد أصدروا عام 1920 كتاباً بعنوان «إطلاق التدمير على الحياة غير الجديرة بالعيش»، الذي أصبح خطة أولية للنازيين ومرجعاً لعقود لاحقة. كان الكتاب يدعو إلى قتل الأشخاص ذوي الإعاقة استناداً إلى حجتين رئيسيتين:
الاشمئزاز: «هؤلاء ليسوا بشراً، إنهم مثيرون للاشمئزاز».
الاقتصاد: «تكلفتهم عالية جداً».
لم تكن هذه الحُجج تشكّل تهديداً مباشراً على الأشخاص الضعفاء فحسب، بل كانت أيضاً هجوماً على القدرة الإنسانية على التعاطف مع المحتاجين أو الأضعف. واليوم نرى هجوماً مماثلاً على التعاطف الإنساني ـ إذ يُفترض أن لا يتضامن الناس مع اللاجئين أو الأشخاص ذوي الإعاقة، ويُستفاد من إثارة الاشمئزاز تجاه كلا المجموعتين لتحقيق هذا الهدف.
في عشرينيات القرن العشرين، كان الأمر مشابهاً، لكن الصورة المُستهدفة كانوا اليهود، الذين كان يُزعم أنهم يزاولون «زيجات محارم» كثيرة. وكان الرجوع إلى زواج الأقارب بين اليهود استراتيجية لجعلهم يظهرون ككائنات دونية ومنحرفة، وفي الوقت نفسه يُضفي على الموضوع إثارة فضولية أو شعوراً بالفرح المراهق voyeuristic frisson. مع أن زواج الأقارب كان ويظل ممارسة موجودة في أجزاء واسعة من العالم، بين أبناء العمومة من الدرجتين الأولى والثانية، ما يُظهر أن الهدف السياسي كان إنتاج صورة العدوّ المُنحرف والمُستبعد اجتماعياً أكثر من كونه وصفاً دقيقاً للواقع.
نرى حججاً مشابهة في تغطية وسائل الإعلام الغربية، وخصوصاً الألمانية، لغزة. فصور الأطفال الجائعين تُقابل أحياناً بتفسيرات حول الأمراض الوراثية أو زواج الأقارب، وكأن المسؤولية تقع على الفلسطينيين أنفسهم، بدلاً من التركيز على سياسة التجويع الإسرائيلية.
إذا كانت الأمراض الوراثية أو غيرها موجودة، فإن المتضررين يحتاجون إلى مزيد من الغذاء والرعاية الطبية والاهتمام ـ وليس إلى إنقاص المساعدات. مع ذلك، تم توجيه طاقة هائلة لتغيير العلاقات السببية وتبرير معاناة الفلسطينيين، وهذا تصرف وحشي. تخلق وسائل الإعلام الحديثة ارتباكاً هائلاً، وتمحو الواقع، وتمكّن يومياً من نشر العنف والغضب. كان الكثيرون يظنون أن العنف لم يعد ممكناً إخفاؤه لأنه قابل للتصوير، لكن الواقع أن كل شيء يُعاد تغليفه والدفاع عنه، وتظهر الحجج المضادة في خضم فوضى من التصويرات المتناقضة.
يمكن ملاحظة آليات مشابهة في أعمال أدورنو بعد خمس سنوات من الحرب العالمية الثانية. فقد أنكر الناس قتل اليهود، وفي الوقت نفسه زعموا أنهم كانوا هم السبب ـ وهو أمر غير ممكن، لكنه قدم باعتباره بديهياً وصحيحاً. هذه الخليط من الإنكار والتبرير وفقدان المسؤولية يكشف عن بوصلة أخلاقية ضائعة تماماً. يبدو أن القدرة على التعاطف قد أُلغيت.
مثل هذه الآليات ـ التخفيف من خطورة المعاناة، إلقاء اللوم، وفقدان التوجيه الأخلاقي ـ ما زالت موجودة اليوم، وتعتبر كارثية.
وهنا يظهر ارتباط مباشر بما تُسميه داغمار«الجسد الفاشي الجديد»: إذ يُستخدم العنف النفسي والرمزي، والإثارة العاطفية، والتلاعب بالمشاعر الإنسانية لإعادة إنتاج الصور النمطية العنصرية والتحكم في المجتمع عبر الخوف والكراهية والتعصب.
تُظهر هذه الأمثلة كيف يتم حقن مصطلحات مثل «الترحيل العكسي» (Remigration) في النقاش العام بشكل مُتعمد، حتى تفقد تأثيرها الصادم، ثم يتم تبنيها دولياً من قبل شخصيات مثل دونالد ترامب وتنفيذها فعلياً.
يدل هذا على كيفية عمل السياسة اليمينية اللغوية: إذ تُستَخدم اللغة لإعادة تطبيع العنف والقسوة، وإدخال مصطلحات متطرفة إلى النقاش اليومي بحيث تصبح مألوفة ومقبولة تدريجياً.
أحد أكبر المخاطر في هذا التطبيع هو أن القسوة تصبح عادية، والغضب والهيمنة يُنظر إليها على أنها طبيعية. مثال واضح هو ترامب، الذي صوّر نفسه مؤخراً كضابط قاسٍ في نهاية العالم الآن، وأعلن عن «حرب» على شيكاغو، مع ترحيل جماعي: «أحب رائحة الترحيلات في الصباح…».
مثال آخر هو فيديو «ترامب-غزة»، الذي كان في الأصل سخرية سياسية وتجربة ذكاء اصطناعي. سياقه: اقترح ترامب بناء «ريفييرا الشرق الأوسط» في غزة، وأن تتولى الولايات المتحدة المنطقة وتُنفي الفلسطينيين نهائياً. بعد غضب عالمي، تصرف كما لو أنها فكرة إبداعية صغيرة فقط وتراجع عن الاقتراح.
وهذا يبين كيف تُستخدم اللغة كأداة للتهدئة، التحايل، وإضفاء الشرعية على سياسات عنيفة، وما يرافقها من خطر تطبيع العنف وإزالة الحس الأخلاقي تجاه الضحايا.
بعد ثلاثة أسابيع، نشر ترامب الفيديو بنفسه على منصته Truth Social، ما أعطى سخرية خفيفة من تصرفاته الغريبة معنى جديداً. ميوله نحو الذهب المزخرف، والنساء الجميلات، وصداقته مع نتنياهو ـ وهي صورة للسلطة والاستهلاك، مع بطون ممتلئة على الشاطئ ـ ظهرت الآن كـ تبجّح مهيمن وسلطوي. وفي بعض اللقطات يظهر رجال عرب مُلتحون يرقصون رقصة البطن، ما يذكّر بحملات ترامب المناهضة للمتغيّرين جنسياً ويعيد إنتاج كليشيهات استشراقية. هؤلاء الرجال تُنزع عنهم إنسانيتهم ويُحوَّلون إلى أشياء، بينما يخفي الفكاهة الرسالة الحقيقية للسيطرة والهيمنة.
من خلال إعادة نشر الفيديو، عادت خطة ترامب للسيطرة وإعادة تشكيل قطاع غزة إلى دائرة النقاش العام. بعد فترة، انتهت الهدنة القصيرة، وأدى الحصار إلى مجاعة واسعة. قبل أسابيع قليلة، ومع تحذير نتنياهو بأن مدينة غزة قد تُدمّر، تمت مناقشة خطة ترامب مرة أخرى: يمكن إعادة توطين مليوني شخص، وإنشاء ثماني «مدن ذكية» جديدة مُخططة بالذكاء الاصطناعي تحت الإدارة الأمريكية، بينما يستمر الدمار في غزة يومياً. الرسالة من الفيديو هي أن كل هذا يُمكن الضحك منه ـ المشهد مفزع ومشوّه للواقع الذي نعيشه.

داغمار هيرتسوغ*: هي مؤرخة أمريكية وأستاذة للتاريخ في جامعة مدينة نيويورك. صدر لها كتاب بعنوان «الجسد الفاشي الجديد» عام 2025 عن دار Wirklichkeit Books.



#حازم_كويي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- «الاشتراكية ليست طوباوية – إنها مفعمة بالحياة»
- الجيل زدّ يتظاهر في جميع أنحاء العالم
- الإرث السياسي ل«أفقر رئيس في العالم»
- زهران ممداني: انتصار اشتراكي في نيويورك
- وجهة نظر ماركس عن الديمقراطية
- زوهران ممداني: «الاشتراكي الذي يريد أن يغيّر نيويورك»
- نحن نصنع التاريخ
- العقل يتفوّق على الذكاء الاصطناعي
- -مسألة الحزب-
- الولايات المتحدة والذكاء الاصطناعي: «هيمنة تكنولوجية عالمية»
- الذكاء الأصطناعي، ذكي لكن للأسف غير مربح
- هل تحتاج نظرية الفاشية إلى تجديد؟
- إنجلز: العقل المنظم وراء النظرية الماركسية
- سر التجربة الصينية: من الفقر إلى أضخم طبقة وسطى في العالم
- ماركس نصيرٌ للديمقراطية
- -النرويج تشهد تقدماً لليسار الجذري-
- حزب اليسار الألماني :نحن الأمل
- كارل ماركس كسياسي: «الفرنسيون بحاجة إلى جَلدْ»
- -نيتشه والتمرد: بين النقد الثقافي والتقدّم بعد 125 عاماً-
- قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه «عداء الجماهير»


المزيد.....




- اتفاق يهدئ خلافات الأغنياء والفقراء بمؤتمر المناخ في البرازي ...
- م.م.ن.ص// مجلس الأمن يلقي بما تبقى من رماد حق الشعوب في تقر ...
- تل أبيب.. آلاف المحتجين يطالبون بلجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 ...
- Afro-Descendant Communities Offer a Living Blueprint for Ama ...
- Monday, November 24 — Palestinian Community Leaders and Huma ...
- الشاب محمد يحيى يظهر بعد 5 سنوات من الاختفاء القسري
- المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي ينظم أربعينية ا ...
- بسبب فريق إسرائيلي.. اشتباكات بين الشرطة الإيطالية ومتظاهرين ...
- السودان: تصاعد التضامن الدولي لوقف الحرب
- «الديمقراطية»: تصاعد وحشية وجرائم الإحتلال وقطعان المستوطنين ...


المزيد.....

- المجتمع الإشتراكي يدشّن عصرا جديدا في تاريخ الإنسانيّة -الفص ... / شادي الشماوي
- النظام الإشتراكي للملكيّة هو أساس علاقات الإنتاج الإشتراكية ... / شادي الشماوي
- الإقتصاد الماويّ و مستقبل الإشتراكيّة - مقدّمة ريموند لوتا ل ... / شادي الشماوي
- النضال الآن في سبيل ثورة اشتراكية جديدة / شادي الشماوي
- الماركسية والمال والتضخم:بقلم آدم بوث.مجلة (دفاعا عن الماركس ... / عبدالرؤوف بطيخ
- الأسس المادية للحكم الذاتي بسوس جنوب المغرب / امال الحسين
- كراسات شيوعية(نظرية -النفايات المنظمة- نيقولاي إيڤانو& ... / عبدالرؤوف بطيخ
- قضية الصحراء الغربية بين تقرير المصير والحكم الذاتي / امال الحسين
- كراسات شيوعية(الفرد والنظرة الماركسية للتاريخ) بقلم آدم بوث2 ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (العالم إنقلب رأسًا على عقب – النظام في أزمة)ق ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حازم كويي - الأحزاب اليمينية تُحوِّل القسوة إلى أمرٍ عادي