أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حازم كويي - «الاشتراكية ليست طوباوية – إنها مفعمة بالحياة»















المزيد.....


«الاشتراكية ليست طوباوية – إنها مفعمة بالحياة»


حازم كويي

الحوار المتمدن-العدد: 8530 - 2025 / 11 / 18 - 15:01
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


بيلي دراغستيد* من الحزب الدنماركي الأحمر-الأخضر يتحدث عن كتابه الجديد «الاشتراكية الإسكندنافية».

ترجمة: حازم كويي


في السنوات الأخيرة ازداد الاهتمام بالاشتراكية من جديد، وغالباً ما كان هذا الاهتمام مدفوعاً بتصاعد عدم المساواة، وأزمة المناخ، وفشل السياسات النيوليبرالية. لكن كيف تبدو الاشتراكية عندما تكون موجودة بالفعل في مؤسسات الحياة اليومية؟
بيلي دراغستيد، عضو البرلمان الدنماركي (Folketing) عن حزب إنهيد سليستن الأحمر-الأخضر، يرى أن النموذج الإسكندنافي يمثل إجابة على هذا السؤال، إذ يحتوي بالفعل على عناصر ديمقراطية وجماعية أصيلة. وقد نال كتابه «الاشتراكية الإسكندنافية» (Nordisk Socialisme)، الصادر عام 2021، إشادة نقدية واسعة في بلده، وأثار نقاشاً عاماً واسع النطاق، من ضمنه سلسلة من عشر حلقات نُشرت في صحيفة Information. وبعد فترة وجيزة تُرجم الكتاب إلى اللغة السويدية، وها هو أخيراً يصدر بالإنكليزية أيضاً.

في كتابه، يحلل دراغستيد تجربة الدنمارك الاقتصادية والسياسية بوصفها أساساً لإعادة التفكير في إستراتيجية اليسار، ويقدّم تأويلاً جديداً لها، يقوده إلى نتائج غير تقليدية. فهو يرى أن التصور القائل إن المجتمع مُهيمن عليه بالكامل من قبل الرأسمالية يمنع اليسار من تطوير بدائل اشتراكية حقيقية للرأسمالية، كما يُخفي القيمة الكامنة في مؤسسات مثل الشركات التعاونية والقطاع العام غير الخاضع لمنطق السوق.
يؤكد دراغستيد أن مجتمعاتنا في الواقع مزيج من الرأسمالية والاشتراكية (بنسب تختلف من بلد لآخر)، وأن السعي لإسقاط الرأسمالية واستبدالها بالاشتراكية قد يكون عكسيّاً في نتائجه، إذ يعرقل الإصلاحات الجذرية التي يمكن أن تعزز الطابعين الديمقراطي والاشتراكي في المجتمع. وانطلاقاً من هذا التحليل، يقترح عشر إصلاحات تهدف إلى بناء اقتصاد أكثر ديمقراطية بشكل واضح.
ومع صدور النسخة الإنكليزية من كتابه عن دار نشر جامعة ويسكونسن (University of Wisconsin Press)، قام الكاتب بجولة ترويجية في الولايات المتحدة. وخلال جولته، أجرى حواراً مع ديرويان فيرتل حول كتابه، والدوافع وراءه، والطريق نحو اقتصاد ديمقراطي في الدنمارك وسواها.

دورويان فيرتل: كتابك «الاشتراكية الإسكندنافية»، كما جاء في الترجمة الإنكليزية الجديدة، يتناول التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدنمارك وغيرها من البلدان الإسكندنافية، إضافة إلى المشاريع التي تسعى نحو بناء اقتصاد أكثر ديمقراطية. كما يتطرق إلى نقاشات فلسفية وسياسية أوسع تتعلق باليسار – مثل قضايا الحرية والديمقراطية، وكذلك الإستراتيجية الاشتراكية – ويقدّم مقترحات عملية لتعزيز الاشتراكية الديمقراطية. ما الذي دفعك إلى تأليف هذا الكتاب، وماذا تأمل أن تحقق من خلاله؟

بيلي دراغستيد: نشأ هذا الكتاب من شعور بالإلحاح. أصبح من الواضح أكثر فأكثر أننا لا نستطيع الاستمرار في السماح للرأسمالية بالهيمنة على اقتصادنا – ليس فقط لأنها ظالمة، بل لأنها تقوّض أسس الديمقراطية نفسها، كما نرى في الولايات المتحدة.
إن تركّز الثروة، وهو سمة أساسية في النظام الرأسمالي، يؤدي إلى نشوء سلطةأوليغارشية، بحيث لم يعد النفوذ السياسي يستند إلى تفويض ديمقراطي، بل إلى السيطرة على الثروة والاقتصاد. وهذه ليست عَيباً عرضياً في الرأسمالية، بل خاصية جوهرية ناتجة عن طبيعة علاقات الملكية فيها.

الاشتراكية: من الطوباوية إلى الواقع
دورويان: لكن من السهل انتقاد الرأسمالية – فقد كان اليسار دائماً بارعاً في ذلك. يزداد عدد الناس الذين يوافقون اليوم على أن نموذجنا الاقتصادي الحالي غير قابل للاستمرار. فلماذا إذن لا توجد أغلبية تؤيد التحول نحو نموذج اقتصادي أكثر عدالة وديمقراطية، نحو ما نسميه الاشتراكية؟

بيلي: يعود ذلك، من بين أسباب أخرى، إلى أن اليسار بارع جداً في ممارسة النقد وإطلاق الشعارات العامة حول التغيير الاشتراكي، لكنه أقل قدرة على تقديم بدائل واقعية أو الإجابة على الأسئلة الصعبة المتعلقة بكيفية ديمقراطية الاقتصاد والعمل وأجزاء من السوق.
لقد اعتُبرت الاشتراكية، لفترة طويلة جداً، فكرة طوباوية لا علاقة لها بنضالاتنا اليومية – لا في البرلمانات، ولا في النقابات، ولا في الحركات الشعبية. كانت دوافعي لكتابة هذا الكتاب هي جعل الاشتراكية أكثر واقعية، وأكثر فهماً وإمكانية للتطبيق. أردت أن أخرجها من عالم اليوتوبيا وأجعلها جزءاً من انخراطنا اليومي في التغيير.
أنا سعيد جداً بأن الكتاب يُنشر الآن باللغة الإنكليزية، فهذا هو الوقت المناسب لذلك. فالعالم اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى بديل ملموس عن النيوليبرالية الوسطية وعن الشعبوية اليمينية. أنا حالياً في الولايات المتحدة، حيث عادت الاشتراكية الديمقراطية إلى الواجهة مجدداً بعد فوز زهران ممداني في الانتخابات التمهيدية في نيويورك [لانتخابات العمدة في 4 نوفمبر]. إذا تمكن كتابي من مساعدة الاشتراكيين الديمقراطيين حول العالم على الترويج بفاعلية أكبر لبديل اشتراكي، فسيكون ذلك نجاحاً عظيماً.

دورويان: بفضل دول الرفاه القوية تاريخياً ومستويات العدالة الاجتماعية المرتفعة نسبياً، تُعتبر البلدان الإسكندنافية في الغالب نموذجاً تقدّمياً يُحتذى به ــ ولكن عادةً بوصفها شكلاً من “الرأسمالية الودودة”. ومن المفارقات أن نقطة الانطلاق في كتابك كانت تقريراً صدر عن إدارة ترامب عام 2018، وصف فيه الدول الإسكندنافية بأنها “اشتراكية”. فهل كان ترامب على حق؟

بيلي:هذا في الواقع أحد المحاور الأساسية في كتابي: يمكن للاشتراكيين أن يتعلموا الكثير من تجربة الدول الإسكندنافية. لكن هذا الأمر لم يُعترف به داخل أوساط اليسار، مما جعل من الصعب علينا الدفع باتجاه تحوّل اشتراكي حقيقي.
في الحقيقة، مصطلح “الاشتراكية الإسكندنافية” صاغه ترامب نفسه. ففي ولايته الأولى، نشر البيت الأبيض تقريراً يحذر صراحة من “الاشتراكية الإسكندنافية”. كان ذلك رداً على سياسيين تقدميين في الولايات المتحدة مثل بيرني ساندرز وألكسندريا أوكاسيو- كورتيز، اللذين ذكرا الدنمارك وغيرها من البلدان الإسكندنافية كمصدر إلهام لرؤيتهما للاشتراكية الديمقراطية.
في الدنمارك، قوبل هذا الوصف بالرفض على نطاق واسع عبر الطيف السياسي كله، فقد وصفه وزير خارجيتنا بأنه “سخيف”. حتى كثيرون في اليسار الدنماركي رفضوا هذه التسمية. لكن إحدى الرسائل الرئيسية في كتابي هي أن فوكس نيوز وترامب، بل وحتى بيرني ساندرز، كانوا على حق أكثر مما نودّ الاعتراف به عندما ربطوا الدول الإسكندنافية بالاشتراكية. فمن وجهة نظري، يحتوي النموذج الإسكندنافي بالفعل على عناصر اشتراكية قوية. وإذا اعترفنا بهذه الحقيقة، يمكننا أن نبني مستقبلاً أكثر عدالة وديمقراطية.

الاشتراكية هنا والآن

دورويان: ما الذي تعنيه عبارة «الاشتراكية الإسكندنافية» بالنسبة لك؟ وكيف تختلف عن أشكال الاشتراكية الأخرى؟

بيلي: إذا عرّفنا الاشتراكية بأنها تنظيم النشاط الاقتصادي على أساس الديمقراطية والملكية الجماعية، فإن الدول الإسكندنافية أقرب إلى الاشتراكية من الولايات المتحدة مثلاً. ففي هذه الدول، يوجد قطاع عام ضخم يشمل الرعاية والتعليم والصحة، وهو مملوك ومُدار من قبل المجتمع لا من قبل الرأسماليين. يتم تمويل هذا القطاع من خلال ضرائب تضامنية، لا من خلال آليات السوق. في البلدان الإسكندنافية، يعمل نحو ثلث العاملين في القطاع العام غير الربحي.
لكن الملكية الديمقراطية لا تقتصر على القطاع العام فحسب، بل تمتد أيضاً إلى القطاع الخاص، حيث توجد تقاليد عريقة من التعاونيات والجمعيات التبادلية والمنظمات التي يملكها العمّال أو المنتجون الصغار أو المستهلكون ويديرونها بأنفسهم. فعلى سبيل المثال، ثاني أكبر سلسلة متاجر في الدنمارك – Coop – مملوكة لاثنين مليون من زبائنها. وعندما نتسوق هناك، لا تذهب الأرباح إلى جيب شخص مثل جيف بيزوس. كثير منا لديهم قروض أو تأمينات أو حسابات ادخار لدى بنوك تعاونية أو جمعيات تبادلية، وكلها مملوكة بشكل جماعي. وفي الدنمارك، تُدار شقة من كل خمس شقق من قبل جمعيات إسكان غير ربحية.
أنا لا أقول إن هذه القطاعات تمثل يوتوبيا اشتراكية؛ فهي تواجه تحديات كبيرة. لكن ما يميزها هو أنها تُدار بطريقة ديمقراطية، وتُوزع الأرباح على الأعضاء بدلاً من أن تتراكم في أيدي نخبة صغيرة. إنها تقاوم السلطة الأوليغارشية بدل أن تعززها.
إذن، أستخدم مصطلح «الاشتراكية الإسكندنافية» بمعنيين: وصفيّاً ومعياريّاً. من الناحية الوصفية، الاقتصاديات الإسكندنافية هي أكثر اشتراكية من اقتصادات مثل الولايات المتحدة. ومن الناحية المعيارية، تمثل هذه التجربة رؤية لمستقبل اقتصادي أكثر اشتراكية، يقوم على التقاليد الإسكندنافية في الملكية العامة والتعاونية، ويعمل على نزع الطابع السلعي عن قطاعات واسعة من الاقتصاد.

أهمية مسألة الملكية

دورويان: إن معظم المقترحات التاريخية الواعدة لتوسيع نطاق ما يسمى بـ«الاشتراكية الإسكندنافية» – مثل مشروع الديمقراطية الاقتصادية في الدنمارك أو خطة ميدنر في السويد – لم تُنفَّذ بالكامل أبداً. وبدلاً من ذلك، ترسخت النيوليبرالية في بلدان الشمال الأوروبي على مدى العقود الماضية، مما أضعف دولة الرفاه وغيرها من المؤسسات الديمقراطية والاجتماعية. كيف يبدو الوضع اليوم في الصراع بين النيوليبرالية و«الاشتراكية الإسكندنافية»؟

بيلي: بلغ النموذج الإسكندنافي ذروته في سبعينيات القرن العشرين، حين ازدهرت دولة الرفاه وكان للقطاع التعاوني دورٌ أساسي في الاقتصاد. بل وُضعت حينها خطط لإحداث تحول جذري في نظام الملكية من خلال ما سُمِّي بـ«الاشتراكية الصندوقية» (Funds Socialism)، حيث كان من المقرر أن تنتقل ملكية الشركات الكبرى إلى صناديق تُدار من قبل العمال. لكن منذ ذلك الحين بدأ الهجوم النيوليبرالي المضاد على الاشتراكية الإسكندنافية،إذ توسعت الملكية الرأسمالية عبر الخصخصة وتقليص أجزاء من دولة الرفاه.
إحدى الرسائل الرئيسية في كتابي هي أن فشل الديمقراطية الاجتماعية يعود إلى أنها لم تتحدى نموذج الملكية الرأسمالية بالقدر الكافي من الحزم. فقد بقيت قوة اقتصادية هائلة في أيدي النخبة المالكة، وعندما سنحت لها الفرصة، استخدمتها لضرب مكاسب العمال والمجتمع. وهذا درس أساسي: عندما نصل نحن الاشتراكيين إلى السلطة، يجب أن تكون أولويتنا تقويض السلطة الأوليغارشية من خلال تعزيز أشكال الملكية الديمقراطية داخل الاقتصاد.
ومع ذلك، فإن النموذج الإسكندنافي، رغم أربعة عقود من الحصار النيوليبرالي، لم يُهزم تماماً بعد. فما زال هناك قطاع واسع منزوع الطابع السلعي، تُقدَّم فيه خدمات الصحة والتعليم والرعاية من قبل الدولة. كما أن القطاع التعاوني ما زال قوياً في مجالات السكن والتمويل والزراعة.
وهذا يبيّن مدى صعوبة محو هذه المكاسب بالكامل. فالتجربة الإسكندنافية تُظهر أن العلاقة بين الملكية الديمقراطية (الاشتراكية) والملكية غير الديمقراطية (الرأسمالية) ليست علاقة ثابتة، بل يمكن تغيير مزيجها، وبالتالي تغيير ميزان القوى الاقتصادية والاجتماعية.

دورويان: وقد تحققت هذه الإنجازات التقدمية إلى حدٍّ كبير في ظل الحكومات الاجتماعية الديمقراطية خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكنك، إلى جانب انتقادك لتخلي الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية عن هذا الطموح الإصلاحي، تندد أيضاً بالطوباوية الثورية لليسار الراديكالي كأحد أسباب ضعف القوى الاشتراكية الديمقراطية في بلدان الشمال. بل وتذهب أبعد من ذلك، إذ تدعو إلى نهج تسميه «التدرّجيّة» (Gradualismus) بدلاً من التقسيم التقليدي بين الإصلاحية والثورية. هل يمكن أن تشرح ذلك؟

بيلي: في مطلع القرن العشرين، كانت الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية تعلن بوضوح أن هدفها بناء اقتصاد اشتراكي، وكانت الإصلاحات التي شرعت فيها موجّهة نحو هذا الهدف. لكن مع مرور العقود، تراجع هذا الطموح تدريجياً، واليوم تخلّت الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية تماماً عن أي محاولة لتغيير نموذج الاقتصاد القائم.
غير أن الأزمات المالية المتتالية أفرزت من داخل اليسار موجة جديدة من الاشتراكية الديمقراطية التحويلية، تجسّدت في شخصيات مثل جيريمي كوربن وبيرني ساندرز، وفي حركات وأحزاب مثل بوديموس في إسبانيا ودي لينكه (اليسار) في ألمانيا. هذه الحركات تبعث فيّ الأمل لأنها أعادت إحياء فكرة الإصلاحات العميقة – لا مجرد إعادة توزيع الثروة، بل تغيير في بنية الملكية نفسها. فقد طرح كل من ساندرز وكوربن فكرة نوع من “الاشتراكية الصندوقية” على غرار خطة ميدنر، وهي فكرة أتناولها أيضاً في كتابي.
وأنا أرى كتابي جزءاً من هذه الحركة: نوعاً من الاشتراكية الديمقراطية الجذرية التي تجمع بين أفضل ما في الاشتراكية الديمقراطية الكلاسيكية والطموح نحو إصلاحات هيكلية عميقة. لأن تجربة بلدان الشمال الأوروبي تُعلّمنا أن أي إصلاح اجتماعي يبقى هشّاً وسهل التراجع عنه ما لم يترافق مع تغيير جذري في علاقات الملكية.

المُجتمع الهجين

دورويان: من الجوانب الأساسية في أطروحتك أنك ترى أننا لا نعيش في ظل نظامين متعارضين بالكامل، الرأسمالية والاشتراكية، بل في مجتمع «هجين» تتعايش فيه عناصر من كلا النظامين. وتتهم اليسار – سواء الإصلاحي أو الثوري – بأنه يروّج لفكرة مضلّلة وغير مجدية تعتبر الرأسمالية نظاماً شاملاً يهيمن على كل شئ. هل يمكنك أن تشرح كيف توصلت إلى هذه الفكرة؟

بيلي: جاء الإلهام الأول لهذه الفكرة من مقال قرأته قبل خمسة وعشرين عاماً، لمفكرتان ماركسيتان تكتبان معاً تحت الاسم المستعار غيبسون- غراهام. في مقالهما، تشكّكان في الطريقة التي يميل بها اليسار عادة إلى النظر إلى الرأسمالية بوصفها نظاماً عضوياً شاملاً ومتماسكاً، لا يمكن إنهاؤه إلا من خلال ثورة كبرى تستبدله بنظام شامل جديد هو الاشتراكية. وتجادلان بأن هذا الفهم للرأسمالية جعل من شبه المستحيل تخيّل، أو تحقيق، انتقال اشتراكي تدريجي خطوة بخطوة.
لذلك اقترحتا تعريفاً أضيق للرأسمالية، بوصفها النظام الذي يشمل فقط ذلك الجزء من الاقتصاد القائم على استغلال قوة العمل. وبناءاً على هذا التعريف، يوجد أيضاً مجال خارج الرأسمالية، يضم أشكالاً مختلفة من الاقتصاد الجماعي والديمقراطي. ويمكن توسيع هذا المجال ليصبح قاعدةً للاشتراكية المستقبلية.
منذ ذلك الحين، ظللت أفكر في هذه الفكرة، وازداد اقتناعي بأن ما نراه في البلدان الإسكندنافية يوضح بجلاء أنه لا يمكن القول ببساطة إن «كل شئ رأسمالي».
كانت هذه هي نقطة الإلهام الأولى بالنسبة لي. ثم اكتشفت لاحقاً أن عالم الاجتماع الأمريكي إيريك أولين رايت توصّل بدوره إلى استنتاج مشابه: أن المجتمعات هي في الواقع مزيج من أنظمة إنتاج متعددة، وأنه يمكن العمل على زيادة نسبة العناصر الاشتراكية داخل هذا المزيج.

دور القطاع التعاوني

دورويان: يشكّل القطاع التعاوني الواسع جزءاً من هذا المزيج، وله تاريخ طويل وقوي في الدنمارك. ومع ذلك، لا يزال على التعاونيات العمل ضمن سوق رأسمالية والتنافس فيه، كما أن اقتصادات الدول الإسكندنافية كانت دائماً معتمدة بشكل كبير على الصادرات، ما يزيد من صعوبة هذا التحدي. فكيف يمكن لهذه القطاعات من «الاقتصاد الديمقراطي» أن تبقى صامدة أو حتى تنمو في ظل الخضوع للضغوط الرأسمالية داخلياً وخارجياً؟

بيلي: تاريخنا يوضح أن الجزء الديمقراطي من الاقتصاد قادر على النمو ودفع الرأسمالية جانباً. فقد حدث ذلك على مدى نحو قرن كامل، من سبعينيات القرن التاسع عشر حتى سبعينيات القرن العشرين، رغم مقاومة كبيرة من الرأسماليين. ولا شك أن العولمة تمارس ضغطاً على هذا الجزء الديمقراطي من الاقتصاد، وخصوصاً على التعاونيات الزراعية.
لكن فيما يتعلق بالتعاونيات، من الخطأ الاعتقاد بأنها لا تستطيع المنافسة مع الشركات الرأسمالية. فالأبحاث أظهرت أن التعاونيات تنافس بفعالية، وغالباً ما تكون أكثر إنتاجية ومرونة، وفي الوقت نفسه تقدم أجوراً أعلى. كما يمكننا استخدام أدوات سياسية لتعزيز القطاع الديمقراطي، مثل منح التعاونيات أولوية في المناقصات العامة.
دورويان: قد يفاجئ البعض موقفك المتشكك تجاه التركيز التقليدي لليسار على التأميم، والاقتصاد المُخطط، ودور الدولة بشكل عام. بدلاً من ذلك، تفضل التركيز على التعاونيات، وصناديق الثروة الاجتماعية، وقطاع مدني ديمقراطي أوسع لبناء الاشتراكية. هل يمكنك توضيح أسباب ذلك؟

بيلي: بالطبع، لنبدأ بمسألة الملكية. السؤال هو: إذا أردنا استبدال الملكية الخاصة الرأسمالية بالملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، لمن ستنتمي الشركات والبنوك وغيرها؟
تاريخياً، كان الاشتراكيون ينطلقون من مفهوم الملكية الشعبية. لكن التجارب مع هذا النوع من الاشتراكية لم تكن، بصراحة، ناجحة جداً. فهي تؤدي حتماً إلى مركزية هائلة، كما أنها شكل مجرد جداً من الملكية. على سبيل المثال، كانت المصانع في ألمانيا الشرقية تُسمّى «المؤسسات المملوكة للشعب»، لكن العمال لم يشعروا أبداً بأنهم أصحابها الحقيقيون. وهذا يفسّر سبب قلة الاحتجاجات عندما تم خصخصة الشركات العامة في أوروبا الشرقية.
أما الأشكال الأكثر مباشرة للملكية – مثل التعاونيات، وصناديق العمال، وغيرها من النماذج – فهي من وجهة نظري أكثر جاذبية، لأنها لامركزية أكثر وتمنح الأعضاء فيها سلطة أكبر. هذا لا يعني أنني أرفض الملكية الشعبية، بل على العكس، يجب أن يكون هناك ملكية شعبية أكثر مما هو موجود حالياً. لكنني أرفض فكرة أن الاشتراكية تعني شكلاً موحداً للملكية. بدلاً من ذلك، أنا أؤيد مزيجاً من أشكال مختلفة للملكية الديمقراطية.

مسألة القدرة على العمل

دورويان: في الوقت نفسه، تقول إننا ينبغي أن نحافظ على بعض عناصر السوق أثناء بناء الاشتراكية. هل يمكنك توضيح ذلك أكثر؟

بيلي: لا أعتقد أن اقتصاداً فعالاً في تخصيص الموارد ممكن من دون أسعار وسوق. لكن يجب تقليص المجالات الاقتصادية التي تعتمد على السوق، وفي القطاعات التي نستخدم فيها آليات السوق، يجب وضع قواعد صارمة لتجنب الآثار السلبية للتبادل السوقي.

دورويان: جانب مهم في كتابك ليس واضحاً تماماً، وهو مسألة القدرة على التنفيذ: من يستطيع دفع الرأسماليين للتخلي عن سلطتهم وأرباحهم، وكيف؟ فمثلاً، تكاد لا تذكر النقابات كفاعل أساسي في التغيير الاجتماعي. كما أن العديد من مقترحاتك تعتمد أساساً على التشريعات أو الحماية البرلمانية، ما يثير خطر نهج «من الأعلى» تقوده الدولة في التغيير الاجتماعي. فكيف يمكن تنفيذ الإصلاحات التي تقترحها عملياً مع الحفاظ على الطابع الديمقراطي والتعددي؟

بيلي: هذه أسئلة مهمة وصعبة جداً. من الواضح أن الإصلاحات التي أقترحها تتطلب دعماً واسعاً من المجتمع ومن منظمات العمال. ليس فقط لأن للعمال دوراً أساسياً في ديمقراطية العمل، بل أيضاً لأن الطبقة الرأسمالية ستقاوم هذه التحولات بقوة. فالنموذج الإسكندنافي نفسه لم يكن ليُقام بدون أحزاب عمالية قوية ونقابات فعّالة.
وبالنظر إلى مقاومة النخبة المالكة، فأنا أدعو إلى إصلاحات تدريجية. فكل إصلاح يقلل من النفوذ الأوليغارشي للنخبة يجعل من الأسهل تمرير الإصلاح الأكثر راديكالية بعده. فعلى سبيل المثال، إذا عززنا البنوك الاستثمارية العامة أو أنشأنا صناديق عمالية ديمقراطية ذات رؤوس أموال كبيرة، فإننا نصبح أقل عرضة لهروب رأس المال.

دورويان: هل تُمثل «الاشتراكية الإسكندنافية» حقاً اشتراكية؟ في كتابك لا تذكر شيئاً عن «الإطاحة» بالرأسمالية، ولا حتى دعوة معتدلة لـ«تجاوزها» سلمياً. بدلاً من ذلك، يبدو أنك تكتفي بتقوية الجوانب «الديمقراطية» في الاقتصاد، بينما تُسمح للجوانب الرأسمالية بالاستمرار. بعد نشر كتابك في الدنمارك عام 2021، اتهمك بعضهم – وليس فقط من اليسار – بأنك تكتفي باقتراح إصلاحات ديمقراطية طفيفة، سبق أن سعت إليها محاولات فاشلة، دون تغيير جوهري في الاقتصاد الرأسمالي. ماذا تقول لأولئك الذين يشككون في أن مشروعك اشتراكي حقاً؟ وهل هو كذلك؟

بيلي: نعم، بالتأكيد – طالما عرفنا الاشتراكية بأنها اقتصاد تُدَار فيه الملكية بطريقة ديمقراطية، وتستند السلطة فيه في المجتمع والاقتصاد إلى الديمقراطية وليس إلى ثروة قلة قليلة.
أنا أرفض فكرة أن الاشتراكية والرأسمالية نظامان منفصلان تماماً. فالاعتقاد بأن بعض الإصلاحات تتم «داخل الرأسمالية» هو، من وجهة نظري، مضلل. المسألة الأساسية هي كيفية نقل السلطة من الرأسماليين إلى الشعب – من سلطة أوليغارشية إلى سلطة ديمقراطية. ويتم ذلك عن طريق نقل ملكية وسائل الإنتاج من القلة إلى الجماعة.
الأمر دائماً خليط من الاثنين. وحتى في الدول الإسكندنافية اليوم، لدينا اقتصاد تتداخل فيه العلاقات الاجتماعية الرأسمالية. أما اقتراحي فهو اقتصاد تُسيطر فيه العلاقات الاجتماعية الاشتراكية، بقيادة ديمقراطية.
في كتابي أقدّم عشرة مقترحات لإصلاحات اشتراكية عميقة، أقسمها إلى فئتين: الفئة الأولى تتعلق بديمقراطية الملكية وتوزيعها، والفئة الثانية تهدف إلى تقليص تأثير السوق ونزع الطابع السلعي عن مزيد من القطاعات الاقتصادية – بحيث تتحول السلع مثل الرعاية الصحية، والنقل العام، والاتصالات إلى حقوق اجتماعية، ليتم تحرير الناس من ضغوط السوق.
هذا هو جوهر «الاشتراكية الإسكندنافية»: ليست يوتوبيات بعيدة، بل خبرات من الحياة الواقعية يمكننا استثمارها لبناء عالم أفضل للجميع.

بيلي دراغستيد* هو نائب في البرلمان الدنماركي ومتحدث باسم حزب اليسار إنهيدسليستن – الحمر والخضر، ويُعتبر أحد أبرز المفكرين المنظرين داخل حزبه.



#حازم_كويي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجيل زدّ يتظاهر في جميع أنحاء العالم
- الإرث السياسي ل«أفقر رئيس في العالم»
- زهران ممداني: انتصار اشتراكي في نيويورك
- وجهة نظر ماركس عن الديمقراطية
- زوهران ممداني: «الاشتراكي الذي يريد أن يغيّر نيويورك»
- نحن نصنع التاريخ
- العقل يتفوّق على الذكاء الاصطناعي
- -مسألة الحزب-
- الولايات المتحدة والذكاء الاصطناعي: «هيمنة تكنولوجية عالمية»
- الذكاء الأصطناعي، ذكي لكن للأسف غير مربح
- هل تحتاج نظرية الفاشية إلى تجديد؟
- إنجلز: العقل المنظم وراء النظرية الماركسية
- سر التجربة الصينية: من الفقر إلى أضخم طبقة وسطى في العالم
- ماركس نصيرٌ للديمقراطية
- -النرويج تشهد تقدماً لليسار الجذري-
- حزب اليسار الألماني :نحن الأمل
- كارل ماركس كسياسي: «الفرنسيون بحاجة إلى جَلدْ»
- -نيتشه والتمرد: بين النقد الثقافي والتقدّم بعد 125 عاماً-
- قبل 125 عاماً رحل فريدريش نيتشه «عداء الجماهير»
- حركة -اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً- ((MAGA


المزيد.....




- الجزائر: ندعم أية مبادرة للوساطة بين المغرب وجبهة البوليساري ...
- متضامنون مع الطالب حسام محمود
- وفد من حزب التقدّم والاشتراكية يزور ورش ميناء الداخلة الأطلس ...
- المكسيك: احتجاجات شبابية ضد السياسات الأمنية
- “البوابة نيوز” تقطع الخدمات عن الصحفيين المعتصمين للمطالبة ب ...
- الفصائل الفلسطينية: قرار مجلس الأمن غطاء أمريكي لفرض وصاية ع ...
- «الديمقراطية»: قرار مجلس الأمن 2803 أمام الاختبار العملي
- الجبهة الشعبية ترفض قرار مجلس الأمن وتعتبره وصاية جديدة على ...
- صوفيا ملك// إجماع تطلقه أعلى مؤسسة دولية
- حزب اليسار يشترط حقائب وزارية في حكومة حمراء خضراء


المزيد.....

- الأسس المادية للحكم الذاتي بسوس جنوب المغرب / امال الحسين
- كراسات شيوعية(نظرية -النفايات المنظمة- نيقولاي إيڤانو& ... / عبدالرؤوف بطيخ
- قضية الصحراء الغربية بين تقرير المصير والحكم الذاتي / امال الحسين
- كراسات شيوعية(الفرد والنظرة الماركسية للتاريخ) بقلم آدم بوث2 ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (العالم إنقلب رأسًا على عقب – النظام في أزمة)ق ... / عبدالرؤوف بطيخ
- الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي: الربح، السلطة، والسيطرة / رزكار عقراوي
- كتاب الإقتصاد السياسي الماويّ / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(النمو السلبي: مبدأ يزعم أنه يحرك المجتمع إلى ا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (من مايوت إلى كاليدونيا الجديدة، الإمبريالية ا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (المغرب العربي: الشعوب هى من تواجه الإمبريالية ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حازم كويي - «الاشتراكية ليست طوباوية – إنها مفعمة بالحياة»